على نحو ما هي الحال مع كل فنان عظيم، آخر ما يتمنّاه المرء هو حلّ [طلاسم أو أحجية] ديفيد لينش [أي فهمه وتبديد كل غموض يحيط به]، أو حمله على أن "يبرر" نفسه وأن يفسر أعماله لنا. لكن القادرين على إماطة اللثام عن التفاصيل المنيرة، سيستمتعون بهذا العمل، وهو إلى حد ما مذكرات ونوع من سيرة ذاتية بقلم لينش والصحافية كريستين ماكّنا.
بعد فيلم مولهولاند درايف (طريق مولهولاند) - ويعدّه بعض النقاد أعظم فيلم في هذا القرن الى اليوم – بلغ المخرج الرؤيوي ما يمكن تسميته ذروة لينش 2007، [في إشارة إلى "السلسلة التلفزيونية توين بيك"، وهي من إخراجه]، مع تحفته السوداء وعالمها المتداعي "إينلاد إمباير"، وهي تدور على ممثلة هوليويدية عالقة في شراك ذكرى فيلم ملعون. وكان أحد المراقبين مصيباً في وصفه الفيلم هذا بأنه يمثّل [مرآة] "البنية الضخمة غير السويّة لعالم ديفيد لينش الخيالي ... إذ تتداعى وتدمّر نفسها". فهو [الفيلم] عسير على الفهم وقاتم [مظلم] حتى بمقاييس لينش نفسه، وبدا كأنه يبلغ طريقاً مسدوداً شأن غايات [حركة] الغلاة [تيار فني يعرف بـالماكسيمالية قوامُه المغالاة الفنية]. ولكن إلى أين [بعد الطريق المسدود]؟ ما كان منه إلا أن أهدى إلى محبّيه عودةً إلى عالم مسلسل توين بيكس، أكثر عوالمه الأثيرة على قلبه والمتعارف عليها. وهذا أمر لافت.
ثمة مؤشرات دسمة كثيرة إلى بذور الوحوش في حديقة البيت المسيّجة التي قَوْلبت خياله، ومنها حوادث مذهلة في طفولته: يرى لينش وشقيقه "امرأة عارية بيضاء البشرة" [تركض] مذعورة و"فم مُدمى" [رجل مدمى] يسير في الشارع عند الغسق ذات مساء.
يخلص لينش في موضع آخر من "غرفة حلم" إلى أن "كل شيء يدور على مارلين مونرو"، مشيراً إلى ما يسميه "مسألة امرأة في ورطة [متاعب امرأة]"، وهو هوس ملازم له [شاغله الهوسي] شأن هيتشكوك.
يقول لينش للسينمائي فريدريك إلمز أثناء تصوير فيلمه الأول إيريزرهيد (رأس ممحاة) "فلنجعله أكثر سوداوية". وما يظهر على صورة واضحة في "روم تو دريم"، هو انجذاب لينش الفطري منذ فتوته إلى الغوص في أعماق الحلم الأميركي المظلمة.
يضيف لينش "لطالما عرفتُ أن ثمة ما يجري... [أمور تعِسة] في كواليس حقبة إيزنهاور "الحالمة" في الخمسينات [من القرن المنصرم]. وتصف ماكّنا طفولة لينش بأنها "ريفية وآمنة"، ولكن ما يقوله هو مثير أكثر للاهتمام وحافل بالتفاصيل.
يروي لينش [مثلاً] بنبرة ساخرة ومازحة ووجه خالٍ من أي تعبير أن ابن الجيران فجّر قدمه بصاروخ. يقول: "كانت قنابل كثيرة تُصنع في بويز [عاصمة ولاية إيداهو]". وجذبته الحماسة التي رافقت نشوء موسيقى الروك آند رول، ومال الى أشباه "موظفي المكتبات... ومظهر هؤلاء الخارجي يخفي وراءه حرارة ملتهبة". وحين انتقاله إلى كلية الفنون في منتصف الستينات، أجج الواقع المرّ في وسط فيلادلفيا، وهو كان في مطلع العشرين من العمر، نيرانَ مخيلته.
وتناول الناقد الثقافي غريل ماركوس بصورة بليغة طريقة مقاربة أعمال لينش خيانة الحلم الأميركي، وظلاله [الحلم هذا] الجذابة. ويسلط "غرفة حلم" الضوء على براعة لينش في إخراج رؤيته عن الحلم الاميركي إخراجاً يلتزم معاييره هو، ونجاحه خلافاً لتوقعات كلها.
ويسلط الكتاب الضوء على ما يمكن تسميته منطق لينش الروحاني- وخلّف شغفه بالتأمل التجاوزي أثراً بالغاً فيه. وفي فقرة أميركية الطابع والجوهر، يوضح المخرج رؤيته الى العالم: "تخيل كرة البيسبول: أنت تضربها فتنطلق ولا تعود إلا إذا اصطدمت بشيء آخر، وتبدأ إذذاك رحلة العودة. والمكان رحب وفارغ. لذا، قد تغيب [الكرة] وقتاً طويلاً ولكنها بعد ذلك تبدأ في العودة إليك، [أي] إلى الشخص الذي أطلقها." وهو خَلَّفَ بَصْمَته في هذا المكان الرحب.
*نشرت دار كانونجيت كتاب "روم تو دريم" (غرفة حلم).
© The Independent