ملخص
تبدو الصين حتى يومنا هذا صامدة في وجه الضغوط الأميركية، ولكن هل سيلين موقفها في وجه المطالب الأميركية، إذ يتصدر ملف شراء الصين للنفط الروسي جدول أعمال ترمب، خلال لقائه ونظيره الصيني شي جينبينغ في الـ30 من أكتوبر الجاري، ضمن جولته الآسيوية الحالية
قد تتوقف مهمة الرئيس الأميركي دونالد ترمب المعلنة لتحقيق السلام في أوكرانيا على سؤال بسيط: هل يستطيع إقناع العالم بالتوقف عن شراء الوقود الأحفوري الروسي؟
ففي الأسبوع الماضي، فرض ترمب عقوبات على أكبر شركتين نفطيتين في روسيا، "روسنفت" و"لوك أويل"، في محاولة لتقويض قدرة موسكو على تمويل آلتها الحربية، وبموجب هذه العقوبات فإن الشركات التي تواصل شراء النفط الروسي قد تفقد إمكان الوصول إلى النظام المالي القائم على الدولار، وهو ما قد تكون له تداعيات كبيرة على الهند والصين، اللتين برزتا كأكبر مستوردين للنفط والغاز الروسيين منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا قبل أكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام.
السؤال الأبرز، هو ما تداعيات الحظر الأميركي لعملاقي النفط الروسيين على أسواق النفط العالمية؟ فالعقوبات التي فرضها ترمب على شركتي إنتاج النفط الروسي العملاقتين، كانت لها تأثيرات سريعة، فبعد ساعات قليلة فقط من الإعلان عن العقوبات ارتفعت أسعار النفط العالمية ستة في المئة.
والسؤال الآخر كيف سيتأثر اقتصاد أكبر الدول المستوردة للنفط الروسي وهما الصين والهند؟ فبالنسبة إلى الصين التي كانت قد نددت بما وصفته بـ"البلطجة الأحادية" و"الإكراه الاقتصادي" من قبل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، على خلفية ما اعتبرته بكين "مشتريات شرعية" من النفط الروسي، متعهدة باتخاذ "إجراءات مضادة حازمة" إذا ما تضررت مصالحها الوطنية.
وتبدو الصين حتى يومنا هذا صامدة في وجه الضغوط الأميركية، ولكن هل سيلين موقفها في وجه المطالب الأميركية، إذ يتصدر ملف شراء الصين للنفط الروسي جدول أعمال ترمب، خلال لقائه ونظيره الصيني شي جينبينغ في الـ30 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، ضمن جولته الآسيوية الحالية.
أما بخصوص الهند فقد قال ترمب إن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أبلغه خلال مكالمة هاتفية هذا الأسبوع بأن نيودلهي "لن تشتري كميات كبيرة من النفط الروسي"، مشيراً إلى أن مودي "يريد أيضاً إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا".
وفي حين أكد مودي إجراء الاتصال الهاتفي الذي قدم خلاله ترمب تهانيه لمناسبة مهرجان "ديوالي"، لم يصدر رئيس الوزراء الهندي أي إعلان رسمي يؤكد نية بلاده تقليص وارداتها من النفط الخام الروسي.
ولكن يبدو أن نيودلهي قد استسلمت نوعاً ما لضغوط ترمب، فقد ظهرت تقارير تفيد بتوقف فوري في شحنات النفط الروسي إلى أكبر المصافي في الهند، أكبر زبون للخام الروسي.
ووفقاً لصحيفة "مينت" الهندية نقلاً عن مصادر مطلعة، تقترب كل من الهند والولايات المتحدة من التوصل إلى اتفاق تجاري واسع النطاق، يتضمن خفض واشنطن الرسوم الجمركية المفروضة على الصادرات الهندية إلى ما بين 15 و16 في المئة، مقارنة بالمستوى الحالي البالغ 50 في المئة، مقابل التزام نيودلهي خفضاً تدرجياً لوارداتها من النفط الروسي.
