Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أفول النفط الروسي

لماذا تنجح الحملة التي تشنها أوكرانيا على قطاع الطاقة؟

مبنى مكاتب "روسنفت" في موسكو، أكتوبر 2025 (رويترز)

ملخص

تكشف الهجمات الأوكرانية على مصافي النفط الروسية تآكلاً بطيئاً في كفاءة قطاع الطاقة الروسي، إذ تجبر موسكو على موازنة مواردها بين حماية المصافي ومصانع الأسلحة وضبط الأسعار الداخلية، وهو ما يفاقم اعتماد الدولة على السيطرة الحكومية ويؤدي إلى تدهور تدريجي في صناعة النفط الروسية.

عند درس الآثار العديدة التي تلحقها الحرب في أوكرانيا بالاقتصاد الروسي، قلة من الأشخاص توقعوا أن نقصاً في الوقود سيكون أحدها، ذلك أن روسيا بلد غني بالنفط تقع بنيته التحتية الخاصة بالطاقة في مواقع بعيدة كل البعد من الخطوط الأمامية، وخلال معظم مراحل الحرب كانت شبكة الطاقة الأوكرانية، وليس الروسية، في مرمى النيران، ومع ذلك فمنذ أغسطس (آب) الماضي عندما أطلقت أوكرانيا حملة منسقة لضرب مصافي النفط في العمق الروسي، بات نقص الوقود يشغل بال الروس، وبحلول أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أصابت مسيرات أوكرانية أكثر من نصف مصافي التكرير الرئيسة الروسية البالغ عددها 38 مصفاة مرة واحدة في الأقل، ونتيجة لذلك باتت روسيا تعالج ما يقرب من 5 ملايين برميل يومياً في سبتمبر (أيلول) الماضي مقارنة بحوالى 5.4 مليون برميل من النفط يومياً في يوليو (تموز) الماضي.

وتعمّم انقطاع الإنتاج إلى مناطق عدة فبدأت بعض المحطات الروسية في تقنين بيع الوقود، وبحلول أواخر أكتوبر الماضي أكدت الضربات الإضافية، بما فيها تلك التي استهدفت مصافي التكرير في ريازان وساراتوف، مدى اتساع الحملة الأوكرانية.

في ضوء نتائج كهذه قد يكون من المغري للمرء أن يستنتج أن أوكرانيا على وشك تعطيل صناعة النفط الروسية، لكن الحال ليست كذلك، فعلى رغم الأضرار الجسيمة التي تسببها الهجمات فمن غير المرجح أن تبدل الهجمات من عزم موسكو في الأجل القريب، وفي الوقت الحالي لا يزال قطاع التكرير الروسي يتمتع بمرونة كافية بفضل قدرته الفائضة الكبيرة باعتباره ثالث أكبر منظومة تكرير في العالم، وبفضل قدرته على إصلاح الوحدات المتضررة بسرعة، إذ تمتلك الحكومة الروسية أيضاً مجموعة متنوعة من الأدوات التي تستطيع استخدامها للحفاظ على توازن نسبي في هذا الصدد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلاوة على ذلك، بالنسبة إلى أوكرانيا، يبرز أيضاً خطر يتمثل في أن تدفع حملة كييف موسكو إلى تكثيف هجماتها على البنية التحتية وأنظمة الطاقة في أوكرانيا مع دخول البلاد الشتاء الرابع منذ بدء الحرب، لكن الهجمات على المصافي إذا استمرت بوتيرتها الحالية يمكن أن تخلف آثاراً بعيدة المدى في الأجل الطويل، ومع تعرض قدرات الصمود الروسية إلى اختبار لا هوادة فيه فقد باتت تتآكل تدريجياً، وعلى رغم إمكان إصلاح الوحدات المستخدمة لتقطير النفط الخام بسهولة نسبية بعد كل هجوم، تتآكل هذه الوحدات بعد دورات التسخين والتبريد المتكررة الناجمة عن الضربات، ومع تزايد اعتماد صناعة النفط الروسية على التدخلات الحكومية لإدارة الأزمات سيصبح قطاع الطاقة قطاعاً تديره الدولة وستتراجع كفاءته، والحقيقة أن الضرر الحقيقي الذي تسببه الحملة الأوكرانية يُعد تراكمياً ومؤسسياً وليس مادياً، وحتى في حين تسعى روسيا جاهدة إلى الحفاظ على الاستقرار في الأجل القريب، فهي تتولى قيادة تسارع في الانحدار في الأجل البعيد.

