ملخص
يتيح التأمل في تحولات السرد في الرواية الجزائرية ملاحظة أن تيمة ثورة التحرير تهيمن على معظم الأعمال الروائية الأولى، بوصفها واجباً تأريخياً وإرثاً أدبياً ينقل الحكايات المروية عن النضال والتضحية والعذابات التي عاشها الجزائريون، تحت استعمار دام أكثر من قرن كامل.
برزت هذه التيمة في نصوص باللغتين العربية والفرنسية كتبها عبدالحميد بن هدوقة ومحمد ديب والطاهر وطار وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم، وظل التاريخ حاضراً بقوة حتى بعد الاستقلال بعقود، إذ واصل جريانه في المتن الروائي مثل نبض مستقر، لا سيما بعد العشرية السوداء التي حفرت أثرها في ذاكرة أجيال متعاقبة من الكتاب، بين من عايشوا الحرب الأهلية وكتبوا عنها في حينها، وجيل آخر عاش طفولته في التسعينيات ليفكك كوابيسه لاحقاً في نصوص الألفية الجديدة.
اليوم تواجه الرواية الجزائرية تحديات التجديد في ظل تكرار التيمات التاريخية واستنساخها، فهل آن أوان التفكير في مواضيع جديدة تعبر عن الواقع الراهن؟ هذا ما حاولت "اندبندنت عربية" استقصاءه في هذا التحقيق، من خلال محاورة عدد من الروائيين الجزائريين، وسؤالهم عما لفتهم أخيراً في المشهد السردي، وما الذي يخططون لإضافته إلى الأدب الجزائري المعاصر.
خولة حواسنية: الأدب الجزائري ابن الذاكرة
ترى الكاتبة والناشرة خولة حواسنية أن الأدب الجزائري في جوهره، ابن الذاكرة، ومن يكتب عن الثورة لا يستحضرها بوصفها حدثاً تاريخياً، بل كجرح مفتوح يذكر بما كنا عليه وما صرنا إليه، والكتابة عنها، برأيها، فعل مقاومة رمزي، ومحاولة لترميم الذات الوطنية التي شوهت مادياً وثقافياً وتاريخياً عبر قرن من الإبادة والاستلاب، وتؤكد أن الكتابة عن ثورة التحرير ليست تكراراً لماضٍ استهلك، بل استمرار لنبض لم يهدأ بعد، فالجرح الذي خلفه استعمار دام أكثر من 130 عاماً لم يلتئم بعد، لا في الذاكرة الفردية ولا في الوجدان الجمعي. وتصف حواسنية خصوصية التاريخ الجزائري أن له ذاكرة بحجم قارة، تحفل بطبقات لا نهائية من الحكايات والمقاومات، وتعتقد أن لكل جيل فيها ثورته الخاصة، ولكل قلم طريقته في تفكيك الألم واستعادته، والأمر ذاته ينطبق على العشرية السوداء التي جاءت في لحظة هشة بعد الاستقلال.
أما عن تأثير الحراك الشعبي فتشير إلى أنه قد فتح نوافذ جديدة للكتابة، غير أن أغلب ما كتب عنه يندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ"الأدب الاستعجالي"، مع ذلك، تؤمن بأن الحراك أعاد الثقة في الكلمة، وذكر الكتاب بأن الأدب لا يعيش في برج معزول عن الناس، وبصفتها كاتبة وناشرة في آن واحد، تلاحظ حواسنية جيلاً صاعداً يكتب بنفس مختلف ووعي فني جديد، ومن بين الأسماء التي تتابعها بإعجاب: د. جمال بلقاسم ود. جيجيڤة براهيمي وهاجر كافي وعلي بودايب وحنان بركاني وجميلة مراني، وغيرهم من الأقلام التي تصنع تحولاً هادئاً في المشهد السردي الجزائري.
وتتحدث خولة حواسنية عن تجربتها السردية، فتقول إنها انطلقت منذ بداياتها من رغبة عميقة في استعادة تراث أقصى الشرق الجزائري، والعودة إلى جذور التاريخ وإعادة توظيفها بمخيال جديد، عائدة إلى ما قبل الميلاد، إلى القصص والأساطير التي طمست أو ظلت حبيسة الجبال والذاكرة الشفوية، وتضيف أنها كثيراً ما حلمت بتذكير العالم بأن في أقصى الشرق الجزائري، الذي يخيل للبعض أنه الهامش والظل، عالماً كاملاً من الأفكار والمعتقدات والرموز التي غادرتنا يوماً لتصنع أثرها في كل شمال أفريقيا وأوروبا، وتختم بقولها: "أظنني أكتب منطقتي بكل حب ولم أغادر هذا الحيز".