عقوبات ترمب موجعة ودقيقة لكنها ليست كارثية
المستشارة في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية إلينا سوبونينا، وصفت العقوبات الأميركية التي استهدفت شركتي النفط الروسيتين "روسنفت " و"لوك أويل" بأنها موجعة ودقيقة لكنها ليست كارثية بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي. وقالت سوبونينا في اتصال هاتفي مع "اندبندنت عربية" من موسكو إن "هذه العقوبات شكلت مفاجأة لروسيا وللقطاعين الحكومي والخاص"، مشيرة إلى أن "روسنفت" تابعة للحكومة، بينما تعد "لوك أويل" شركة خاصة. وأضافت أن الموازنة الروسية أصبحت أقل اعتماداً على عائدات النفط والغاز مقارنة بالأعوام السابقة، إذ إن نحو 70 في المئة من الإيرادات الحكومية تأتي اليوم من مصادر غير نفطية، مما خفف من حدة تأثير العقوبات الغربية في الاقتصاد الروسي. وأوضحت المستشارة الروسية أن بلادها تراهن أيضاً على أسعار النفط العالمية، مشيرة إلى أنه في حال واصلت الولايات المتحدة وأوروبا تركيز ضغوطهما على قطاع الطاقة الروسي، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار عالمياً، مما سينعكس سلباً في معدلات التضخم في الغرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقالت سوبونينا إن "موسكو تأمل في أن توقف واشنطن حملتها التصعيدية ضد الاقتصاد الروسي"، مضيفة أن "استمرار فرض العقوبات لا يخدم الاستقرار في الأسواق العالمية". وبسؤالها عن إمكان تراجع الصين والهند عن استيراد النفط الروسي تحت ضغوط أميركية، أوضحت سوبونينا أن "الصادرات الروسية إلى الصين مستمرة، وأن موسكو لا ترى مؤشرات إلى توقفها في المدى القريب". أما بالنسبة إلى الهند، فأشارت إلى أن بعض الشركات الهندية قد تتجه إلى تقليص تعاملاتها مع روسيا استجابة للضغوط الأميركية، لكنها استبعدت أن تتوقف نيودلهي كلياً عن شراء النفط الروسي، لافتة إلى أن الهند لا تزال في حاجة إلى هذا النفط في ظل محدودية البدائل المتاحة أمامها. وختمت سوبونينا بالقول إن أي خفض في حجم المبيعات إلى الهند سيؤدي بطبيعة الحال إلى تقلص نسبي في العائدات النفطية الروسية، لكنها شددت على أن الاقتصاد الروسي تمكن من التكيف مع العقوبات السابقة وسيواصل البحث عن أسواق جديدة ووسائل بديلة لتقليل الاعتماد على الشركاء التقليديين.
أوروبا المتضرر الأكبر
وقال عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد" للأوراق المالية والاستثمار في الإمارات وضاح الطه إن روسيا تعد من أكبر منتجي النفط في العالم، إذ تجاوز إنتاجها عام 2018 نحو 11 مليون برميل يومياً، بينما يبلغ حالياً نحو 9.4 مليون برميل، وذلك في إطار التفاهمات القائمة ضمن تحالف "أوبك+"، وأضاف أن "روسيا على رغم العقوبات ما زالت من أغنى دول العالم في إنتاج النفط والغاز، ومن الصعب إزاحتها من المشهد الطاقوي العالمي". وأوضح أن العقوبات الأميركية الأخيرة، التي شملت شركتي "روسنفت" و"لوك أويل" اللتين تمثلان معاً نحو نصف الإنتاج النفطي الروسي، لن تؤدي إلى انهيار الإنتاج أو خفضه إلى النصف، معتبراً أن مثل هذا السيناريو غير واقعي، لأن أي تراجع كبير في الإمدادات الروسية سيقود إلى قفزات حادة في أسعار النفط العالمية، مشيراً إلى أن حجب 4 ملايين برميل روسي يومياً عن السوق أمر شبه مستحيل، لأن أي نقص بهذا الحجم لا يمكن تعويضه بسهولة من قبل دول أخرى. وأشار إلى أن السعودية وحدها من بين أعضاء "أوبك" تمتلك القدرة على رفع إنتاجها إلى نحو 12 مليون برميل في غضون عام، لكنها تعمل ضمن الإطار الجماعي للمنظمة ولن تعوض حصة عضو آخر، على رغم حدوث مثل هذه الحالات في فترات سابقة.