غنى في النفط وفقر في الوقود

يتمثل جزء من التحدي المرافق لتقييم آثار الضربات الأوكرانية في الحجم والتعقيد الضخمين اللذين يسمان جانب التكرير في قطاع النفط الروسي، إذ تمتلك روسيا حالياً طاقة تكرير تقترب من 6.5 مليون برميل يومياً موزعة على 40 مصفاة، وتقع أكبر تجمعات المصافي في منطقة الفولغا وجبال الأورال وحول موسكو، وكذلك تصدر روسيا في المتوسط مليوني برميل يومياً من المنتجات النفطية، وفي الظروف العادية يتمتع النظام بقدرة احتياطية كبيرة إلى حد ما، على رغم أن إمدادات الوقود قد تكون مقيدة في بعض الأحيان خلال فترات ذروة الطلب الموسمي، وليس النقص الحالي في الوقود، الذي يُعد الأكثر بروزاً منذ بداية الحرب الشاملة على أوكرانيا عام 2022، نتيجة للهجمات الأوكرانية على المصافي الروسية وحسب، فمن جهة تتعرض سوق الوقود الروسية كل صيف إلى ضغط بسبب مزيج من العوامل يشمل ارتفاع الطلب الزراعي وازدياد معدلات قيادة المركبات وإغلاق المصافي لأغراض الصيانة السنوية، وهذا الصيف قفز الطلب في شكل أكبر لأن عدداً أكبر من الروس انتقلوا بالسيارات في ظل إلغاء رحلات جوية وتأخر قطارات بسبب هجمات المسيّرات الأوكرانية على البنية التحتية الخاصة بالنقل.

وثمة عامل آخر يتلخص في أن الحكومة الروسية تدخلت بصورة متزايدة في سوق الوقود داخل البلاد بذريعة الحفاظ على استقرار الأسعار والتحكم في معدلات التضخم، والآلية الرئيسة لذلك، المعروفة باسم "مثبت الأسعار" أو "المخمد السعري" (price damper)، هي نظام دعم يعوض شركات التكرير عندما تنخفض أسعار الوقود المحلية عن مستوى الأسعار التصديرية، لكن مع تزايد حاجة الحكومة إلى الأموال بدأت تدريجياً بنقل عبء الدعم إلى الشركات المصنعة وتجار التجزئة، مستخدمة التهديدات لضمان استمرار إمدادات السوق، كما يحدث غالباً في ظل سياسات ضبط الأسعار الصارمة.

وتؤدي محاولة الحفاظ على استقرار أسعار الوقود إلى إلغاء مؤشرات الأسعار ذات الأهمية الكبيرة لكل من المستهلكين والمنتجين وإلى إخلال بتوازن العرض والطلب، وفي الأوقات التي تتدنى فيها الربحية تبقي أكبر شركات النفط محطات الوقود الخاصة بها مزودة بالوقود، لكنها تبيع أقل قدر ممكن منه إلى تجار التجزئة المستقلين، وتشكل المحطات المستقلة وشبكات البيع بالتجزئة الصغيرة نحو 70 في المئة من سوق بيع الوقود بالتجزئة في روسيا، لكنها لا تنقل إلا أقل من ربع إمدادات الوقود، ومع ذلك فهي تؤدي دوراً مهماً من خلال تأمين الوقود لسائقي السيارات في المناطق الأقل ثراء والأقل كثافة سكانية، وعندما تقطع شركات النفط الكبرى إمداداتها عن جهات التوزيع المستقلة يعاني سكان الأرياف أكثر من غيرهم.

تهديدات عدة

ومع ذلك يعود السبب الأبرز للنقص إلى التحول الدراماتيكي الذي طرأ على قدرات أوكرانيا في مجال توجيه ضربات بعيدة المدى بواسطة المسيّرات، فخلال عامي 2023 و2024 نادراً ما حاولت أوكرانيا استهداف البنية التحتية الخاصة بالطاقة الواقعة في عمق روسيا، وعندما فعلت ذلك لم تستهدف المصفاة نفسها مراراً، وطوال هذه الفترة قصفت بانتظام عدداً قليلاً فقط من المصافي التي تقع على بعد نحو 400 كيلومتر من الأراضي التي تسيطر عليها أوكرانيا، والآن تستطيع الضربات الأوكرانية أن تصل إلى تيومين في سيبيريا، الواقعة على بعد 2190 كيلومتراً، في حين تستهدف أوكرانيا كثيراً من المصافي في أنحاء غرب روسيا كلها بصورة متكررة.

خذوا مصفاة فولغوغراد، وهي منشأة كبيرة تبلغ طاقتها 300 ألف برميل يومياً، فقد تعرضت إلى ما لا يقل عن خمس هجمات خلال شهرين، وجاء الهجوم الأخير بعد أيام فقط من إتمام إصلاحات روسية أعادتها للعمل، وعلى رغم أن هذه الهجمات المتكررة لا يمكن أن تدمر مصفاة لكنها تستطيع أن تبقيها في حاجة دائمة إلى إصلاح، وهو ما يفرض ضغوطاً على سلاسل الإمداد الخاصة بقطع الغيار والمكبلة بفعل العقوبات المفروضة على روسيا.

ومنذ أغسطس الماضي بخاصة باتت هجمات المسيّرات الأوكرانية أكثر نجاحاً، ويرجع بعض الفضل في ذلك لدور الاستخبارات الأميركية، إذ تتمتع أوكرانيا الآن بالقدرة والثقة في إطلاقها بانتظام أسراباً من المسيّرات الواسعة المدى على أهداف عدة في أنحاء روسيا كلها، وهي تتغلب على الدفاعات الجوية الروسية بنجاح.

كذلك تتضخم آثار الهجمات من خلال طريقة تنظيم منظومة المصافي الروسية، فقد أنشأ التخطيط خلال الحقبة السوفياتية مصفاتين في كل إقليم، وتتحمل مصفاة أو مصفاتان المسؤولية عن خدمة مساحة كبيرة (تتكون عادة من محافظات عدة وملايين من الناس) وعندما ينخفض إنتاج مصفاة ينتشر النقص بسرعة في المناطق المجاورة، وهذا يعني أن أي هجوم أوكراني ناجح يستطيع أن يسبب نقصاً في منطقة كبيرة وسيتعين على روسيا تزويدها بالوقود عبر السكك الحديد من مصادر تقع على بعد مئات الأميال، وإذا تعرضت مصاف متجاورة إلى ضربات في الوقت نفسه، فإن هذه المشكلات تتفاقم دائماً.

ضربات صغيرة مستمرة

ومع ذلك فمن المرجح أن يتبلور الأثر الحقيقي للهجمات الأوكرانية في الأجل البعيد، وكما هي الحال مع جوانب أخرى من الحرب فإنه لا يمكن كسب المعركة على البنية التحتية الخاصة بالطاقة إلا من خلال حرب استنزاف محسوبة بعناية، ولن تقضي أية ضربة واحدة على المنظومة، لكن حملة مستمرة ذات وتيرة متزايدة تعزز من احتمال حدوث إخفاقات متتالية وإصلاحات أطول وخسائر مضاعفة على صعيد القدرة، وما لم تحقق موسكو اختراقاً في الدفاعات المضادة للمسيّرات، وهو أمر لم يتوصل إليه أي من الجانبين منذ بدء الحرب الواسعة النطاق، فستتواصل جهود أوكرانيا لإلحاق أضرار في هذا الصدد.

