ملخص
التحالف بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية، على رغم مظهره الموحد، هش يقوم على مصالح متضاربة، مما يمنح واشنطن فرصة لاستغلال نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري لتوجيه البيئة الاستراتيجية بدلاً من الاكتفاء برد الفعل.
ما من لحظة رصدت تبدل توازن القوى العالمي بوضوح أكثر من اللحظة التي سار فيها كل من الزعيم الصيني شي جينبينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون، بخطى متناسقة على السجادة الحمراء خلال العرض العسكري الصيني الذي أقيم مطلع شهر سبتمبر (أيلول) الجاري، إذ على رغم التاريخ الطويل من الارتياب والشك المتبادل فيما بينهم، قدم القادة الاستبداديون الثلاثة مشهداً للوحدة في مواجهة واشنطن. والرسالة المستقاة من المشهد الذي أُعد بدقة متناهية كانت واضحة: الصين اليوم هي محور الكتلة الصاعدة المعادية للغرب، بينما الولايات المتحدة تائهة - منقسمة داخلياً، متعثرة خارجياً، وتواجه معارضة من قبل خصومها.
والرئيس الأميركي دونالد ترمب من جهته لم يخف ما يريده من كل واحد من أولئك القادة: صفقة سلام مع بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا، اتفاق تجاري مع شي لإعادة التوازن في العلاقات الاقتصادية الأميركية – الصينية، واجتماع قمة مع كيم لإحياء التفاوض الدبلوماسي المتوقف حول شبه الجزيرة الكورية، بيد أن القادة الثلاثة واجهوا طلبات ترمب بالرفض، إذ بدل الانخراط في مسار يتماشى مع شروط واشنطن، يقوم كيم وبوتين وشي بتوحيد جهودهم، مُظهرين رغبتهم المتصاعدة في تحدي قيادة الولايات المتحدة للعالم، وأيضاً مستعرضين قدرتهم على القيام بذلك عبر التنسيق الكامل في ما بينهم.
لكن خلف مشهد التضامن هذا تبقى الشراكة التي تجمع الصين وكوريا الشمالية وروسيا شراكة صعبة وشائكة. فبين البلدان الثلاثة المذكورة تقارب تكتيكي لا ينبع من ثقة متبادلة أو قيم مشتركة، بل من مظالم متشابكة ومن أحكام الضرورة. ويظهر التاريخ أنهم ليسوا حلفاء طبيعيين. فكل دولة تظل حذرة من الوقوع في فخ التحالف، وغير مستعدة لتقديم مصالحها الوطنية لمصلحة الآخرين. والأهم من ذلك، أن كل واحدة منها لا تزال تسعى للحصول على شيء من الولايات المتحدة - وهو نفوذ يجب على واشنطن أن تستخدمه بحكمة.
الثالث غير المرغوب
آخر مرة تقاربت فيها الصين وكوريا الشمالية وروسيا بهذا المستوى كانت خلال الحرب الكورية، والتي انتهت على نحو سيئ للجميع، إذ كان كيم إيل سونغ آنذاك، جد الزعيم الكوري الحالي، اجتاح كوريا الجنوبية بدعم صيني وسوفياتي. مقامرته تلك فشلت. وغدت كوريا الشمالية الدولة المنبوذة والفقيرة والمعزولة التي هي اليوم، فيما ازدهرت منافستها الجنوبية المدعومة من قبل الولايات المتحدة. بالنسبة إلى الصين كان التدخل في هذا النزاع مكلفاً للغاية من ناحيتي الدم والأموال على حد سواء. فقد قتل أو جرح مئات الآلاف من الجنود الصينيين، واستنزفت الصين من اقتصادها موارد شحيحة أصلاً، بعدما كان الاقتصاد الصيني تضرر كثيراً بفعل أعوام الحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية. والأسوأ من ذلك فإن الحرب أسهمت بترسيخ حضور عسكري أميركي على الحدود الصينية، وقلبت خطط بكين المتعلقة بتايوان رأساً على عقب، إذ إن إدارة ترومان الخائفة من زيادة التوسع الشيوعي آنذاك كانت عكست نهج عدم التدخل الذي اعتمدته سابقاً، وقامت بتوقيع معاهدة دفاعية مع تايبه، محبطة بذلك وإلى أجل غير مسمى هدف الصين المتمثل بضم الجزيرة، وهو الهدف الذي يعد حتى يومنا هذا مهمة غير مكتملة بالنسبة إلى القادة الصينيين. ومن هنا فإن الحرب الكورية شكلت درساً مؤلماً لبكين، يفيد بأن التحالف انطلاقاً من تقارب أيديولوجي مع شركاء متقلبين، كحال بيونغ يانغ، يمكن أن يؤدي إلى أعباء هائلة وإلى توليد التزامات طويلة الأجل.
