Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هجرة الأدمغة العلمانية من إسرائيل تهدد الأمن القومي

وزارة المالية طرحت محفزات اقتصادية كبيرة لكبح المغادرة وتشجيع الاستثمار في قطاع الـ"هايتك"

تعد إسرائيل ثاني أكبر مصدر عالمي لحلول الأمن السيبراني بعد الولايات المتحدة (رويترز)

ملخص

تحول المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع أكثر تديناً قد يعمق الفجوات والصراعات الأيديولوجية والأخلاقية بين مختلف مكوناته، خصوصاً أن الزيادة السكانية للمتدينين سترفع من ثقل الكتلة التصويتية للأحزاب اليمينية المتطرفة.

مطلع أغسطس (أب) الماضي، استحوذت شركة "بالو ألتو نيتووركس" (Palo Alto Networks) الأميركية العملاقة والمتخصصة في الأمن السيبراني وأحد مؤسسيها من أصول إسرائيلية، على شركة "سايبرآرك" (CyberArk)  الإسرائيلية مقابل نحو 25 مليار دولار، إلا أن الصفقة التي تعد واحدة من أكبر صفقات تاريخ صناعة الأمن السيبراني عالمياً، وثاني أكبر صفقة في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي بعد استحواذ شركة "غوغل" على شركة "ويز" WIZ  الإسرائيلية مقابل 32 مليار دولار في مارس (آذار) الماضي، لم تمحُ حقيقة أن الواقع الاقتصادي مقلق وأن الأزمة التي يشعر بها الإسرائيليون في ظل الركود الاستثماري وتراجع التوظيف بفعل الحرب والاضطرابات المالية، متفاقمة جداً. وعلى رغم أن قطاع الـ"هايتك" (صناعات التكنولوجيا المتقدمة)، فضلاً عن الصناعات العسكرية والأمنية يشكلان ركيزة أساسية في الاقتصاد الإسرائيلي، فإن تراجع مكانة إسرائيل الدولية وتصاعد الضغوط السياسية والاقتصادية وسط اتساع العجز وارتفاع الدين الخارجي، جعلت الرهان على هذين القطاعين لعودة استقرار الاقتصاد غير مضمون ومحفوفاً بالأخطار. كيف لا وقد قالت صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية قبل أيام قليلة، استناداً إلى بيانات مكتب الإحصاء المركزي، إن مؤشرات الأجور والعمالة في إسرائيل "تعكس أزمة هيكلية تضرب عمق الاقتصاد الإسرائيلي وتبتعد به من مستويات ما قبل الحرب، خصوصاً في ظل هروب رؤوس الأموال من قطاع التقنية الذي كثيراً ما مثّل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي".

ووفقاً لبيانات سلطة الابتكار الإسرائيلية، أصبح قطاع الـ"هايتك" بين عام 2018 وعام 2024 محرك النمو الأول في الاقتصاد الإسرائيلي، بمساهمة وصلت إلى نحو 40 في المئة من الناتج المحلي، إذ يمثل هذا القطاع 53 في المئة من إجمال الصادرات، ويعمل فيه نحو 400 ألف موظف ضمن 9000 شركة بينها 500 مركز لشركات عالمية. وقبل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، كان قطاع الـ"هايتك" الأسرع نمواً في الوظائف والأجور في إسرائيل والأعلى مساهمة في الضرائب، لكن أحدث البيانات والأرقام أظهرت تراجع متوسط الأجور في قطاع التقنية العالية وانخفاض عدد العاملين في هذا القطاع بنسبة 0.5 في المئة إلى أكثر من 400 ألف وظيفة، أي 9.6 في المئة من إجمال الوظائف في الاقتصاد.

