ملخص
عندما تنبه العالم وأرسل وفوده للوقوف على حقيقة ما يجري في دارفور من فظائع في 2003، ومنها زيارة وزير الدفاع الأميركي السابق كولن باول، تكونت لجنة دولية للتحقيق ورفعت تقريرها إلى مجلس الأمن الدولي الذي أحال بدوره الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية، في سابقة هي الأولى التي يتدخل فيها المجتمع الدولي بأدواته الجنائية في شأن جرائم دارفور، نتج منها أوامر بالقبض على عدد من المتهمين كمطلوبين للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.
أعادت جرائم وفظاعات قوات "الدعم السريع" في مدينة الفاشر عقب سيطرتها عليها الأحد الـ26 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، التي راح ضحيتها أكثر من ألفي قتيل خلال ثلاثة أيام فقط، للأذهان مذابح مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور، نهاية سبتمبر (أيلول) 2023، التي ارتكبتها القوات نفسها وراح ضحيتها أكثر من 1200 قتيل، معظمهم من قبيلة المساليت ذات الأصول الأفريقية التي تشكل غالبية سكان المدينة، وفر كثيرون صوب الحدود التشادية الأقرب لهم.
مذابح من دون جناة
يحفظ التاريخ أيضاً الجرائم التي شهدتها دارفور الغارق في الحرب والصراع منذ عامي 2002 و2003، غير أنه طوال هذا التاريخ الدامي الحافل بالمجازر الموثقة، لم تتم حتى اليوم محاكمة أحد بتهمة ارتكاب جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، باستثناء متهم واحد سلم نفسه طوعاً هو علي محمد علي عبدالرحمن المعروف بـ"علي كوشيب"، ودانته المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، فهل عززت تلك المسيرة الطويلة من الإفلات من العقاب تكرار جرائم الحرب والإبادة وتوسع نطاقها في الخرطوم والجزيرة وليس دارفور وحدها؟
التاريخ المروع يتكرر
وإزاء ما تكشف في شأن العثور على مقابر جماعية بعد المجزرة التي فعلتها قوات "الدعم السريع" في مدينة الجنينة عاصمة غرب دارفور، أشار المدعي العام لـلمحكمة الجنائية كريم خان، أمام مجلس الأمن في الـ28 من يناير (كانون الثاني) الماضي، إلى أن العالم بات وجهاً لوجه أمام حقيقة تكرار التاريخ المروع ذاته الذي أدى قبل نحو عقدين من الزمان إلى فتح التحقيق الأول في شأن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
واتهمت منظمات أممية وفق معلومات وتقارير موثقة ميليشيات "الدعم السريع" وأخرى متحالفة معها بالتورط في عمليات تطهير عرقي سابقة في غرب دارفور، في وقت أعلن فيه كل من الجيش و"الدعم السريع"، أنهما سيحققان في التقارير في شأن عمليات القتل والانتهاكات ومحاكمة كل من يثبت تورطهم، لكن لم يجر حتى اللحظة معاقبته أي من المشار إليهم.
كل الانتهاكات
في السياق، وصف المحامي الحقوقي وعضو هيئة الاتهام في محاكمة الرئيس عمر البشير في انقلاب 1989 المعز حضرة إعلان الادعاء العام بالمحكمة الجنائية الدولية في وقت سابق عزمه على فتح تحقيق جديد بالتنسيق مع حقوق الإنسان الدولية في تكرار جرائم الإبادة الجماعية بغرب دارفور خلال الحرب الراهنة، بأنه يشكل خطوة جيدة، مطالباً بضرورة استصحاب كل الانتهاكات التي وقعت في كل أنحاء السودان منذ 1989 وحتى اليوم وليس دارفور فقط.
كما يجب وفق حضرة، أن تشمل كذلك الجرائم المرتكبة منذ فض اعتصام المحتجين العنيف أمام القيادة العامة وانقلاب الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021 حتى الآن، بوصفها جرائم تستدعي التحقيق في مقتل أكثر من 220 من المتظاهرين السلميين في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى بالسودان.
الحصانات والعدالة
يربط حضرة، ظهور ظاهرة الإفلات من العقاب بمجيء نظام عمر البشير في الـ30 من يونيو (حزيران) 1989 وإقرار نظام حصانات غير معلنة لكل منسوبي حزب المؤتمر الوطني، مما كان سبباً أساسياً في انهيار مؤسسات العدالة المتمثلة في النيابة العامة والقضاء والشرطة عقب تسييسها من النظام، قائلاً "اعترفوا بأن الدولة كلها كانت تخدم الحركة الإسلامية، لذلك لم تكن توجد عدالة بعد أن أصبحت كل المؤسسات في أيديهم، يقتلون ويرتكبون الفظائع من خلال مؤسسات الدولة نفسها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أضاف "لكن عندما تنبه العالم وأرسل وفوده للوقوف على حقيقة ما يجري في دارفور من فظائع في 2003، ومنها زيارة وزير الدفاع الأميركي السابق كولن باول، تكونت لجنة دولية للتحقيق ورفعت تقريرها إلى مجلس الأمن الدولي الذي أحال بدوره الأمر إلى المحكمة الجنائية الدولية، في سابقة هي الأولى التي يتدخل فيها المجتمع الدولي بأدواته الجنائية في شأن جرائم دارفور، نتج منها أوامر بالقبض على عدد من المتهمين كمطلوبين للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية".
وبموجب قراره رقم 1593 في الـ31 من مارس (آذار) 2005، أحال مجلس الأمن على ضوء تقرير لجنة التحقيق الدولية في جرائم الحرب والإبادة الجماعية بدارفور، إلى المحكمة الجنائية الوضع في الإقليم، مطالباً السودان بالتعاون بصورة كاملة مع المحكمة.
لاحقاً أصدرت المحكمة الجنائية مذكرة اعتقال في حق عمر البشير، الرئيس آنذاك في مارس 2009، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وأخرى في يوليو (تموز) 2010، بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، مع عدد من معاونيه على رأسهم وزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين ووزير الدولة بالداخلية أحمد هارون.
أشار حضرة إلى أن إدانة المحكمة الجنائية خلال الأشهر الماضية للمطلوب علي كوشيب، لا تعني كثيراً سوى في مدلولاتها الأدبية، لأن كوشيب لم يكن سوى بيدق صغير في الجرائم المرتكبة، بينما لا يزال الرئيس المعزول البشير ومعاونوه، المطلوبون الأساسيون طلقاء، لأن النظام عاد هو نفسه بالعقلية ذاتها والتوجه.
يتابع "للأسف ونتيجة للإفلات من العقاب ها هي نفس جرائم 2003 تتكرر في 2025 بكل من الفاشر وبارا وغيرهما من المناطق، وهناك جرائم ترتكب من كل الأطراف المشاركة في الحرب، لذلك وتبعاً لاستمرار الإفلات من العقاب بات الدم السوداني رخيصاً".
الإفلات وتأجيج الانتهاكات
في منتصف فبراير (شباط) الماضي أشار تقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، إلى أن ترسخ حالة الإفلات من العقاب أدى إلى تأجيج الانتهاكات والتجاوزات الجسيمة لحقوق الإنسان في السودان مع اتساع رقعة القتال إلى أجزاء أخرى من البلاد وانخراط جهات مسلحة إضافية، داعياً إلى بذل جهد دولي أوسع نحو المساءلة ووقف تدفق الأسلحة.
واستعرض التقرير، الهجمات التي تمت على المناطق المكتظة بالسكان ومخيمات النازحين والمرافق الصحية والأسواق والمدارس، كما وثـق أيضاً إعدامات بإجراءات موجزة ذات دوافع عرقية.
العقاب والردع
على الصعيد ذاته، يرى أستاذ القانون الدولي محمود سعيد عبدالرحمن أن قرار مجلس الأمن الدولي السابق بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية ما زال صالحاً للتطبيق وفعالاً، لأن مثل تلك الاتهامات لا تسقط بالتقادم وتلاحق مرتكبيها حتى تتم محاكمتهم.
أشار عبدالرحمن إلى أن "العدالة الدولية تضع في اعتبارها آليات العدالة الوطنية ومدى كفاءتها ورغبتها، وينبغي أن يتكامل كلاهما لتحقيق العدالة، كما تدرك في الوقت نفسه أن الإفلات المستمر من العقاب عموماً وليس في جرائم دارفور فقط، هو مدعاة لتكرار الجرائم والانتهاكات نفسهما، إذ إن اطمئنان المجرم بأن العدالة لن تطاله يجعله يتمادى أكثر في جرائمه، وبذلك يصبح الإفلات محفزاً على مزيد من الجرائم، كما أنه من دون عقاب لن يكون هناك معنى للقانون وللعدالة وسيادة حكم الغاب".
ثقافة محمية
على نحو متصل أوضح رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور الصادق علي حسن أن "الإفلات من العقاب في السودان صار ثقافة محمية بواسطة شاغلي السلطة، وحتى الذين يلاحقون جنائياً من خلال المحكمة الجنائية الدولية فالإجراءات المتخذة أمامها ساعدت في تقنين حالات الإفلات من العقاب، فالجرائم المرتكبة في دارفور في ما بين عامي 2003 و2005 والمشمولة بتحقيقات المحكمة الجنائية الدولية انتهت بمحكمة علي كوشيب وهذه الجرائم ارتكبت على نطاق واسع، الذين ارتكبوها كثيرون في أماكن عدة، مما يتطلب إعادة النظر في مسألة الإفلات من العقاب".
الملاحقة الفعلية
في شأن دور المؤسسات الدولية في منع الإفلات يوضح علي أن "الأمر في السودان يتطلب إعادة نظر داخلي، لأن المؤسسات الدولية تكميلية وبالضرورة أن يجري التقييم الداخلي بواسطة سلطة مفوضة من الشعب هي التي تقوم بمراجعة آليات العدالة القائمة، والعمل من أجل إنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب، إذ من خلال أجهزة عدالة مستقلة وقادرة وراغبة في تحقيقها بكفاءة".
وكانت الهيئة قد أعلنت أنها تدرس عدداً من الخيارات في ضوء تجربة المحكمة الجنائية الدولية السابقة في شأن جرائم الحرب المرتكبة بدارفور، وذلك لضمان تحقيق الملاحقات الجنائية الفعلية، وحتى لا تصبح هذه الملاحقات عبارة عن تقارير دولية ومدخلاً لإفلات مرتكبي جرائم الحرب من العقاب.
مجلس الأمن والمحاسبة
دان أعضاء مجلس الأمن أمس الهجوم الذي شنته قوات "الدعم" على مدينة الفاشر وما خلفه من آثار مدمرة على السكان المدنيين، وارتكابه فظائع تشمل إعدامات ميدانية واعتقالات تعسفية.
أعرب بيان للمجلس عن قلقهم البالغ إزاء خطر ارتكاب فظائع واسعة النطاق، بما في ذلك ذات الدوافع العرقية، ودعا الأعضاء إلى محاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات.
ذكر الأعضاء بقرار المجلس رقم 2736 (2024)، الذي يطالب قوات "الدعم السريع" برفع الحصار عن الفاشر ويدعو إلى وقف فوري للقتال وخفض التصعيد في المدينة ومحيطها، وحث الأعضاء بشدة قوات "الدعم السريع" على تنفيذ أحكام القرار المذكور.
الفظائع والعقاب
كما دان رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي السفير محمود علي يوسف، الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي ارتكبتها قوات "الدعم السريع" بمدينة الفاشر عقب سيطرتها عليها.
وأكد يوسف أن ما شهدته الفاشر من جرائم قتل ممنهج واستهداف عرقي يرقى إلى جرائم حرب تستوجب المساءلة، مشدداً على أن مرتكبي تلك الفظائع لن يفلتوا من العقاب، داعياً إلى وقف فوري للعدائيات وفتح ممرات إنسانية عاجلة لإيصال المساعدات إلى المتضررين، ومجدداً تضامن الاتحاد الأفريقي الكامل مع الشعب السوداني ودعمه لتطلعاته نحو السلام والوحدة والديمقراطية.
تشديد على المحاسبة
وقبل يومين أصدر مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي في اجتماعه الطارئ الأخير حول الوضع في السودان، بياناً تضامن فيه مع سكان مدينة الفاشر الذين حرمتهم الميليشيات من الغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى، في انتهاك صارخ للقيم والمبادئ الأفريقية والقانون الإنساني الدولي.
شدد البيان على ضرورة مضاعفة الجهود لإسكات صوت البنادق في السودان، وضمان العدالة والمساءلة، ومعالجة الأسباب الجذرية للنزاع وإنهائه من خلال حوار شامل.
وفي معرض إدانته للأعمال الإجرامية ضد المدنيين السودانيين والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها قوات "الدعم السريع" في الفاشر، حذر المجلس من أن مرتكبي هذه الجرائم سيحاسبون، مطالباً مفوضية الاتحاد الأفريقي بمراقبة هذه الجرائم وتقديم مقترحات لمنع تكرارها، ووضع خطة لحماية المدنيين خلال ثلاثة أسابيع.
حصار وتصفيات
وتشير التقديرات إلى أن عدد الضحايا جراء الفظائع والتصفيات العرقية التي اقترفتها ميليشيات "الدعم السريع" بالفاشر بأكثر من 16 ألف قتيل، مات منهم نحو 14 ألف بسبب الحصار والحرمان من الغذاء والقصف العشوائي المتواصل الذي كانت تقوم به الميليشيات على مدار ما يقارب عامين، وفق شبكة أطباء السودان، بينما قتل أكثر من 2000 شخص نتيجة المجازر والتصفيات العرقية التي تمت ضد المدنيين.
وقدر عدد ضحايا مجزرة الدعم السريع السابقة في (الجنينة) بغرب دارفور، بنحو 1200 قتيل، إضافة إلى أكثر من 3 آلاف جريح، بينما قارب عدد المفقودين والنازحين 100 ألف شخص من مدينة الجنينة ومنطقة مستري ومناطق أخرى تقع على الحدود مع تشاد.
وصنفت حالة دارفور في الحرب الأولى (2003) كأول إبادة جماعية تحدث في القرن الـ21، بسبب مقتل 300 ألف شخص واتهم المجتمع الدولي ميليشيات (الجنجويد) التي نشرتها الحكومة آنذاك بالتطهير العرقي، واستخدام الاغتصاب الجماعي سلاحاً حربياً، وكان وقتها محمد حمدان دقلو (حميدتي) يقود إحدى ميليشيات الجنجويد لمقاومة التمرد، غير أن قائمة مطلوبي المحكمة الجنائية لم تشمله.