كذلك أسهمت الحرب الكورية في غرس بذور الارتياب الدائم بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا، إذ ترى بيونغ يانغ أن بكين أعطت الأولوية لمصالحها الخاصة خلال محادثات الهدنة في بانمونجون، وهمشت مخاوف كوريا الشمالية. وخلال الأعوام التي تلت استاءت كوريا الشمالية مما عدته تدخلات وتجاوزات صينية متواصلة. وقام كيم إيل سونغ بتطهير الشخصيات المؤيدة للصين من الصفوف القيادية في بلده، تماماً مثلما فعل كيم يونغ أون بعد عقود عندما أعدم عمه يانغ سونغ تيك، الذي كان معروفاً بعلاقاته الوثيقة مع بكين. وفي الأثناء شعرت بكين بالغضب إزاء الدعم الفاتر الذي قدمته موسكو خلال ذاك النزاع (الحرب الكورية). وذاك اندرج في قائمة متصاعدة من المظالم التي ستبلغ ذروتها مع الانقسام الصيني – السوفياتي الذي بدأت ملامحه بالظهور في منتصف أعوام الخمسينيات.
وتعمقت تلك الصدوع مع مرور الوقت، إذ إن كوريا الشمالية الماهرة على الدوام في إبرام الصفقات، تعلمت بث التفرقة والشقاق بين موسكو وبكين، واحترفت خلال الوقت عينه انتزاع المساعدات والتنازلات من الطرفين، مع رفض الخضوع لأي منهما. والصين والاتحاد السوفياتي من جهتهما، اللذين سبق أن كانا رفاق سلاح، انزلقا في معمعة تنافس أيديولوجية وجيوسياسية حادة. فبالنسبة إلى الصين كان ثمة مخاوف كبيرة من أن يقوم الاتحاد السوفياتي بغزو أراضيها. وخلال عام 1961، بعد أيام قليلة من توقيع موسكو وبيونغ يانغ معاهدة دفاع مشترك، قامت الصين بدورها بعقد اتفاق خاص بها مع كوريا الشمالية، على رغم دروسها المريرة المستخلصة من الحرب الكورية. وذلك الاتفاق يمثل إلى اليوم التحالف الرسمي الوحيد الذي تقيمه الصين. وأسهمت مخاوف مماثلة بعد عقدين في دفع الصين لاجتياح فيتنام عام 1979، ذاك الاجتياح الذي يشكل حرب الصين الأساس الأخيرة. وأملت بكين آنذاك من خلال لجوئها إلى القوة، بمواجهة ما رأته توسعاً فيتنامياً مدعوماً من موسكو وتطويقاً سوفياتياً لجنوب شرقي آسيا. لذا، انطلاقاً من هنا، يمكن القول إن الجو السائد بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا واضح المعالم. فهو ارتياب متبادل، وليس تضامناً. وذاك الارتياب تاريخياً هو ما حكم العلاقة بين هذه الدول الثلاث.