الرحيل طوعاً

ولأنها ثاني أكبر مصدر عالمي لحلول الأمن السيبراني بعد الولايات المتحدة، اعتمدت إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة على الأدمغة الإسرائيلية في بناء قوتها، مستغلة خبراتها في القطاع التكنولوجي، إلا أن الأرقام المفزعة الصادرة عن الهيئة المركزية للإحصاء الإسرائيلي كشفت عن عجز واضح بين الهجرة الوافدة والمغادرة، فمقابل نحو 79 ألف إسرائيلي هاجروا إلى الخارج هذا العام، لم يهاجر إلى إسرائيل سوى نحو 21 ألفاً، أي إن 28 ألف شخص خرجوا من دون عودة. وبحسب ما كشف عنه مسح أجرته مؤسسة "سي آي ماركتنغ"، فإن 40 في المئة من الإسرائيليين الذين ما زالوا في إسرائيل، يفكرون هم أيضاً في المغادرة. في حين أوردت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أن 81 في المئة من المهاجرين الإسرائيليين تراوح أعمارهم ما بين 25 و44 سنة هم عموماً من الأشخاص الذين تلقوا تعليماً عالياً ومن العلمانيين أيضاً ولديهم قابلية للاندماج في المجتمعات الأخرى، وفق تحليل أجرته صحيفة "ذا جوييش اندبندنت" أواخر عام 2024. وعلى رغم أن صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية أكدت أن عدد العاملين في قطاع التكنولوجيا في إسرائيل بلغ نحو 403 آلاف خلال النصف الأول من العام الحالي، ويمثلون 11.5 في المئة من إجمال القوى العاملة، فإنها بيّنت أن نحو 8300 من خبراء التكنولوجيا غادروا إسرائيل بين أكتوبر عام 2023 ويوليو (تموز) عام 2024 للعمل في الخارج، أي نحو 2.1 في المئة من العاملين في القطاع، مع متوسط خروج نحو 825 موظفاً شهرياً. وكشفت عن أن الشركات الناشئة الإسرائيلية التي توظف نحو 430 ألف شخص حول العالم، من بينهم 240 ألف (أي 56 في المئة) خارج إسرائيل. وذكرت دراسة أعدها مركز الأبحاث التابع للكنيست في أكتوبر الماضي، أن عدد الإسرائيليين الذين غادروا بين عامي 2020 و2024، بلغ نحو 145 ألف شخص غالبيتهم من الشباب المثقفين الذين تراوح أعمارهم ما بين 20 و39 سنة، في ما وصفها خبراء بـ"الهجرة الأكبر في تاريخ إسرائيل الحديث". وتشكل الأدمغة في إسرائيل وفق دراسة لمعهد "شوريش" للبحوث الاجتماعية والاقتصادية 0.6 في المئة من السكان الذين يعملون أطباء، وهم واحد على 10 في المئة من المشاركين في البحث الأكاديمي، و6 في المئة في مجال التكنولوجيا العالية وقطاع الـ"هايتك"، وهم مسؤولون عما لا يقل عن نصف صادرات إسرائيل.

هجرة الأدمغة

وأوضحت المنظمة اليهودية العالمية "العلوم في الخارج" التي تتواصل مع أكثر من 11 ألف عالم وباحث وطبيب إسرائيلي في أكثر من 30 دولة حول العالم، أن نحو 70 في المئة من العلماء والباحثين لا يعودون لإسرائيل، وأن أكثر من ثلثي ألمع الأدمغة الإسرائيلية الذين يسافرون لتطوير مسيرتهم المهنية يقيمون في الخارج. وعلى رغم أن النقص الكبير في الأطباء في إسرائيل يوفر فرص عمل كثيرة وجيدة لهم في إسرائيل، فإن آخر الاستطلاعات وجد أن 16 في المئة فقط من الأطباء خارج إسرائيل ينوون العودة بعدما كانت نسبتهم العام الماضي 61 في المئة، فيما ارتفعت نسبة الحالمين بالهجرة من الأطباء من 9.5 فقط في المئة العام الماضي إلى 31 في المئة. وفيما أفاد 47 في المئة من العلماء والأطباء أن الحرب هي التي دفعتهم إلى البقاء في الخارج، قال 45 في المئة إن الإصلاحات ضمن الجهاز القضائي التي بدأتها الحكومة الإسرائيلية اليمينية مطلع عام 2023 دفعتهم إلى البقاء في الخارج. وبحسب الباحثة في معهد سياسة الشعب اليهودي بالقدس سارة يائيل هيرشهورن، فإن هجرة الأدمغة من إسرائيل "باتت واقعاً لا لبس فيه"، وأكدت الباحثة التي تعمل مؤرخة في جامعة حيفا أن "البحث عن ظروف معيشية أفضل ومنح الأطفال مستقبلاً أفضل غالباً ما يكونان عاملين يدفعان هؤلاء إلى الرحيل وليست فقط الظروف السياسة".

هروب المستثمرين

وكشفت شركة "هينلي أند بارتنرز" الرائدة عالمياً في مجال الهجرة، بالتعاون مع شركة استخبارات البيانات العالمية "نيو وورلد ويلث" أن ما لا يقل عن 1700 مليونير غادروا إسرائيل خلال العام الماضي إثر الحرب على قطاع غزة والأعباء الاقتصادية والأمنية الناتجة منها. ووفق بيانات نشرتها وحدة الأبحاث في بورصة تل أبيب للمرة الأولى هذا العام، قلص المستثمرون الأجانب بصورة كبيرة تعرضهم لسوق الأسهم الإسرائيلية، فباعوا ما قيمته نحو ملياري شيكل (589 مليون دولار) من الأسهم بين منتصف يونيو (حزيران) ونهاية يوليو الماضيين. ودفعت المخاوف من استمرار التوترات الجيوسياسية وتراجع الاستقرار الإقليمي الممزوج بحال قلق متصاعدة، المستثمرين الدوليين في كثير من المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار إلى سحب أصولهم من السوق الإسرائيلية. وتظهر بيانات البورصة أن المستثمرين الأجانب أجروا عمليات بيع واسعة تركزت على قطاعات حيوية كالعقارات والتأمين والبنوك والتكنولوجيا الحيوية. في حين أشار مراقبون إلى أن هذه الخطوة تمثل تحولاً في المزاج الاستثماري الدولي تجاه تل أبيب، بعدما كان المستثمرون الأجانب يشكلون ركيزة أساسية في دعم السوق مطلع العام. وقال رئيس وحدة الأبحاث في بورصة تل أبيب عودي نير إن الأجانب استثمروا ما يزيد على 10.5 مليار شيكل (3.1 مليار دولار)، معظمها في أسهم البنوك وشركات الدفاع، قبل أن يبدأوا بالتراجع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خطة اقتصادية

