ملخص
بدا للمراقبين مشهد الرئيس مع عائلته وخلال لقاء إدلب أقرب لإعلان حقبة جديدة في البلاد يمكن لمس مؤشراتها ولو كان بصورة رمزية تقود نحو فرض الانضباط بعيداً من ثقافة الفساد والشبهات والكسب غير المشروع وغنائم الحرب واستباحة الأموال العامة والخاصة.
أقدم الرئيس السوري أحمد الشرع، على عقد اجتماع عائلي أخيراً، بحضور والده حسين الشرع، وإخوته ماهر الذي يشغل منصب أمين عام رئاسة الجمهورية، وحازم رئيس هيئة الاستثمار، وجمال الذي يعمل في التجارة وآخرين، محذراً من استخدام اسم العائلة أو استغلالها في أي كسب غير مشروع أو استغلال نفوذ سياسي يعود بتبعات اقتصادية.
وبناء على الاجتماع العائلي، أمر الرئيس الشرع بإغلاق مكتب شركة أخيه جمال الشرع في دمشق، الذي كان يزاول أعمالاً تتعلق بالتجارة والسياحة وغيرهما، بل وجرى ختم المكتب بالشمع الأحمر والإغلاق الرسمي بحسب شهود عيان، وشخصيات مقربة من جمال نفسه، التي أكدت لـ"اندبندنت عربية" وقوع الحادثة.
المصادر قالت، إن قراراً رئاسياً إضافياً وجه المؤسسات الحكومية بعدم التعامل مع جمال الشرع، بسبب اتهامات باستخدام اسم عائلته لتسهيل تجارته، وبما يرتبط بمكافحة الفساد الناجم عن ذلك، كما أنه كان يتنقل بسيارة نوع "مرسيدس" من الطراز الفاخر من دون أن تحمل لوحات مرورية. وزارة الإعلام السورية لم توضح التهم الموجهة لجمال صراحة، لكنها اكتفت بالإشارة إلى أنه "لم يكن مخولاً له ممارسة أي نشاط اقتصادي أو تجاري".
بين الإصلاح الحقيقي والتقية السياسية
في خضم ذلك كان الرئيس الشرع زار محافظة إدلب، شمال غربي سوريا، في وقت سابق، ليلتقي هناك رفاقاً وقادة سابقين ومسؤولين ورجال أعمال حاليين بصورة ودية بعيداً من أجواء اللقاءات الرسمية، وتنقل وكالة "رويترز" أن الرئيس فوجئ بمظاهر البذخ من خلال سيارات الحضور الذين قاربوا الـ100 شخص، مما دفعه لتوبيخهم علانية، ثم استداك ممازحاً "لم أكن أعلم أن رواتب الحكومة مرتفعة إلى هذا الحد؟!"، وذلك على خلفية استخدام معظم الحاضرين سيارات باهظة الثمن على شاكلة "كاديلاك اسكاليد وشيفروليه تاهو ورينغ روفر وغيرها".
الشرع سأل الحاضرين، "ألستم أبناء الثورة؟ هل أغرتكم الدنيا بهذه السرعة؟"، موجهاً إياهم بتسليم مفاتيح سياراتهم لمصلحة الدولة قبل مغادرتهم، وإلا سيخضعون لمساءلة قانونية حول الكسب غير المشروع، وعلى رغم ذلك لم يسلم سوى عدد قليل مفاتيح سياراتهم في النهاية، بحسب "رويترز".
بدا للمراقبين مشهد الرئيس مع عائلته وخلال لقاء إدلب أقرب لإعلان حقبة جديدة في البلاد يمكن لمس مؤشراتها ولو كان بصورة رمزية تقود نحو فرض الانضباط بعيداً من ثقافة الفساد والشبهات والكسب غير المشروع وغنائم الحرب واستباحة الأموال العامة والخاصة.
سوريون كثر رحبوا بتلك الخطوات معتبرين أنها عقد جديد نحو امتصاص النفوذ المرتبط بالوظيفة والسلطة، فيما رأى آخرون أنها مجرد استعراضات لا طائل منها طالما أنها لم تدخل في بنية الدولة العميقة لتفكك جذور الفساد المترامية في الوزارات والمؤسسات والمديريات والاستثمارات والاحتكارات. ويذهب أصحاب هذا الرأي لتبسيط الأمور أكثر انطلاقاً من القاع نحو الهرم مطالبين بمنع مصادرة المنازل والممتلكات وتهجير الأهالي من أحياء وقرى بصورة تعسفية لمصلحة سطوة السلاح والفصائل.
وبين معجب بالإجراءات ومشكك بمفعاليها المباشرة تظل قراءات المشهد متناقضة وطارحة لسؤال جوهري، "هل كان ذلك بداية مشروع إصلاح سياسي واقتصادي واسع أم إنه مجرد ’تقية سياسية’ لتلميع صورة السلطة في الداخل والخارج خصوصاً مع كثافة تداول وضخ هذين الحدثين؟".