أصدقاء الأجواء الصافية
اليوم، وبعد مرور أكثر من 30 عاماً على انتهاء الحرب الباردة، وجدت هذه البلدان الثلاثة قضية تجمعها من جديد في سعيها المشترك لتقويض قدرة ونفوذ واشنطن، بيد أن رقصة الوحدة بين الثلاثي المذكور، والتي صممت بدقة وانتباه، تخفي انقسامات قديمة وارتياب شديد متبادل. إذ إن بكين، على خلاف بيونغ يانغ وموسكو، تسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي دون إضرام النار فيه. فهي تسعى لإضعاف تأثير الولايات المتحدة من دون أن تقطع تماماً علاقاتها المفيدة والمربحة مع الغرب. لقد قامت الصين بمد موسكو بشريان حياة اقتصادي بالغ الأهمية وزودتها بسلع ذات استخدام مزدوج ساعدت الكرملين في استدامة حربه ضد أوكرانيا. لكنها فعلت ذلك لأن الكلفة كانت مقبولة ومقتصرة على أضرار متعلقة بسمعتها في أوساط الدول الغربية. والأهم أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا لم تشكل بعد تهديداً مباشراً لأمن الصين الخاص أو لاستقرارها الاقتصادي. وفي حال تبدل ذلك قد تتغير حسابات بكين بسرعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتظهر الشقوق في العلاقة الصينية – الروسية على نحو خاص في شبه الجزيرة الكورية، إذ تشعر الصين بقلق عميق من تطوير روسيا لعلاقاتها وروابطها مع كوريا الشمالية. فموسكو يممت شطر بيونغ يانغ للحصول على الذخائر والجنود لاستدامة الحرب في أوكرانيا، وقام البلدان في هذا الإطار بتوقيع معاهدة دفاع مشتركة. وغدا بوتين الآن متفوقاً على شي وبات الشريك الأهم لكيم – محبطاً جهود بكين الساعية لتكون اللاعب الأهم في شبه الجزيرة الكورية. كذلك قامت روسيا خلال العامين الماضيين بزيادة المخاوف الصينية عبر نقلها إلى كوريا الشمالية تكنولوجيا عسكرية حساسة تتضمن أنظمة دفاع جوي وقدرات متعلقة بالطائرات المسيرة. ويعبر محللون صينيون في مجالسهم الخاصة بهذا السياق عن مخاوف إزاء شح المعلومات المنشورة المتعلقة بتلك الإمدادات العسكرية واحتمالاتها المزعزعة للاستقرار.
لقد تفوق بوتين الآن على شي وبات الشريك الأهم لكيم يونغ أون
ما تتخوف منه الصين وتخشاه في الحقيقة يتمثل بغياب السيطرة، إذ يمكن للصين في مناطق تماس حساسة مثل مضيق تايوان أو بحر جنوب الصين، أن تعاير وتيرة التصعيد وتضبطها. لكن التهور الكوري الشمالي المدعوم من روسيا، عند الأعتاب الصينية قد يخلق زعزعة لن يكون سهلاً على بكين استيعابها والتعامل معها. وكما في الحرب الكورية تواجه الصين في هذا السياق خطر الانجرار إلى أزمة بسبب شريك صغير متهور مدعوم من موسكو. أما روسيا، من جانبها، فتبقى أقل قلقاً في شأن العواقب الناتجة من عدم الاستقرار في آسيا، إذ إن تركيز بوتين خلال الوقت الراهن ينصب حصراً على إعادة تأكيد النفوذ الروسي في أوروبا الشرقية. وإن تفاقمت التوترات في شبه الجزيرة الكورية أو في مضيق تايوان، من غير المؤكد أبداً أن تكون موسكو مستعدة لتحمل كُلف باهظة بغية دعم أي من حليفيها هناك.
في الواقع، ثمة تنافس أعمق بين موسكو وبكين يجري في الخفاء. فخلال شهر يونيو (حزيران) الماضي مثلاً أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" بأن وكالة الاستخبارات الروسية الداخلية تصف الصين بـ"العدو" ويسودها القلق إزاء أنشطة التجسس الصينية. وهناك مخاوف مستمرة داخل روسيا أن يكون لدى بكين طموحات مزمنة داخل سيبيريا ومناطق أقصى شرق روسيا. وتأتي مخاوف موسكو في هذا السياق، بجزء منها، بسبب تدفق الاستثمارات الصينية والعمال الصينيين إلى تلك المناطق خلال الأعوام الأخيرة، وأيضاً لأن الصين نشرت عام 2023 خرائط رسمية استخدمت فيها أسماء صينية تاريخية لعدد من المناطق والمدن الروسية.
وبين القادة الثلاثة في تحالف المستبدين هذا، يتمتع كيم يونغ أون بالإمكانية الأكبر في استغلال العلاقة الثلاثية، إذ إن بيونغ يانغ برعت منذ زمن في فن الاستفادة من تنافس القوى العظمى لانتزاع التنازلات والحفاظ على استقلاليتها. واليوم، يقوم كيم بالاستفادة من علاقاته مع موسكو وبإعادة التواصل مع بكين تزامناً، وذلك لضمان عدم الاعتماد الشديد والكامل على أي من هذين الراعيين. حضوره العرض العسكري إلى جانب شي، وهي المرة الأولى التي يلتقي فيها الزعيمان وجهاً لوجه منذ عام 2019، مَثل جزءاً من عملية معايرة محسوبة. فقد أعاد كيم تأكيد علاقاته مع الصين، فيما أبقى روسيا إلى جانبه، معززاً بذلك موقعه للمطالبة بتنازلات أكبر من واشنطن ضمن أية عملية تفاوضية مستقبلية. وفي هذا المثلث، كل دولة تناور بقدر ما تتحالف، إذ تسعى وراء مصالحها الخاصة تحت غطاء الوحدة، لكنها تبقى مستعدة لتغيير مسارها إذا تحولت أية علاقة إلى عبء.
الأوراق الرابحة
التقارب غير المستقر هذا بين الصين وكوريا وروسيا قد لا يمنح الولايات المتحدة فرصة استراتيجية شاملة، لكنه يبقي لواشنطن فسحة للمناورة إن تعاملت مع كل خصم بعزم وانضباط. فالولايات المتحدة ما زالت تتمتع بنفوذ كبير لدى الصين لأن بكين تسعى إلى الاستقرار الاقتصادي. فالصين تود تجنب أية مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة من شأنها تعريض صعودها للخطر. كذلك تشارك بكين واشنطن، في الأقل من حيث المبدأ، عدداً من الأهداف الأميركية: الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، ومنع الفوضى النووية شمال شرقي آسيا، والوصول إلى خاتمة سلمية للحرب في أوكرانيا. وأكد مسؤولون صينيون مراراً في هذا الإطار دعمهم لمفاوضات وقف إطلاق نار بين روسيا وأوكرانيا، قائلين إن الحوار يشكل الطريق الوحيد لحل النزاع.
إلا أن المصالح المتداخلة وحدها لا تكفي لتحفيز التعاون. وإن أرادت واشنطن ترجمة تلك الأهداف المشتركة إلى نتائج ملموسة، عليها توجيه تصرفاتها انطلاقاً من هذا. على الولايات المتحدة أن تقول بوضوح إن التقدم في مسار الوصول إلى اتفاق تجاري واحتمال عقد قمة بين ترمب وشي مرهونان بإظهار الصين رغبتها في التعاون بمجالات تخدم الهموم المشتركة للبلدين – وأن تقوم تحديداً بتقييد توسع كوريا الشمالية النووي والصاروخي الفالت من عقاله والإسهام بإنهاء الحرب في أوكرانيا.
لا تحتاج الولايات المتحدة إلى هندسة شقاق بين الصين وروسيا، ولا تستطيع القيام بذلك في أي وقت قريب، إذ إن بكين ستقاوم الضغوط العلنية الهادفة على الملأ إلى كسر علاقتها بموسكو أو بيونغ يانغ، بيد أن الضغوط الخفية قد تنفع في التأثير بالصين، خصوصاً حين يتعلق الأمر بأولوياتها الكبرى. فبكين، على رغم نبرة التحدي التي تعتمدها، ما زالت تسعى لاتفاق تجاري مع واشنطن يخفض التعريفات الجمركية ويحفظ مقداراً من الاستقرار في العلاقة الأميركية – الصينية. عودم النجاح في تأمين اتفاق من هذا النوع قد لا يمثل أمراً كارثياً للاقتصاد الصيني، لكنه قد يضيف إلى الواقع الصيني حالة تقلب غير مرغوبة تفاقم الأعباء الموجودة وتزيد من شعور السخط بأوساط الصينيين. ومن هنا فإنه عبر رفع الرهان واشتراط تعاون الصين بمسألتي أوكرانيا وكوريا الشمالية، بوصف هذا التعاون أساساً في سياق أي اتفاق ثنائي أوسع، يمكن لواشنطن إجبار بكين على القيام بتعديلات محدودة في سلوكها لكن ذات معنى، كإبطاء عمليات شراء النفط الروسي، مثلاً، والحد من الصادرات ذات الاستخدام المزدوج إلى موسكو، وإفهام بيونغ يانغ أن مسألة نزع السلاح النووي ينبغي أن تبقى هدفاً منشوداً وطويل الأمد.
أما بالنسبة إلى روسيا، فإن بوتين أظهر اهتماماً قليلاً بمحادثات سلام ستتطلب منه التخلي عن مطالبه القصوى في أوكرانيا. الرجل يبقى ملتزماً بالتغلب على الدعم الأميركي والأوروبي لأوكرانيا. لكن مع مرور الوقت فإن روسيا ستحتاج إلى مخرج من الأزمة مع تصاعد الخسائر في صفوف جنودها، واستفحال أعباء البلاد الاقتصادية، وتزايد الإرهاق العام. وليس بوسع الصين ولا كوريا الشمالية في هذا الإطار أن تمنحا بوتين المخرج الدبلوماسي الذي يحتاج إليه. فقط أوكرانيا وحلفاؤها قادرون على ذلك. وعلى واشنطن ألا تسارع إلى التفاوض. بل عليها استخدام هذا النفوذ كي ترسم بدقة الظروف الآيلة للتوصل إلى حل عادل ومستدام للحرب. وعلى الولايات المتحدة أن تنسق مع حلفائها الأوروبيين لتعزيز قدرات أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، وتأمين ضمانات أمنية موثوقة، وفرض ضغوط اقتصادية على موسكو. وينبغي لجزء أساس من هذه الاستراتيجية أن يشمل الضغط على الصين والهند لتقليص دعمهما لاقتصاد الحرب الروسي – وذلك ليس من خلال الإنذارات الشفوية العامة، التي غالباً ما تستدعي مواقف عكسية متحدية، بل عبر دبلوماسية القنوات الخلفية شديدة التأثير – والسماح لبكين ونيودلهي بتغيير وجهتيهما من دون أن يظهرا بمظهر الخاضع للضغوط الأميركية.
وبالنسبة إلى كوريا الشمالية، لدى الولايات المتحدة أيضاً قوة تفاوضية إزاءها. ويود كيم التخلص من العقوبات، ويريد سلامة نظامه وتحصيل الاعتراف بكوريا الشمالية كقوة نووية مشروعة. ثمة حدود لما يمكن للصين وروسيا أن تقدمانه بهذا السياق من دون التعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة. فبيونغ يانغ على رغم شعاراتها المعادية للولايات المتحدة كانت سعت منذ زمن لصفقة سلام وتطبيع مع واشنطن – ليس فقط لتحقيق مكاسب مباشرة، بل أيضاً لأن هكذا انفتاح قد يفتح لها مجالاً لتعاملات دولية أوسع ومؤازرة اقتصادية من طوكيو وسيول وآخرين. هذا النفوذ (الأميركي) لا ينبغي تبديده في سعي مستعجل لجلسة تصوير بين ترمب وكيم، إذ إن صفقة عملية في هذا الإطار يمكن أن تبدأ بإعادة تأكيد البيان المشترك الذي وقعه ترمب وكيم إثر قمة سنغافورة عام 2018، والذي تضمن التزاماً واضحاً بنزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية. ويمكن إرفاق تلك الصفقة بخطوات موقتة تهدف إلى تقليص الأخطار النووية وتوسعة مظاهر التبادل الدبلوماسي والاقتصادي والإنساني مع كوريا الشمالية.
لحظة الاستعراض الرمزي في بكين هدفت بلا شك إلى إرباك واشنطن – وكان لها أن تفعل ذلك. فقد أبرزت إلى أي مدى مضى خصوم الولايات المتحدة في التنسيق في ما بينهم، حتى وإن لم تتطابق مصالحهم تماماً. ومع ذلك، لا تزال الصين وروسيا وكوريا الشمالية تملك أسباباً للتعامل مع الولايات المتحدة. وإذا تمكنت واشنطن من مقاومة الميل إلى دبلوماسية مرتجلة تحركها الصور والرموز، وأدركت مصادر قوتها، واستثمرت في نقاط تفوقها النسبية - من تحالفاتها، وقوتها العسكرية، ونفوذها الاقتصادي، وقدرتها الدبلوماسية - فبإمكانها أن تشكل البيئة الاستراتيجية بدلاً من الاكتفاء برد الفعل عليها.
باتريشيا كيم هي باحثة في معهد بروكينغز وزميلة مشتركة في "مركز جون أل. ثورنتون للدراسات الصينية" و"مركز دراسة سياسات شرق آسيا".
مترجم عن "فورين أفيرز"، الـ15 من سبتمبر (أيلول)، 2025