وبهذا المعنى ستعتمد النتيجة الإجمالية على سلسلة من المتغيرات المتبدلة، تشمل سرعة إصلاح روسيا للمصافي وعدد المرات التي يمكن من خلالها إصلاح الوحدة قبل استبدال أخرى بها، وعدد المسيّرات اللازمة للتغلب على الدفاعات الجوية وعدد المسيّرات التي تستطيع أوكرانيا نشرها والمدة التي يمكنها ذلك من خلالها، فحرب المسيرات عبارة عن لعبة أرقام، وفي أية عملية معينة يجري إسقاط معظم المسيّرات المهاجمة، والغرض من ذلك إرهاق منظومة الدفاع الجوي، وكي يكون هجوم ما فاعلاً يجب إطلاق العشرات وربما المئات من المسيّرات، على أن تحمل كل منها ما لا يقل عن 50 كيلوغراماً.

وتتضمن الهجمات الأكثر فاعلية ضربات تستهدف وحدات تكرير عدة في المصفاة نفسها، ويجب ضرب المصافي نفسها في صورة متكررة بالتزامن مع إصلاح الضرر الناجم عن الغارات السابقة، ويتطلب الاستمرار في حملة ناجحة على مصافٍ مواصلة إطلاق آلاف المسيرات أسبوعياً على مدى أشهر عدة.

إنها لعبة يتفوق فيها المهاجم، ومثلما تُجبر أوكرانيا على ذلك لحماية مدنها وبنيتها التحتية من القصف الروسي، فإن روسيا لا تستطيع تأمين غطاء كاف للمصافي المستهدفة كلها، ويجب عليها أن تختار المصافي التي في مقدورها أن تؤمن لها حماية، علماً أن نقل الغطاء الجوي من موقع إلى آخر يبعد عن الأول مسافة شاسعة يستغرق وقتاً، وفي الوقت نفسه يمكن للمهاجم التبديل بين الأهداف بحسب ما يرغب.

وعلى رغم أن دفاعات روسيا أثبتت أنها لا تستطيع إعاقة الهجمات فإن البلاد بدأت في إجراء تعديلات أخرى، فتضع للمصافي مثلاً شباكاً ودروعاً علوية مرتجلة، وقد تبدو إجراءات كهذه بدائية لكن الانحرافات الصغيرة نفسها في مسار مسيّرة يمكن أن تشكل الفرق بين إحداث ضرر طفيف أو إشعال حريق كارثي.

مبارزة الطاقة الكبرى

من المفارقات أن الحملة الأوكرانية على المنشآت النفطية الروسية تستفيد من الدروس المستقاة من الحملة الروسية على البنية التحتية الأوكرانية، فمنذ المراحل الأولى من الحرب تستهدف روسيا البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا بهدف تعطيل الاقتصاد الأوكراني وسحق الروح المعنوية الأوكرانية، وخلال عامي 2023 و2024 تمكنت أوكرانيا بشق النفس من متابعة إصلاح الأضرار التي ألحقتها روسيا بها، ومع نمو القدرات الهجومية الروسية الآن أصبح ذلك سباقاً لا يمكن الفوز به.

في مارس (آذار) الماضي حاول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إقناع روسيا بالموافقة على وقف الضربات الجوية ضد البنية التحتية للطاقة لكن من دون جدوى، وبهذا المعنى تشكّل حملة كييف على المصافي الروسية في جزء منها شكلاً من أشكال الردع، وفي جزء آخر مظهراً من مظاهر الانتقام، فهي حملة تسعى إلى أن تفرض على روسيا تلك الأنواع من الكُلف التي تفرضها روسيا منذ فترة طويلة على أوكرانيا، ومن الناحية النظرية قد يؤدي ذلك إلى تجميد غير رسمي للضربات التي تستهدف منشآت الطاقة، لأن الضربات ترتب كلفة باهظة على كلا الجانبين، لكن حتى الآن تقتصر النتيجة على التصعيد.

في نظر أوكرانيا تُعد مهاجمة المصافي أيضاً طريقة فاعلة في شكل خاص من طرق استهداف روسيا، وقد خلفت الهجمات على خطوط الأنابيب ومرافق تخزين الوقود والسكك الحديد آثاراً عابرة، وبالمقارنة يمكن عموماً إعادة هذه المنشآت للعمل في غضون أيام، لكن المصافي بمعداتها الكبيرة والمعقدة تظل الأهداف الأضعف والأكثر رمزية.

مرونة قطاع الطاقة في روسيا آخذة في التآكل تدريجياً

خلال الأسابيع الأخيرة عززت أوكرانيا حملتها بجهود أكثر تنوعاً من ذي قبل لعرقلة صادرات النفط الروسية، وهي تهاجم الآن في صورة روتينية محطات الضخ الواقعة عند خطوط الأنابيب التي تفضي إلى منافذ التصدير، وكذلك وسعت نطاق هجماتها لتشمل أطرافاً خارجية متورطة في تجارة الطاقة الروسية، وفي الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري مثلاً هاجمت مسيّرات أوكرانية ميناء توابسي الروسي الواقع عند البحر الأسود، مما ألحق أضراراً بناقلة نفط تركية.

كذلك تستهدف حوادث تخريب عدة سفناً غير روسية تحمل خاماً روسياً، من المحتمل أنها تنجم عن ألغام لاصقة، على رغم أن كييف لم تعلن مسؤوليتها عن ذلك، بل إن أوكرانيا ضربت في ميناء نوفوروسيسك محطات الضخ والمحطة والمكاتب التابعة لاتحاد خطوط أنابيب بحر قزوين الذي يساعد في تصدير النفط المنتج في كازاخستان عبر البحر الأسود بمسيّرات جوية وبحرية، وعمليات كهذه تحمل غرضاً مزدوجاً، فعسكرياً تهدف إلى فرض كُلف وضبابية على الخدمات اللوجستية التصديرية الروسية، وإستراتيجياً تهدف إلى ثني الأطراف الخارجية، مالكي السفن وشركات التأمين والتجار، عن التعامل مع روسيا.

لكن روسيا من جانبها تحدد أيضاً أهدافاً إضافية، فحتى عام 2025 نقلت أوكرانيا الغاز الروسي إلى مشترين أوروبيين، ومن ضمن بند غير رسمي في الاتفاق ذي الصلة، امتنعت روسيا من مهاجمة إنتاج الغاز وخطوط الأنابيب في أوكرانيا، والآن أُوقف العمل بهذا الترتيب، وفي أكتوبر الماضي شنت روسيا سلسلة من الضربات الكبيرة بمسيّرات وصواريخ أدت إلى توقف 60 في المئة من إنتاج الغاز المحلي في أوكرانيا خلال فترة حاسمة تسبق فصل الشتاء.

الاستقرار بأي ثمن

بحلول أواخر سبتمبر الماضي خفضت الضربات الأوكرانية إنتاج مرافق تكرير النفط الروسية بنحو 10 في المئة، ومع ذلك فحتى الآن، وعلى رغم كثافة الحملة، تمكنت روسيا من إبقاء الأثر محلياً وموقتاً في الغالب، حيث يقتصر نقص الوقود وارتفاع أسعار التجزئة إلى حد كبير على مناطق معينة، ولا سيما تلك الواقعة في جنوب روسيا وأقصى شرق البلاد وشبه جزيرة القرم، وقد ردّ الكرملين بفرض حظر موقت على تصدير البنزين وقيود جزئية على تصدير الديزل، وكذلك أعاد توجيه الإمدادات واُستغلت الاحتياطات.

هذه الإجراءات ليست مجانية، وكل مرحلة جديدة من التدخل أو السيطرة الحكوميين تشدد قبضة الدولة على القطاع، وبالفعل تحدد الآن الهوامش الثابتة وأنظمة الحصص ومراسيم الطوارئ بيئة التشغيل الخاصة بصناعة النفط، فمثلاً ردّ الكرملين على نقص الوقود في سبتمبر الماضي بإصدار الحكومة كثيراً من المراسيم التنفيذية المخصصة، وإصدار وزارة الطاقة كثيراً من الأوامر التي أعطت كلها الأولوية لتسليم البنزين والديزل إلى قطاعات الزراعة والنقل العام والحاجات الدفاعية، وحددت الحد الأقصى لأسعار بيع الوقود بالجملة والتجزئة في مناطق عدة، وعلقت صادرات البنزين وبعض خلطات الديزل موقتاً لتحقيق الاستقرار في السوق المحلية، وكلما تدخلت الحكومة قلت الحوافز التي تشجع الشركات على زيادة الإمدادات إلى السوق المحلية، وعلى رغم أن هذه الإجراءات قد تمنع الفوضى الفورية لكنها تقوض قدرة قطاع النفط على التكيف في الأجل البعيد.

ومن بين أكثر الآثار غير المباشرة لتعطل المصافي في روسيا أثره في الصادرات، فعندما تفقد روسيا قدرتها على التكرير يتعين عليها أن تقلل صادراتها من المنتجات النفطية، ومع ذلك يمكنها ببساطة أن تسترد كثيراً من الإيرادات المفقودة من طريق تصدير النفط الخام الذي كان مخصصاً للتكرير في روسيا، وبالنسبة إلى الحكومة فلا يهمها ذلك كثيراً لأنها تجمع الضرائب النفطية عند الآبار المنتجة، ومع ذلك فمن جهة الشركات يمكن أن تصل الخسائر الناجمة عن بيع النفط الخام بأسعار منخفضة بدلاً من بيع المنتجات النفطية المكررة إلى 10 دولارات للبرميل أو أكثر، وعلاوة على ذلك أعلنت الولايات المتحدة في الـ 23 من أكتوبر الماضي عقوبات جديدة تستهدف شركات النفط الرئيسة، بما في ذلك "لوك أويل" و"روسنفت"، ومن المرجح أن تفرض هذه الإجراءات ضغوطاً موقتة على صادرات النفط الخام الروسية، وهو ما يفاقم الوطأة على قطاع النفط داخل البلاد.

روسيا يجب أن تختار إما الدفاع عن مصافيها أو مصانع أسلحتها

تواجه موسكو معضلة، فمن ناحية تُضعف أسعار البنزين المرتفعة الطلب وتحقق التوازن في السوق، ومن ناحية أخرى كانت الحكومة قد تعهدت بالحفاظ على استقرار أسعار الوقود، وتتدخل لهذا الغرض إذا لزم الأمر، وتُعد تدخلات كهذه مكلفة وتبقي الطلب مرتفعاً في شكل مصطنع، لكن عدم القيام بها يخاطر بخفض معدلات التأييد الشعبي للحكومة وتآكل ثقة الرأي العام في استقرار روسيا.

وفي الوقت الحالي تحتفظ روسيا بما يكفي من القدرات الإنتاجية الفائضة وإمكانات الإصلاح لإبقاء المنظومة المعنية قيد العمل، ومع ذلك يؤدي تراكم الأضرار والآثار القاسية للإدارة الحكومية إلى تآكل الكفاءة والقدرة على الصمود، وحتى لو لم تتمكن أوكرانيا من تعطيل صناعة النفط الروسية فيمكنها إجبار موسكو على النظر في مقايضات مكلفة، إذ بات على روسيا أن تختار بين حماية مصافيها أو مصانع الأسلحة، وبين إعطاء الأولوية للصادرات أو لتلبية الطلب المحلي، وبين توجيه الموارد لإصلاح المصافي بأسرع ما يمكن أو استخدامها في مجالات أخرى، وكل معضلة من هذه المعضلات تضيّق هامش الخيارات السياسية المتاحة أمامها.