وبحسب تقرير هيئة الابتكار الإسرائيلية لعام 2025، فإن ارتفاع معدلات الهجرة العكسية من إسرائيل، وما تحمله من أبعاد اقتصادية واستراتيجية عميقة تمثلت في تراجع حجم الاستثمارات الأجنبية في قطاع التقنيات المتقدمة، فضلاً عن تجميد عمليات التوظيف في هذا القطاع، ونقل عدد من الشركات نشاطها إلى خارج إسرائيل، كلها دفعت وزارة المالية الإسرائيلية وسلطة الضرائب وهيئة الابتكار الإسرائيلية وبمشاركة ممثلين عن قطاع الـ"هايتك" والهيئات المهنية ذات الصلة، إلى التعاون وطرح سلسلة من المخططات والبرامج الاقتصادية للتعامل مع هذا الوضع المقلق، إذ إن هجرة الأدمغة وهروب المستثمرين بمثابة تهديدين استراتيجيين مزدوجين يمسّان الاقتصاد الوطني والأمن القومي في آن. ووفقاً لما أوردته صحيفة "غلوبس" الاقتصادية، فقد عرضت وزارة المالية مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2024 الخطوط العريضة لتشجيع الاستثمار في قطاع التقنيات المتقدمة، فضلاً عن تحفيز عودة الإسرائيليين المقيمين في الخارج للمساهمة في الاقتصاد المحلي عبر الإصلاح الضريبي وخفض الضرائب على صناديق الاستثمار العاملة في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلية، مع حزمة من الإجراءات التشريعية والتغييرات التنظيمية الرامية إلى إزالة العقبات البيروقراطية وتقديم حوافز مالية، بما يعزز نمو تلك الشركات في إسرائيل ويشجع نشاط الشركات التكنولوجية متعددة الجنسيات، إضافة إلى تسهيل عمليات الاستحواذ على الشركات الإسرائيلية وتسريع عودة العاملين في قطاع الـ"هايتك" من الخارج، فضلاً عن تشجيع الاستثمار في الشركات الإسرائيلية منذ مراحل التأسيس الأولى وجولات التمويل الأولية، مروراً بمراحل النمو والتوسع ووصولاً إلى مرحلة الطرح العام أو البيع لشركات عالمية.

تداعيات مركبة

ويرى مراقبون أن القلق المتفاقم الذي ينتاب الحكومة الإسرائيلية جراء هجرة الأدمغة الشابة من إسرائيل لشعورهم المتزايد بانعدام الأمن، مرده اعتبارات اقتصادية في مقدمتها ارتفاع كلف المعيشة وزيادة رغبة الاسرائيليين في الهجرة أو البحث عن بدائل للعيش في الخارج، وجعل الحكومة تدرك الحاجة الملحة إلى التعامل مع هروب الطبقات الوسطى والمتعلمة، ليس لأنها تعد من الشرائح الأكثر إنتاجاً وتأثيراً في الاقتصاد الإسرائيلي وحسب، بل لأن ظاهرة هجرتهم قد تقود المجتمع الإسرائيلي إلى تحولات ديموغرافية غير مسبوقة، إذ إن الفئات المتدينة (الحريديم) الذين يسجلون أدنى مستويات في التعليم ويتميزون بمعدلات خصوبة مرتفعة للغاية، تصل إلى 6.6 طفل أو أكثر لكل امرأة متدينة وأكثر، سيحلون مكان المهاجرين المعتدلين والعلمانيين الأعلى تعليماً في إسرائيل ومعدل الخصوبة لديهم لا يتجاوز 2.0 طفل لكل امرأة علمانية. وبحسب توقعات "معهد الديمقراطية الإسرائيلي"، من المرجح أن يرتفع عدد السكان المتدينين الذين يمثلون حالياً 13.5 في المئة، ليبلغ 35 في المئة من إجمال السكان بحلول عام 2059، مما يعني تحول المجتمع الإسرائيلي إلى مجتمع أكثر تديناً، وقد يعمق الفجوات والصراعات الأيديولوجية والأخلاقية بين مختلف مكوناته، خصوصاً أن الزيادة السكانية للمتدينين سترفع من ثقل الكتلة التصويتية للأحزاب اليمينية المتطرفة، مما قد يؤثر في السياسات الاسرائيلية وثقافتها العامة، ويؤدي إلى انعكاس أجندة دينية متشددة على نواحي الحياة كافة في إسرائيل، مما يثير قلقاً كبيراً لدى العلمانيين وغيرهم من المكونات غير المتشددة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير