ملخص
لم تبالغ حكومة نتنياهو منذ اليوم الأول في توصيف معركة "طوفان الأقصى" التي قامت بها "حماس" باعتبارها تهديداً وجودياً، وأن تعمل على استنفار الدول الداعمة لها عموماً وواشنطن والمجتمع الإسرائيلي خصوصاً، من خلال إعادة إحياء ذاكرة التأسيس الأولى لهذا الكيان والتهديد الذي أحاط به، على رغم ما في ذلك من أخطار تعيد تثبيت المعنى الذي نشأت عليه إسرائيل، أي أنها وجود قائم بغيره وليس بذاته.
الاعتقاد السائد لدى غالبية المعنيين بالتطورات الإقليمية بأن المنطقة تقف على مفترق بين خيارين نتيجة تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، وبأن الخروج من هذه الاستقطاب يمرّ عبر واحد من مسارين، إما أن تفتح نافذة حوار جديدة بين الولايات المتحدة و"الجمهورية الإسلامية" في إيران، تنقل المنطقة من حال التوتر وتضعها على بداية تسوية شاملة، وإما أن تذهب إلى حرب جديدة قد تكون أكثر قسوة وشدة من حرب يونيو (حزيران) الماضي عندما شنت إسرائيل هجوماً مباغتاً على الأصول الإيرانية العسكرية والنووية، في بعديها البشري والانشاءاتي.
عودة هذا الاستقطاب للمنطقة كانت نتيجة فشل الضربة العسكرية المباغتة التي قامت بها تل أبيب ضد إيران في يونيو الماضي في تحقيق هدفها الإستراتيجي خلال الأيام الأولى لها، مما أبقى على منسوب القلق لدى القيادة الإسرائيلية باستمرار التهديد الإيراني الذي يصنف في دوائر القرار والتخطيط والفكر، باعتباره تهديداً وجودياً.
ولم تساعد المشاركة الأميركية في ضرب المنشآت النووية في التخفيف أو الحد من هذا القلق، إضافة إلى استمرار هذا الشعور على رغم ما انتهت إليه الضربات التي لحقت بالأذرع الإيرانية في المنطقة، في لبنان وفلسطين، وسقوط رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد في سوريا من تغييرات في معادلات النفوذ الإيراني داخل الإقليم، بل عززت الحاجة الإسرائيلية إلى العودة للتركيز على هدفها الحاسم والنهائي، وضرورة الوصول إلى رأس ومصدر الخطر الكامن في طهران، وحتمية تطبيق سياسة "قطع رأس الأفعى" بحسب المصطلح الذي استخدمه كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ومبعوث الرئيس الأميركي وسفيره في تركيا توم برّاك، كمدخل لإنهاء مصادر هذا التهديد.
لم تبالغ حكومة نتنياهو منذ اليوم الأول في توصيف معركة "طوفان الأقصى" التي قامت بها "حماس" باعتبارها تهديداً وجودياً، وأن تعمل على استنفار الدول الداعمة لها عموماً وواشنطن والمجتمع الإسرائيلي خصوصاً، من خلال إعادة إحياء ذاكرة التأسيس الأولى لهذا الكيان والتهديد الذي أحاط به، على رغم ما في ذلك من أخطار تعيد تثبيت المعنى الذي نشأت عليه إسرائيل، أي أنها "وجود قائم بغيره وليس بذاته"، وأن المعادلة المؤسسة لها والتي بنيت على أساس الصراع الدائم والحرب مع محطيها لا تزال هي الضامن لهذا البقاء، بخاصة بعد أن وجدت نفسها في وسط حلقة نار أقامتها إيران من حولها.
عودة القلق على الوجود وأنه لا يزال في معرض التهديد، كرّس ويكرّس بالنسبة إلى تل أبيب ضرورة وجود ضامن خارجي لهذا الوجود، وشكل أيضاً اعترافاً بفشل تحويل العقود السبعة على تأسيس هذا الكيان إلى ضامن داخلي، وأن يكون وجوداً قائماً بذاته وقادراً على أن يكون رافعة للاستمرار والاستقرار، تلغي الحاجة نسبياً إلى آخر من الخارج، بمعنى أن الاستمرار في الاعتماد على العقيدة القتالية ومنطق القوة لم يؤسس لوجود قائم على شروط داخلية.
لقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز واضحاً في إدراك الأزمة الإسرائيلية عندما قال إن تيودور هرتزل أخطأ في البناء على فكرة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" في البدايات، وأضاف بيريز أن الأمور كانت مختلفة، "فلقد كان هناك شعب في الأرض، وقد استغرقنا وقتاً طويلاً لندرك أننا هنا أمام تحد لم يكن في حلم هرتزل"، بحسب تعبيره، وهذا يعني أن هذا الوجود كان دائماً في معرض التهديد وأن الوصول إلى نقطة التوزان بين الطمأنينة والقلق على الوجود يمرّ من خلال الاستمرار في معالجة مصادر القلق أو التهديد بكل الوسائل، بخاصة استخدام القوة واللجوء إلى الحروب، وأن أي تنازل عن هذه المعادلة قد يفتح الباب أمام تنازلات أخرى تتعارض مع الفكرة الأولى لقيام هذه الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانطلاقاً من هذه الهواجس تكمن مقاربة الموقف الإسرائيلي بالإصرار على توجيه ضربة قاضية وقاصمة للنظام الإيراني، لأن الشعارات التي رفعتها طهران منذ انتصار ثورتها بإزالتها من الوجود، والتي وجدت ترجمتها في إبعاد ومآلات النفوذ الذي بنته إيران في الإقليم، وصولاً إلى ما يسمى "هلال محور المقاومة" وتحولها إلى حلقة نار حول تل أبيب، عززت القناعة لدى أصحاب القرار في إسرائيل بأخطار المشروع الإيراني، وأن استمراره يشكل تهديداً وجودياً لا بد من العمل على معالجته بالقضاء عليه.
لا شك في أن تل أبيب، خصوصاً مع دخول نتنياهو إلى المشهد السياسي، لم تتردد في بذل أي جهد من أجل محاصرة إيران وطموحاتها عبر اللعب على وتر التهديد الذي يشكله النظام الإسلامي وأذرعه في المنطقة، لذلك حاولت عرقلة أية عملية تفاوض أو تفاهم مع طهران، سواء كانت مع الأوروبيين أو الأميركيين، لا تتضمن تفكيكاً لمقدراتها الإقليمية والنووية والعسكرية، كما حصل في المحطة قبل الأخيرة من المواجهة مع طهران عندما عارض نتنياهو بشدة الاتفاق النووي عام 2015 الذي عقده الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
انزلاق معادلة التوازن بين طهران وتل أبيب التي بدأت من قطاع غزة و"حماس"، وانتقلت إلى لبنان بضعضعة وإضعاف وترنح "حزب الله" الذي يشكل رأس حربة المشروع الإيراني، وبعدها سقوط النظام السوري ودوره كرأس جسر، ما كان ليكتمل من دون الانتقال إلى ضرب رأس هذا المشروع في طهران، فحجم الضربة والأهداف التي وضعتها تل أبيب، والنتائج التي أرادتها من ضرب العمق الإيراني، كانت بمثابة التهديد بالمثل عبر وضع القيادة الإيرانية ونظام الحكم في مواجهة تهديد حقيقي لوجودهما، وحتى وجود إيران.