حتى الآن تُعد استجابة موسكو لأزمة الإمدادات متسقة في صورة ملاحظة من خلال الاحتواء والسيطرة والتعويض، إذ إن الكرملين مصمم على منع حصول نواقص واضحة يمكن أن تقوض ثقة الرأي العام، لكن الأدوات التي يعتمد عليها، مثل حظر التصدير والهوامش الثابتة والإعانات، توقع القطاع في ركود، ولا بد من أن المصافي الروسية تعمل الآن باستقلالية سوقية ضئيلة يؤجل كثير منها قرارات الاستثمار "إلى ما بعد انتهاء الحرب"، ولا تزال المصافي قيد التشغيل لكن مع تأجيل لعمليات الصيانة وتعجيل بالإصلاحات الطارئة، وتراكم متزايد لمسائل السلامة والكفاءة، والنتيجة ليست انهياراً بل تدهوراً هادئاً.

تحجر الدولة النفطية

ستحدث ثلاث متغيرات فرقاً في مصير صناعة النفط الروسية في الأجل البعيد، فالمتغير الأول هو إيقاع الضربات الأوكرانية، ما إذا كان بإمكان كييف الحفاظ على العدد والحمولة والتواتر على صعيد الهجمات بالمسيّرات أو زيادتها، وعلى القدر نفسه من الأهمية تبرز قدرة روسيا على الإصلاح أو مدى سرعة ترميم الوحدات المتضررة، واحتمال تحول نقص قطع الغيار إلى عامل معرقل، وأخيراً يتمثل المتغير الثالث في أسعار النفط وسياسات "أوبك+"، فمن شأن انخفاض الأسعار مثلاً أن يضع على المحك قدرة روسيا على الحفاظ على تأمين الإعانات والنفقات العسكرية في آن.

إذا جرى تقييد قدرة روسيا على التكرير بصورة أكبر فيمكنها أن تلجأ أيضاً إلى خفض معايير جودة الوقود بزيادة إنتاج البنزين المشتق من النفثا والديزل عالي الكبريت، وقد تساعد هذه الخطوات في تخفيف النقص في الإمدادات لكن ذلك سيكون على حساب جودة الهواء وعمر المحركات، كما تعوّل الحكومة على مساعدة بيلاروس التي قد تؤمّن ما يصل إلى 30 في المئة من حاجات روسيا من البنزين، ومع ذلك فإن هذه الحلول لا تعالج جذور المشكلة بل تخفف فقط من الآثار الطويلة الأمد لأزمة النفط الوشيكة.

لا تستطيع كييف تعطيل صناعة النفط الروسية بين عشية وضحاها، لكن من خلال إجبار موسكو على مكافحة الأضرار المستمرة، سواء إخماد حرائق المصافي أو منع إلحاقها أضراراً غير مباشرة بالاقتصاد، تضمن هذه الهجمات أن روسيا ستضطر إلى دفع كلفة أعلى من أي وقت مضى للحفاظ على الاستقرار، وفي الوقت الحالي ستستمر المصافي والمضخات في العمل، وستستمر الصادرات ولكن مع ارتفاع الكُلف وتقلص هوامش الربح وانخفاض القدرة على التعافي من الهجمات.

إن ما كشفت عنه الحملة الأوكرانية في شأن روسيا هو في الحقيقة نقطة ضعف أعمق: قوة عظمى في مجال الطاقة تكمن قوتها في البنية التحتية المبنية قبل عقود من الزمن، وتُصان من خلال عمليات مرتجلة، ويُحافظ عليها بممارسات قيادية بدلاً من مقاربات ابتكارية، وفي النهاية من المرجح أن تتآكل مصافي التكرير الروسية تحت وطأة الصدمات المتكررة والتصلب المؤسسي، في استعارة بلاغية هادئة لكن معبرة عن اقتصاد الحرب الروسي نفسه.

 

تاتيانا ميتروفا هي باحثة دولية في مركز سياسات الطاقة العالمية في "جامعة كولومبيا".

سيرغي فاكولينكو هو باحث بارز في "مركز كارنيغي" روسيا أوراسيا ببرلين.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 5 أكتوبر  2025

المزيد من آراء