Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا أعد الفلاسفة لمواجهة زمن "ما بعد الإنسان"؟

المتفائلون والمتشائمون يجمعون على أن العقدين المقبلين سيشهدان تحولات دراماتيكية لم تر البشرية ما يماثلها

مصير الإنسان (غيتي)

ملخص

يخشى المرء وهو يتابع حراك الكتابة الفلسفية العربية الراهن في ما خص "الثورة الصناعية الرابعة"، من أن يتكرر المصير ذاته الذي رافق ظهور النظريات النقدية الغربية كالبنيوية والتفكيكية والسيميائية، التي أكل الزمان عليها وشرب في بلادها، وبعد ذلك تلقفتها الكتابة العربية كأنها فتح معرفي لم تصل إليه أذهان البشر.

العالم، في شقيه التقني والفلسفي العلمي، منهمك في معاينة العواقب المرجحة لتطرف الذكاء الاصطناعي، وبخاصة التوليدي منه والفائق السرعة، الذي يهدد البشرية، وينذر بفناء الوجود، وظهور زمن "ما بعد الإنسان".

الجهود الفلسفية العربية في مواجهة هذه المعضلة الفارقة في التاريخ البشري تبدو شحيحة ومتفرقة، وفي مجملها مقالات سريعة ودراسات تقرأ ما يجري في العالم وتعاينه بأثر رجعي. كأن المفكرين والفلسفة ما انفكوا أسرى العلم القديم الذي أرخى أشرعته في موانئ الثورات الصناعية الثلاث الأولى: الثورة الصناعية الأولى التي عنوانها المحرك البخاري عام 1765، والثانية عام 1870 وهي ثورة الكهرباء والنفط، والثالثة تجلت عام 1969 بظهور الكمبيوتر والإنترنت وتقنية المعلومات. أما الثورة الرابعة التي قد تغير وجه التاريخ (إلى الأبد) فهي ثورة الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والنانو، وعلم الجينات، والتي يتسارع إيقاعها بصورة "مرعبة" تحمل معها نذر الخوف والويل.

إتقان الثورة الصناعية الرابعة

وعلى رغم حفاوة المؤسس والرئيس التنفيذي لـ"المنتدى الاقتصادي العالمي" كلاوس شواب بفضائل الثورة الرابعة، في كتابه الذي حمل الاسم ذاته، وصدر عام 2016، فإن "الوجه القبيح" لهذه الثورة لما يكن عارياً قبل نحو تسعة أعوام، عندما أبدى شواب حماسته بتقنيات هذه الثورة الحبلى بـ"إمكانات كبيرة للاستمرار في توصيل مليارات الأشخاص إلى الويب، وتحسين كفاءة الأعمال والمؤسسات في صورة جذرية، والمساعدة في تجديد البيئة الطبيعية من خلال إدارة أفضل للأصول"، وقد تجلت هذه الأماني في الاجتماع السنوي للمنتدى الذي انعقد في سويسرا، عام صدور الكتاب، تحت شعار "إتقان الثورة الصناعية الرابعة".

الاقتصاديون ورجال الأعمال وأهل الثراء العالمي وجدوا في الثورة الرابعة منبعاً لا ينضب لتخصيب ثرواتهم، ولم يصدر عن غالبيتهم أي تحذير في شأن المآلات التي سيقود العالم إليها مطورو الذكاء الاصطناعي التوليدي في وادي السيليكون. وأما الفلاسفة والمفكرون (وخصوصاً العرب منهم) فما زالوا ينتظرون تداعيات الهزة الارتدادية التي لم تصل إلى حواسهم بعد.

هذا شأن المال ومالكيه والمستثمرين فيه على مدى العصور، ولكن أين دور أهل الفكر في ترشيد النزعة المتعاظمة لجمع المال من دون روادع، وكيف يمكن ضبط التسارع الفلكي في تطوير ذكاءات تتخطى ذكاء الإنسان، وتعمل بالتالي على التحكم به وبأقداره من خلال روبوتات تتمتع بذكاء لا محدود، وبقدرة مذهلة على إنتاج آلياتها الذاتية، وصناعة صندوقها الأسود الخاص الذي يحتفظ بأسرار لا يمكن فك شيفرتها إلا من خلال الآلة التي أنتجتها.

حافة الهاوية

وليس شططاً أو محض خيال جامح إذا وصفت العمليات الجارية الآن على تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، بأنها دفع شديد إلى مرحلة "حافة الهاوية"، فثمة ما يشبه الإقرار من المتفائلين والمتشائمين لآلية عمل هذه الأنظمة بأن العقدين المقبلين سيشهدان تحولات دراماتيكية لم ترَ البشرية لها مثيلاً.