ورأى الطه أن العقوبات الأميركية على قطاع الطاقة الروسي ستنعكس سلباً على الاقتصاد العالمي بأكمله، من خلال زيادة أسعار الطاقة وارتفاع مستويات التضخم، مما سيضغط على الاقتصادات المستهلكة، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة، مؤكداً أن حجب هذه الكميات الضخمة من النفط الروسي ليس خياراً منطقياً، لأن تداعياته ستطاول الجميع. وأضاف أن روسيا تمتلك إمكانات هائلة وخبرة طويلة في التعامل مع العقوبات، مما يمكنها من التهرب جزئياً وذكر بأن روسيا لا تعتمد فحسب على صادرات النفط، بل تمتلك ورقة الغاز الطبيعي القوية، إذ لا يزال هذا القطاع يحظى بأهمية استراتيجية كبيرة، ويمثل شرياناً رئيساً للعلاقات الاقتصادية بين موسكو وبكين. ولفت إلى أن خط أنابيب "باور أوف سيبيريا 1"، الذي بدأ تشغيله عام 2019، يربط شرق سيبيريا بالصين، بينما يجري التحضير لإطلاق مشروع "باور أوف سيبيريا 2"، وهو خط مقترح يمتد عبر منغوليا ليعزز صادرات الغاز الروسي إلى الصين بطول يبلغ نحو 2600 كيلومتر، وبقدرة تصل إلى 50 مليار متر مكعب سنوياً لمدة 30 عاماً. وأكد أن هذه المشاريع تظهر أن الجغرافيا تخدم روسيا وتمنحها عمقاً استراتيجياً في مواجهة الضغوط الغربية.
ورأى الطه أن أوروبا هي المتضرر الأكبر من العقوبات الأميركية على روسيا، لأنها تصر على معاقبة موسكو من دون أن تدرك أنها تعاقب نفسها، وأوضح أن كلف استيراد الغاز والنفط ارتفعت بصورة كبيرة بعد توقف الإمدادات الروسية عبر خط "نورد ستريم" الذي تعرض للتفجير، إذ كانت تلك الإمدادات أرخص بكثير من المصادر التي تعتمدها أوروبا اليوم، وأضاف أن هذه الكلف المرتفعة انعكست مباشرة على النمو الاقتصادي ومعدلات التضخم في دول الاتحاد الأوروبي، التي تعاني تباطؤاً واضحاً في وتيرة التعافي الاقتصادي. وقال الطه "الضرر لا يقع على روسيا وحدها، بل يمتد إلى الدول التي فرضت العقوبات عليها، خصوصاً في أوروبا، إذ تتزايد كلفة الطاقة وتضعف القدرة التنافسية للصناعات الأوروبية". أما بالنسبة إلى الهند، التي تعد أحد أبرز مشتري النفط الروسي في الوقت الحالي، فقد أشار الطه إلى أن نيودلهي قد تتراجع تدريجاً عن شراء النفط الروسي، لأن الهند ليست الصين، مضيفاً أن واشنطن ربما تغض الطرف عن شراء بكين النفط الإيراني، لكنها لن تتسامح بالقدر نفسه مع مشتريات النفط الروسي.
وفي ما يتعلق بقدرة العقوبات على إضعاف قطاع الطاقة الروسي، أكد الطه أن حجب إنتاج شركتي "روسنفت" و"لوك أويل" بالكامل أمر غير ممكن عملياً، لأن موسكو تملك الخبرة التقنية والقدرة التنظيمية لتفادي الشلل، إضافة إلى أن العامل الجغرافي يمنحها مزايا تجعلها أقل عرضة للعزلة الكاملة. واختتم الطه بالقول إن روسيا، على رغم الضغوط الغربية، فلا تزال تمتلك قوة عسكرية وصناعية متنامية، إذ حولت جزءاً من صناعاتها المدنية إلى صناعات عسكرية، لا سيما في مجال إنتاج الصواريخ والمعدات الحربية، مما يمنحها تفوقاً نسبياً في الحرب الدائرة مع أوكرانيا ويجعل تأثير العقوبات الغربية محدوداً في قرارها الاستراتيجي.