ملخص
مع صعود ترمب مجدداً إلى البيت الأبيض بدت الرسوم مرشحة للاستمرار كأداة ضغط اقتصادي جيوسياسي وليست مجرد خلاف تجاري قصير الأجل.
بدأت ملامح مرحلة جديدة من تداعيات الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة تعود إلى المشهد الصناعي العالمي عبر ضغوط متصاعدة على سلاسل الإمداد، لا سيما في قطاع التكنولوجيا وصناعة السيارات الكهربائية.
وعلى رغم إشارات التهدئة الدبلوماسية الأخيرة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والقيادة الصينية، فإن المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أن الرسوم الجمركية لم تعد مجرد أداة عقابية أو ضغط تفاوضي، بل تحولت إلى عنصر إعادة هندسة في خرائط الإنتاج والتمركز الصناعي داخل أكبر سوقين اقتصاديين في العالم.
جذور حرب الرسوم… من 2018 إلى محاولات التهدئة في 2025
وتعود بدايات الحرب التجارية إلى عام 2018 عندما بدأت الإدارة الأميركية بفرض رسوم جمركية واسعة على واردات الصين بحجة حماية الصناعات الأميركية ومنع نقل التكنولوجيا القسري.
ومع نهاية 2019 توسع نطاق العقوبات التجارية ليشمل قطاعات استراتيجية مثل الإلكترونيات والاتصالات والبرمجيات والآلات الصناعية، تزامناً مع القيود المفروضة على شركة "هواوي" وغيرها من الشركات المرتبطة بتكنولوجيا الاتصالات.
وشهد عام 2020 ما يشبه الهدنة الموقتة عبر توقيع "المرحلة الأولى" من الاتفاق التجاري، لكن جائحة (كوفيد-19) أعادت خلط الأوراق مع تزايد الطلب على سلاسل إمداد أكثر تنوعاً وأقل اعتماداً على الصين، بينما بقيت الرسوم سارية في معظمها من دون تخفيف، مما جعلها سياسة بنيوية وليست ظرفية.
ومع صعود ترمب مجدداً إلى البيت الأبيض بدت الرسوم مرشحة للاستمرار كأداة ضغط اقتصادي جيوسياسي وليست مجرد خلاف تجاري قصير الأجل.
وفي الأسابيع الأخيرة بدا أن اللقاء بين ترمب والقيادة الصينية يحمل رسائل تهدئة سياسية، إلا أن أوساط الصناعة والاقتصاد تؤكد أن التفاهمات الدبلوماسية لا تعني التراجع الفوري عن هندسة تجارية جديدة بدأت فعلاً تغير مواقع الإنتاج والتوريد عالمياً.
صناعة السيارات الكهربائية تحت الضغط
وأفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن شركة "تيسلا" بدأت بالفعل مطالبة مورديها بتجريد خطوط الإنتاج في الولايات المتحدة من القطع الموردة من الصين، في خطوة تعكس المخاوف المتصاعدة من الرسوم الجمركية المتقلبة التي تؤثر مباشرة في أسعار المكونات والتجميع النهائي للسيارات.
وتضيف المصادر وفقاً لوكالة "رويترز" أن الشركة تستهدف استبدال جميع المكونات الصينية بصورة كاملة خلال عام أو عامين، بما يعيد صياغة نموذج التشغيل ويثقل الكلف التحولية القصيرة الأجل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير تقارير صناعية إلى أن الضغوط لا تخص "تيسلا" وحدها، إذ طلبت "جنرال موتورز" من آلاف الموردين إزالة المكونات الصينية من خطوط الإمداد الأميركية، في إجراء يعكس تحولاً استراتيجياً داخل عملاقين من أكبر مصنعي السيارات في العالم.
أيضاً، واجهت الصناعة خلال العامين الماضيين نقصاً في الرقائق الإلكترونية والمواد النادرة الداخلة في تصنيع البطاريات، مما وضع الشركات في موقف بحث محموم عن بدائل إقليمية أكثر استقراراً.
ويعتقد محللون أن قطاع السيارات الكهربائية في الولايات المتحدة على مسار إعادة هيكلة عميقة يتجه نحو تعزيز الاعتماد على سلاسل إمداد إقليمية بمنهج محكم، بما قد يؤدي إلى ارتفاع محدود أولي في الكلف يقابله على المدى المتوسط عوائد مناعة صناعية واستقلال توريدي واستقرار استثماري.
الاستراتيجية الصينية في مواجهة الضغوط
كشف وزير المالية الصيني لان فوه آن عن توجه بلاده لتعزيز السياسة المالية خلال الأعوام الخمسة المقبلة عبر حزم أدوات تشمل الموازنة العامة والضرائب والسندات الحكومية والمدفوعات التحويلية، بما يضمن دعماً مستداماً للاقتصاد والقطاعات الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية، ويأتي هذا التوسع في ظل مشهد عالمي يتسم بالتنافس الحاد وعدم اليقين، لا سيما بعد انتقال الحرب التجارية إلى مرحلة إعادة التموضع الصناعي وليس مجرد فرض رسوم.
وتؤكد التصريحات أن الصين تركز على تطوير نظام صناعي متقدم وربط السياسات المالية بالتوجهات الابتكارية، خصوصاً في التكنولوجيا والتعليم والتصنيع عالي الدقة، ومن المتوقع أن تستخدم بكين أدوات تحفيز استهلاكي لتعزيز الطلب المحلي بهدف تعويض أي آثار سلبية تنتج من تقليص حضور المكونات الصينية داخل الصناعات الأميركية.
وتحاول الصين في الوقت ذاته المحافظة على مكانتها كمركز تصنيع عالمي مع تطوير شبكة موردين أكثر تنوعاً، خصوصاً في آسيا وأفريقيا، وذلك تحسباً لأي موجات تصعيد جديدة، ويشير اقتصاديون إلى أن المخطط المالي الصيني لا يبنى فقط على إدارة الأزمة، بل على بناء منظومة اكتفاء تقني وصناعي تتجاوز الأخطار الأميركية والأوروبية.
تزايد الاعتماد العالمي على المكونات الصناعية الصينية خلال العقدين الماضيين بعد تحولها إلى مركز تصنيع ضخم يستحوذ على ما يفوق 30 في المئة من الإنتاج الصناعي العالمي، مما جعل أي توترات تجارية معها تتحول تلقائياً إلى أزمة كونية تطاول مئات الصناعات في القارات كافة، وتؤكد بيانات صندوق النقد الدولي أن نماذج التصنيع القائمة على الخفوضات الضريبية ونقل المعرفة الإنتاجية واتساع القدرة التصديرية منحت الصين موقعاً مهيكلاً يصعب تجاوزه سريعاً، إلا أن الانقسام الصناعي العالمي يبدو في مرحلة إعادة تعريف، وربما بناء "كتل تصنيع" جديدة في آسيا والأميركتين وأوروبا.
لا تبدو الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة مرشحة للحل النهائي على المدى القريب، حتى مع مؤشرات التهدئة السياسية، إذ تحولت الرسوم إلى جزء من آليات الحماية الاقتصادية وإعادة توزيع النفوذ الصناعي، وفيما تبدو "تيسلا" عنواناً رمزياً للأزمة، فإن العالم يتجه نحو صيغة صناعية جديدة متوزعة على مراكز عدة، مما قد ينتج خريطة اقتصادية أقل كفاءة وأعلى كلفة على المدى القصير، لكنه قد يسهم في بناء منظومة صناعية عالمية أكثر توازناً واستقلالية وتنوعاً على المدى الطويل.