فساد وحصار داخلي
بعد مرور نحو عام على سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024، انتظر السوريون كثيراً من الإصلاحات، وكثيراً من التغييرات الشاملة، لكن الوعود الفعلية بالعدالة الاجتماعية وتطهير مفاصل الدولة من الفساد والمحسوبيات لم يسر على أفضل ما يرام، بل إن كثيراً من الأمور زاد تدهورها في حياة السوريين، وزاد فقرهم لأسباب مركبة رغم أن حدود الرواتب ازدادت فعلياً للموظفين.
خلال اليومين الماضيين قررت الحكومة السورية رفع أسعار الوقود ومن ثم الكهرباء، وهي عصب البلاد بسكانها واقتصادها، والغائبة الفعلية منذ أعوام طويلة، إذ إن ساعات التغذية هي قليلة للغاية على مدار اليوم، أحياناً ساعتان فقط طوال النهار، وأحياناً ست ساعات، أكثر أو أقل، تبعاً للمنطقة مع وعود دائمة بالتحسن الكبير القادم، ومن أجله جرى إبرام عقود استجرار الغاز من أذربيجان قبل أشهر عبر تركيا وبدعم مالي قطري، وبعد سيل الأرقام المهولة التي دفعت اتضح أن الغاز غير مطابق لمحطات التشغيل السورية، وعلى رغم ذلك سارت الأمور كما هي، وظل الناس في الانتظار.
رفع تسعيرة الكهرباء الأخيرة كان 60 ضعفاً عما هي عليه، أو بعبارة أخرى ازدادت 5 آلاف في المئة، مما يعني أن الاستهلاك الذي كان يدفع شهرياً ببضعة دولارات سيدفع الآن بعشرات أو مئات الدولارات تبعاً للاستهلاك، وهو ما تعجز عنه أكثر من 90 في المئة من الأسر السورية بحسب سلم الرواتب الشحيح، وهو ما يفرض في سابقة مؤلمة بالنسبة إليهم أن يفكروا في ساعات تشغيل البراد والثلاجة والتدفئة والإنارة والتلفاز وغيرهم، فراح السوريون يحسبون كلفة التشغيل الساعي لكل جهاز كهربائي.
وبحسب وزير حماية المستهلك السابق عمرو سالم فإن الغاية المعلنة هي تخفيف الخسائر، ولكن التجربة أثبتت أن رفع الأسعار لا يصنع إصلاحاً، فتحميل الأسر الفقيرة هذا العبء، سيفاقم الأزمات بدل حلها، "فلا يجوز أن تنتقل خسائر الدولة إلى جيوب المواطنين، الحل واضح عبر سعر واحد للكلفة الحقيقية مع منحة شهرية للفئات الهشة، وجدولة ديون بلا فوائد، ومسار تظلم واضح يحسم خلال 10 أيام".
مراهقة حكومية
بدوره يصر الصناعي السوري البارز عصام تيزيني على المبدأ الفرنسي الاقتصادي "دعه يعمل.. دعه يمر"، معتبراً أن أداء الحكومة السورية يحمل ملامح المراهقة، متسائلاً "لماذا يصر أعضاء الحكومة على استفزاز الفقراء وهم أكثر من 85 في المئة من الشعب، لماذا يريدون استرجاع آلام الدفع التي عولجت جزئياً مع بدء التحرير؟ تلك تصرفات غريبة وغير مفهومة، إن السوريين متعبون ولا يجوز العبث بقدرتهم على الحياة بعد الفرح الذي عاشوه إبان انتصار الثورة".
وقال، "ثلاثة قرارات موجعة في أسبوع واحد! منع استيراد الخضراوات واللحوم والفروج الحي والبيض، رفع أسعار الكهرباء لدرجة لا يتحملها الأغنياء"، مضيفاً "كان يجب الابتعاد من جيوب السوريين المهترئة، والاعتماد على مصادر تمويل أخرى ريثما يجري الرفع بصورة تدريجية هادئ، أما القرار الثالث فهو السماح بتصدير خردة المعادن الناتجة من الدمار الذي خلفه النظام البائد، علماً أن سوريا تحتاج مئات ملايين الأطنان تلك لإعادة الإعمار، بدل إعادة استيرادها مستقبلاً".
من الجبهات إلى المكاتب
قبيل سقوط النظام بأسابيع قليلة لم يكن يتخيل قادة الجبهات والمحاور على امتداد الخريطة، الذين تجمعوا في إدلب في نهاية المطاف أنهم سيظفرون بنصر كبير في النهاية ليقودهم من المغارات والكهوف والأنفاق والجبهات وساحات وميادين القتال إلى مكاتب قيادة البلد وإلى مقاعد السلطة، مديرين سياسة واقتصاداً وعسكراً وجيشاً من الموظفين المدنيين وملايين من السوريين في محافظات البلاد.
تلك النقلة السريعة والمفاجئة وغير المخطط لها عملياً من ثقافة السلاح إلى بيروقراطية الدولة أظهرت هشاشة البنية الإدارية التنظيمية والتنفيذية في إدارة الشأن العام من قبل السلطة الجديدة ومنذ أيامها الأولى، وقد يكون ذلك لا يعاب عليها، فالانتقال من حكم محافظة محاصرة، إلى بلاد كاملة يحتاج مرحلة زمنية واسعة للتأقلم، وعلى رغم ذلك حققت السلطة السورية الجديدة نجاحات خارجية نسبية، فيما سقطت مراراً في وحل الداخل.
يشير التدقيق في خلفيات مفاتيح السلطة العامة بدمشق ضمن المستويات الرئيسة والفرعية إلى أن غالبية أصحاب المناصب هم بصورة شبه قطعية قادمون من خلفيات عسكرية أو أمنية أو علمية بثوب شرعي، وهذا ما جعل كثراً حتى من خارج سوريا يطلقون عليها اسم "دولة الشيوخ". وهؤلاء المقاتلون، الذين كانوا بمعظمهم يوماً جزءاً من تنظيمات مصنفة على اللوائح العالمية للإرهاب، يقودون اليوم وزارات وإدارات عسكرية وأمنية وقضائية ومدنية وتعليمية، ولم يكن هذا الأمر بطبيعة الحال غير متوقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حين يرى سوريون أن رحلة عام كانت كافية لاندماجهم في المؤسسات، يرى آخرون أنهم لا يزالون في حاجة إلى مزيد من الوقت والتعلم للتمكن من تقديم أفضل صورة ممكنة في الأداء والعمل، وفي الإطار يبدو الشرع نفسه ووزير الخارجية أسعد الشيباني وآخرون بأنهم قطعوا أشواطاً كبرى في الاندماج والتعلم والتحول السريع، فيما يبقى الحمل كبيراً على من سبق غيره في التموضع والانصهار ضمن جسد الدولة لا الفصيل أن يلزم البقية مهما ارتفعت تسمياتهم الوظيفة بأن يخرجوا من دائرة غرفة العمليات الميدانية ليصير اتخاذ القرار مؤسساتياً وليس كمن ينفذ خطة اقتحام.
المتخصص في علم الاجتماع السياسي عبود ناصيف يقول إن "السلطة الحالية تقتل نفسها بالقرارات الفجائية، والاستمرار بنهج السلطة السابقة باعتماد الولاءات لا الكفاءات، وبتسريح عشرات آلاف الموظفين الحكوميين على أسس طائفية ومناطقية، واعتماد الأوامر الشفهية، وتحكيم الشيوخ بالقضاء والوزارات والمؤسسات والتعليم، وضرورة تفعيل مبدأ المساءلة والشفافية، والتوقف عن التخبط الإداري والميداني والأمني، ومصالحة المكونات لنتوقف عن مشاهدة تظاهرات تشتم طوائف ومكونات أخرى".
مخاوف من تدوير السلطة السابقة
تمر سوريا اليوم بما يعرف سياسياً بـ"المرحلة الانتقالية" التي تقودها سلطة موقتة، وهي مرحلة حرجة للغاية، بخاصة إذا اتسمت بالغموض وانعدام الشفافية والارتجال والتخبط الإداري والمؤسساتي وهيمنة الفكر العسكري الشمولي والإقصائي على جوانبها، تحديداً أن الأشهر الماضية كانت مريرة للغاية، على رغم تذوق الناس طعم الحرية، لكن الأمر كان نسبياً للغاية، ففي أشهر ثمانية فقط بعد سقوط النظام السابق قتل 10 آلاف سوري، وارتكبت مجزرتان في السويداء والساحل، وفجرت كنيسة في دمشق، ولم تتوقف حتى اليوم حالات القتل اليومي.
الأكيد الآن أن تجربة الرئيس الشرع تسير على حافة دقيقة للغاية بين الواقعية السياسية المرتبطة بالإصلاح والاقتصاد ودمل الجراح وتفعيل مسار العدالتين الانتقالية والاجتماعية، وبين مغريات إعادة إنتاج السلطة السابقة، وحتى الآن تتركز المؤشرات بحسب متابعين سياسيين على أن سوريا تقبع في المنطقة الرمادية من تاريخها، وهي مرحلة معقدة تحتفظ بأشياء سيئة مما سبقها وتصنع بأيديها أشياء سيئة سترافقها وتحاول الاعتدال بينهما لتقديم صورة حكم جديد، مقبول محلياً وإقليمياً ودولياً.
ذلك يتطلب قبل كل شيء إعادة ترتيب حسابات البيت الداخل تحت أنظار المجتمع الدولي القلق من الانتهاكات وملفات مكافحة الإرهاب والمقاتلين الأجانب والعلاقات مع الجوار وضمناً إسرائيل، فبعض الدول ترى أن الشرع قدم إشارات إيجابية، فيما دول أخرى تراجع دعمها نسبياً، أما الأهم في كل ذلك فهو السوري نفسه، الذي يقارب حياته داخل البلاد باليوم والساعة والدقيقة والثانية تحت وطأة ظروف مختلفة تراوح ما بين الخوف والقتل والاختطاف والفقر وغياب الأفق المستقبلي، خلاف الدول المراقبة، التي تقرأ المشهد السوري بالأسابيع والأشهر والسنين ضمن حسابات جيوسياسية وجيو استراتيجية لا يكون فيها لوزن المواطن السوري بصورة فردية قيمة فعلية تذكر.ش