إسماعيل يبرير: التيمات ليست آنية بل خيار شخصي
في مداخلته مع "اندبندنت عربية" يرى الروائي والشاعر إسماعيل يبرير أن التيمات ليست آنية، ولا ترتبط بالزمن، بل بالخيار الشخصي للكاتب، فما يحدد أهميتها، هو زاوية المعالجة وطريقتها، لأن الكتابة في حد ذاتها ما يجعل الموضوع مهماً أو عديم الأهمية، لهذا فكل المواضيع هي مجال للكتابة وفي كل الأوقات، والرهان هو طريقة وأسلوب المعالجة، ويضيف أن الكتابة عن الثورة والأحداث التاريخية لن تتوقف، وكذلك إثارة النقاط المظلمة، والتفتيش عن الأسرار، تلك تحديات الكتابة والفضول الدائم للكاتب، وحتى بالنسبة إلى الحراك الشعبي في الجزائر، يؤكد يبرير أنه كما في العالم العربي عموماً، توجد كتابات واعية تنطلق من مشروع وعي بالكتابة والواقع، وهي قليلة، توجد كتابات سطحية ولا توحي بوعي وفهم كافٍ، ويمكن من التصفح الأول اكتشاف محاولتها التشبث بالتيمة كحيلة للفت الانتباه، وهي الأكثر، وضمنها يقع كثير من النصوص التي أخفقت في قراءة وتأويل الوقائع والانتقال بها إلى التخييل.
أما عن التجارب السردية اللافتة التي تقاطع معها أخيراً فيعتقد أن ما يكتبه محمد جعفر وبومدين بلكبير وأحمد طيباوي وهاجر قويدري وعبدالقادر برغوث ومحمد فتيلينة وبشير مفتي وحسين علام والخير شوار، يمثل تتويجاً للوعي السردي الجزائري، ويرى أن هؤلاء جزء من الأسماء التي ابتكرت طريقتها في الكتابة ونأت عن إملاءات وإكراهات الكتابة، بما فيها التيمات الرائجة.
وعن تجربته الخاصة، يشرح يبرير أنه اشتغل على الإنسان، قائلاً إن أعماله مثل "مولى الحيرة" أو "وصية المعتوه" أو "منبوذو العصافير" أو "العاشقان الخجولان" أو "باردة كأنثى" أو "باموندا" أو "ملائكة لافران" أو غيرها كلها أعمال تقصد من خلالها معالجة أزمة الإنسان المعاصر في القيم والمشاعر والمواقع والمواقف، وقد اجتهد أن يكون كاتباً رافضاً لتوجيه كتابه، مع تأكيده أنه لا يدين التوجيه الكتابي الذي يشكل نوعاً من الكتابة التجارية الرائجة.
هاجر قويدري: الثورة لم تنته في أي مكان
تعتقد الروائية والإعلامية "هاجر قويدري" أنه لا يمكن للرواية الجزائرية أن تتوقف عن الكتابات المتعلقة بالثورة التحريرية والعشرية السوداء، ليس لأنهما جرحان غائران في الذاكرة الجماعية وحسب، ولكن لأنهما لا يزالان حاضرين كتراكمات في التركيبة النفسية الجمعية، وبرأيها، لا تزال تبعاتهما ترافق الفرد الجزائري، ذلك أن الثورة تعاش أكثر من مرة وكذلك العنف والفقد، لذلك ترى أن ما نحتاج إليه اليوم هو تقديم مقاربات جديدة لهذه المواضيع، والابتعاد عن الخطاب السلطوي أو الأيديولوجي، مع محاولة تفكيك التفاصيل الإنسانية، بعيداً من التمجيد في ما يخص الثورة، وعن الهرب والخوض في ما هو مسكوت عنه أو مغيب قصداً.
وعن الحراك الشعبي، تشير هاجر إلى أنه بلا شك لحظة ملهمة أعادت فتح الأسئلة العميقة من جديد، ولكنها تحتاج إلى خط زمني فاصل يمكن الكاتب من فهم العملية برمتها، ويمكن بفضل هذه التجربة إعادة قراءة المراحل السابقة، لأن فهم الدواخل الإنسانية أمر معقد وغير مرتبط بزمن معين، وتؤكد أن المراحل السابقة تجسد خصوصية النص الجزائري في إسناده السياسي والاجتماعي، غير أن التقاطع الخاص بالتجربة الإنسانية العامة قد يلامس كل البلدان العربية وكل العقول الحرة التي تقرأ الماضي من أجل فهم الحاضر.
وفي حديثها عن القراءات التي لفتت انتباهها أخيراً، تذكر أنها قرأت رواية "الحب عربة مهترئة" لأحمد طيباوي، وجدت فيها الطرح مميزاً جداً بحيث قدم سيناريو متخيلاً لجيل سماه صاحب الاختيارات المحدودة، وتوضح أن طيباوي عالج فيها النفس الهشة التي لا تقوى على تغيير الواقع، لأنها نتيجة أيديولوجية ونظام وقالب اجتماعي قام ببرمجة كل تفاصيل حياته، ومن جانب آخر، تشير إلى روايات جزائرية تعالج مواضيع مختلفة تماماً على غرار الصديق حاج أحمد وروايته الأخيرة "الطانفا" التي ترتكز على فضاء الصحراء الجزائري مما يعكس ثراء التجربة السردية الجزائرية وعدم اقتصارها على الثورة والعشرية السوداء.
أما عن مشروعها الشخصي، فتقول قويدري إنها منشغلة دائماً بالتاريخ، وتؤمن جازمة أن الثورة لم تنته في أي مكان. وتضيف: "إنها طريقتنا للتكيف مع همجية العالم، مع الظلم، مع النسيان، لذلك، أظل وفية للتاريخ، أكتب عنه لا بوصفه صفحة زمنية منتهية، ذلك أن الدواخل الإنسانية والتراكمات النفسية للمجتمعات لا تتوقف عند تاريخ وقف إطلاق نار مفترض"، وتكشف أخيراً أن روايتها الجديدة "أرض الحذر" تتناول مرحلة ما بعد الاستعمار وتتطرق إلى ذلك الإرث الاستعماري المتمثل في ١١ مليون لغم تركه المستعمر الفرنسي وراءه فوق هذه الأرض الطاهرة، حاولت من خلالها الحديث عن الجروح الطويلة التي لا يضمدها الزمن.
عبدالله كروم: الحراك الشعبي لم يؤسس لحراك ثقافي
يؤمن الروائي والأكاديمي عبدالله كروم بأن الصراع بين الأنا والآخر، والحديث عن الكولونيالية وما بعدها ستظل من المواضيع التي تمثل إكراهات الواقع، ولا تزال أسبابها وتأثيراتها قائمة وحاضرة في راهننا، غير أنه يرى أن للرواية خطابات عدة وتجارب مختلفة، ومن الضروري توسيع زوايا الرؤيا والتبئير لخلق قراءات عدة ومتنوعة بعيدة عن الأمثولة والصورة المكرسة، فمسألة مجاورة وتجاوز قضايا أو أزمنة معينة أو تيمات محددة يسائلها الأدب بمدى قوة الخطاب وبراعة الإبداع، ومدى الفرادة والدهشة والتميز وحتى الصدمة إذا كان يرتبط بروح الفن وقداسته بعيداً من الاستلاب أو التموقع، لذلك يرى عبدالله أن التيمة أو الزمن أو القضية المعالجة في الأدب لا تهم كثيراً، بقدر ما يهم الإبداع و خلق المسافة الجمالية التي تكسر أفق التوقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن وجهة نظره لم يستطع الحراك الشعبي أن يؤسس لحراك فكري وثقافي، إذ لم يرتكز على جملة من المحددات الفلسفية والفكرية، إنما كان حراكاً سياسياً ضد فكرة واحدة، هو رفض العهدة الخامسة للرئيس الراحل، قبل أن يدخل في مناكفات وصراعات وتنابز بالنعرات... بسبب ضعف الصوت الحامل للثقافة والفكر والأدب، ولم يلحظ أن الحراك فتح أفقاً للإلهام والكتابة باستثناء بعض الأصوات الوازنة على غرار الروائي الكبير لحبيب السايح مع "ما رواه الرئيس" ورواية "سجن الحراش"، ويؤكد عبدالله كروم، في ختام حديثه أن الرواية قائمة على التجريب والتنوع في التيمات والقضايا، وهذا ما يجعله يحاول معالجة كل القضايا التي تشغله: التاريخ والذاكرة، والأنا والآخر، والفضاء الصحراوي، والقضية الفلسطينية، والشباب وقضايا المستقبل، والتخلف وقضايا التنمية.