ولأن الحراك في وادي السيليكون أوصل التنافسية بين الشركات والدول إلى مستوى الصراع، فإن الهدف هو الاستئثار والغلبة في الميدان المالي، ومضاعفة الربحية، والتوسع والهيمنة، حتى لو كان ذلك على حساب القيم الأخلاقية، والقواعد الدينية والروحية، فمن أين تنبع هذه القيم ما دام غالبية مطوري أنظمة الذكاء التوليدي هم مهندسون وتقنيون صغار جعلهم عملهم في هذا المضمار مثل الآلات التي يصنعونها.

بيد أن طموح هؤلاء الفتية البارعين أن يجعلوا الآلات تعي وتدرك وتشعر، وتبدي ردود فعل ذات طبيعة عاطفية فتحزن وتغضب وتتألم وتبتهج. ففي نهاية العام الماضي أطلقت الصين روبوتاً جرى برمجة عاطفته لتلبية تلك المشاعر السابقة، وقيل إنه سيعمل على تطوير الخدمات الصحية المقدمة للمسنين.

لكن هذا ربما يكون أول "الغيث"، إذ تنشغل مختبرات وادي السيليكون على إنتاج وعي للروبوت المستقبلي بحيث يمتلك الإدراكات الحسية والأفكار والمشاعر، وهو أمر يجزم باستحالة تحققه أو صعوبته الفائقة كثير من العلماء، وبخاصة أولئك الذين يمزجون أبحاثهم بطابع فلسفي تأملي، مثل عالم الأعصاب البريطاني أنيل سيث، الذي شدد في كتابه "أن تكون أنت" (Being You: A New Science of Consciousness) على ضرورة التمييز بين الذكاء والوعي، فالآلة قد تتصرف بذكاء خارق من دون أن تشعر بشيء على الإطلاق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفضلاً عن ذلك، فالآلات والأنظمة الحسابية، وفق سيث، لا تمتلك خلايا تسعى إلى البقاء أو تحافظ على توازنها الداخلي، ومن الصعب تصور أن تنشأ لديها خبرة واعية كما نعرفها نحن.

الوعي حير الفلاسفة

ربما يكون الوعي من أشد القضايا التي حار الفلاسفة في تعريفها بوضوح باستخدام لغة ومفردات خالية من التشويش، لكن ذلك لا يعفيهم من "واجب" التحذير من مغبة انزلاق أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى مستوى تحكم الآلة بالإنسان والوجود البشري، وإخضاع العالم لبرمجتها اللاأخلاقية القائمة على التحيزات والشطط والسيطرة على قرارات الحرب باستخدام أسلحة "ذكية" شاهد العالم ويلاتها في غزة، وهو ما كشف عنه تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" أظهر وثائق مسربة عن اعتماد جيش الاحتلال الإسرائيلي بصورة كبيرة على تكنولوجيا السحابة والذكاء الاصطناعي التابعة لشركة "مايكروسوفت"، خلال المرحلة الأكثر كثافة من القصف الإبادي لغزة.

أمام الفلسفة، وهي تحتفل خلال الأسبوع الثالث من الشهر الجاري بيومها العالمي، مهام جسيمة لجهة التنسيق مع شركات وادي السيليكون لإنتاج خوارزميات رؤوفة بالكون تعتمد الرشد والعدالة والمساواة، وتتوخى الخير للبشر أجمعين. وهذا يتطلب جهداً لوجيستياً موصولاً يطور الميثاق الذي أعلنته منظمة اليونيسكو عام 2021 حول حول "أخلاقيات الذكاء الاصطناعي" الذي وقعت عليه الدول المنضوية في إطار الأمم المتحدة كافة.

الدمج بين الأخلاق والفلسفة يزود الذكاء الاصطناعي بوعي عميق بالآثار الأخلاقية لقراراته، كما يرى كتاب ونشطاء لا يمانعون تنمية أرباح شركات وادي السيليكون، لكنهم خلال الوقت نفسه، يتطلعون ويعملون على حماية الكوكب من نزوة آلة أو هلوسة نظام يجزم كثر بأن وعيه الذاتي، مهما تطور، لن يدرك المرامي الجدلية العميقة لمقولة كانط: "الفعل الأخلاقي هو ما ينبع من الواجب لا من المصلحة أو النتائج، ويعتمد على إرادة خيرة تسعى للامتثال للقانون الأخلاقي الذي يصدره العقل نفسه".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة