Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطبيبة السورية  تواجه صانع أفلام في "يوم الصفر" 

المخرج مجيد الخطيب اعتمد لعبة زمنية متقطعة راويا قصة إنسانية عن الحرب

الممثلة مرح حجاز في فيلم "يوم الصفر" (ملف الفيلم)

ملخص

إما أن تلتهمك الأسماك وأنت حي ترزق، أو تفقأ عينيك الغربان وأنت تحتضر، فتظل عاجزاً أن تنبس ببنت شفة. مصير تنازعه بطلا فيلم "يوم الصفر" لكاتبه ومخرجه مجيد الخطيب. الروائي الطويل (85 دقيقة) مهد عبر افتتاحيتين متجاورتين بصرياً لقصة كل من سلاف (مرح حجاز) وصانع الأفلام (مرهف الكراد).

الإفتتاحية الأولى في الفيلم نتعرف عليها عبر سلايدات (شرائح بصرية) عن هاتف سلاف الشخصي. قصة حبها لمروان وهي في أيامها الأولى من دراستها للطب في جامعة برلين الدولية. لقطات سريعة للفتاة وهي على مقعد المترو في شتاء العاصمة الألمانية من عام 2012. قصة توهج الحب وذبوله، أجواء طلبة الطب النفسي في حانة برلينية، تعاطيهم المخدرات والخمور، وتشدقهم بنظريات فرويد عن الجنسانية والجينات البشرية.

 أما قصة صانع الأفلام الشاب فتحضر في الافتتاحية الثانية، عبر جلسة مع طبيب نفسي. أسئلة الطبيب (وضاح الخطيب) نسمعه من دون أن نراه، كذلك المريض الشاب نتلمس ملامح شخصيته عن الغضب وفقدان الشعور بالخوف. صوته المرتجف تواكبه لقطة طويلة على لوحة تجسد رسماً لرجل ببزة رسمية له رأس نسر ويمسك بيده سكيناً تقطر دماً.

بعد هذا التقديم البصري الأنيق ندخل مباشرة إلى أجواء المكان الذي ستدور فيه أحداث "يوم الصفر" (إنتاج شركة بينتالينس). إنها إحدى المدن السورية (مخيم اليرموك- جنوب دمشق) التي تشهد معارك ضارية عام 2017 بين قوات النظام ومقاتلي المعارضة. يهدينا تعليق صوتي (مجيد الخطيب) أكثر فأكثر إلى هوية المكان المحاصر، الذي تتناثر فيه جثث لنساء ورجال وأطفال في أرجائه، فيما تحوم غربان داكنة (تم تصميمها بالغرافيك) فوق أجساد الضحايا. أصوات مذيعي نشرات الأخبار تتداخل هي الأخرى مع صوت المعلق، وتهدينا لقطات سريعة إلى شخصية مصور شاب يقف محتمياً من أصوات القصف بين أنقاض الأبنية الموشكة على الانهيار. نباح كلب في الجوار سيأتي بمثابة إنذار أخير لصانع الأفلام بالمغادرة، لكن الشاب ما إن يستدرك حتمية هربه حتى يصاب بشظية في خاصرته جراء انفجار إحدى القذائف الصاروخية على مقربة منه.

انتقالات إيقاعية ماهرة للتعريف بالشخصيات والمكان في آن واحد، ثم نطل بسرعة على بيت شبه مهدم. الشاب مستلق فوق أريكة جانبية. يبدو شبه غائب عن الوعي، فيما تقوم امرأة شابة بإنهاء خياطة جرحه الطري. السيدة هنا هي الطبيبة سلاف التي تعرفنا إليها في بداية الفيلم، والتي ما إن تنهي عملها الإسعافي للشاب الجريح، حتى تلتفت للعناية بطفلها الذي يعاني هو الآخر من مرض في السمع، نعرف ذلك من جهاز تقوية السمع (الحلزون) الذي يستخدم للأطفال الذين يعانون مثل هذه الإعاقات. لن يتأخر استيقاظ الشاب من غيبوبته، ليبدأ هنا الفيلم في شطره الأهم. أسئلة الشاب الجريح عن أغراضه الشخصية. كاميرته أولاً، وكيف وصل إلى بيت سلاف (الحوار باللغة الإنجليزية). لكن الأسئلة لا تلبث أن تصبح أكثر شخصانية، فالشاب ينتبه إلى لوغو جامعة برلين الدولية مرسوماً على ثياب سلاف المرمية على أرضية المكان، والتي استخدمتها السيدة لتدفئة الأرض الجرداء، بعدما اشتكى طفلها الصغير من برودتها.

إختناق وترقب

أجواء رمادية توحي بالاختناق والترقب يديرها مخرج "يوم الصفر" بحرفية داخل بيت الطبيبة، والتي يقدمها الشريط (جائزة لجنة التحكيم مهرجان عنابة- الجزائر) كشخصية قوية وعقلانية لا تلبث أن تفصح عن ضعفها وخوفها على طفلها الصغير مع اشتداد المعارك واختفاء كلبها جيروم. حيوانها الأليف ومرشدها إلى الطرق الآمنة داخل المدينة المزروعة بالألغام والعبوات الناسفة، ومن كان يهديها بحاسة شمه الأسطورية إلى مواضع مستودعات المؤن والوقود بعد تشديد الحصار. تطلب الطبيبة أن يقوم الشاب بتهريب طفلها إلى خارج المدينة المحاصرة، فهو يمتلك تصاريح رسمية تتيح له الحركة من وإلى داخل المكان من دون أن يتعرض للمساءلة. ستقايضه المرأة على الكاميرا والأفلام التي صورها، فبعد أن يقوم بتهريب ابنها الصغير ستعيد له كنزه الوثائقي، لكن عندما يرفض الشاب تلبية طلبها متذرعاً بأنه في مهمة عمل، تشهر الطبيبة الشابة مسدساً حربياً في وجهه.

لقطة واسعة بين صانع الأفلام والطبيبة ستوقظ الطفل من نومه، خصوصاً بعدما تطلق السيدة الشابة رصاصة تحذيرية من مسدسها تأكيداً على جدية تهديدها لضيفها غريب الأطوار. سجال ساخن سيدور بين الشخصيتين، لكنه، وفي لحظة اعتراف استثنائية، ينقلب الصحافي وصانع الأفلام للتحدث باللهجة المحكية السورية، إذ نكتشف أنه ليس أجنبياً، بل آثر مثل سواه من السوريين تفضيل الخلاص الفردي على النجاة الجماعية، على عكس الطبيبة التي قطعت بعثتها إلى جامعات ألمانيا لتشارك مع زوجها العامل مع فرق الدفاع المدني في تقديم المساعدة الطبية للمصابين، لكن زوجها مروان سيقضي هو الآخر تحت القصف، وتبقى هي وطفلها رهينة في المكان المحاصر.

ينهي الفيلم (جائزة أفضل إخراج- مهرجان سيؤول ويسلر-كوريا الجنوبية) أحداثه بعد مواجهة لا تلبث أن تفتر بين الرجل والأرملة الشابة التي يأخذها الإرهاق، فتنام وطفلها في حضنها بعدما يغفو المصور الشاب هو الآخر مديراً ظهره لتهديداتها الممزوجة بالرجاء وتلبية طلبها بتهريب الطفل. مع خيوط الصباح الأولى التي ينتهي الفيلم معها، يستيقظ صانع الأفلام (لا نعرف له اسماً) ليشاهد المرأة وهي لا تزال تحتضن طفلها كأنها نسخة من السيدة مريم وطفلها يسوع المسيح، فيشهر الشاب كاميرته من حقيبته القماشية، ويشرع في التقاط صور لهما بعناية رسام، يفيق الطفل الأصم ويبتسم للشاب الذي يودعه هو الآخر بابتسامة أخيرة مغادراً المكان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ابتسامة الطفل الأصم ستبدو كنهاية مفتوحة لمصير مجهول يترقب شخصيات "يوم الصفر". وهو العنوان الذي يمكن أن يوحي بيوم المغادرة والتخلي، فلقد انتصر الخلاص الفردي على النجاة الجماعية، بعدما تمكن صانع الأفلام الشاب من تسجيل مشاهد استثنائية من قلب الجحيم، مما يعيدنا إلى عقدة الشعور بالذنب التي ظلت تحاصر الشاب حتى بعد هربه من البلاد من طريق رحلة تهريب بحرية من تركيا فاليونان فأوروبا. لقطات للناجي الوحيد وهو يسبح باتجاه اليابسة بعد غرق مركبه المطاطي فلن تغيب عنها مشهدية الغربان التي ظلت تحوم فوق رأس الشاب حتى بعد وصوله إلى شاطئ الأمان. غربان لربما التهمت عيون الطفل وأمه الطبيبة الشابة التي أنقذته من موت محتم.

اللافت في "يوم الصفر" البناء الدرامي البصري (مدير تصوير أمين أبو القاسم). موقع الكاميرا وحركتها في تصميم الأجواء الضاغطة والمشحونة بالعتمة والظلال (مدير إضاءة حيدر الحامض) واستخدام مجيد الخطيب لعدسات ذات بعد بؤري واسع حققت كلية الصورة في المشهد الواحد عبر ما يسمى (عمق الحقل) والإيهام بالبعد الثالث للصورة. العناية المفرطة بالكوادر المأخوذة ضاعفت عدد اللقطات السريعة لإبراز هوية المكان. ثمة أيضاً استخدام عدة لقطات إيقاعية من طريق تكثيف التوتر بين المكان والشخصيات، ما مكن المخرج السوري- الفلسطيني من تطوير الأحداث الدرامية للفيلم حتى داخل المشهد الواحد، إضافة لتوظيف علاقة سردية مغايرة بين معالم مكان خطر ومنقبض (آرت دايركتور غيث المرزوقي) وبين شخصيات هائمة على وجهها، ومصقولة بالخوف والريبة من الآخر.

ولعبت موسيقى (علي سليمان) دوراً مؤثراً في مواكبة البنية الزمنية المبتكرة لـ"يوم الصفر"، إذ كان واضحاً أن المونتاج (إبراهيم طويل- علي زهوة) قام بتعقيد الصلة بين عدد كبير من الأحداث في الحاضر والماضي، وذلك من طريق كسر التعاقب الزمني الخطي، والنقلات إلى ماضي القصة للكشف عن الحاضر، إذ نطل على معالجة متعددة لسرد حكاية الفيلم من خلال وجهات نظر متناقضة ومختلفة، فيتداخل أبطال اليوم مع عشاق وحالمي الأمس وفق تعقيدات لافتة، كما كانت الحال مثلاً مع لقطات ومشاهد مروان وهو يقوم بإنقاذ طفل من تحت الأنقاض، وتداخلها مع مشهد وصول صانع الأفلام الشاب إلى شاطئ النجاة، وضمنا مشاهد عودة سلاف في الطائرة من برلين. نلاحظ هنا إصرار الخطيب على استمرار الزمن في اللقطة الواحدة مع مشاهد ولقطات تتخللها، وتهيئة كل ذلك كي يبدو في سرد سينمائي تقصد الرتابة في مكان، وأخلص للنوع الفني كشريط نفسي ينتمي بقوة إلى أفلام الحرب.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما