ملخص
في واحدة من مناطق الحب الملغومة، حين يجمع كيوبيد بين قلبين لا يرضى المجتمع عن اجتماعهما، تدور أحداث رواية "زهرة النار" للكاتب المصري محمد سلماوي
يطغى الخط الرومانسي على السرد في رواية محمد سلماوي "زهرة النار" (الدار المصرية اللبنانية)، ويتجلى الحب المحظور كمحور رئيس تدور حوله الأحداث، بينما تبرز في الخلفية ظلال اجتماعية وثقافية وسياسية تتكشف عبر ما يطرحه الكاتب من قضايا لا تنفك تؤرق الواقع المصري في حقب وأزمنة متصلة ومتباعدة، وهو ما مهد له في توطئة استهل بها رحلته، تخبر بأن الزمن الفعلي للرواية يتخطى الأزمنة الواردة بها ليعبر عن واقع دائم ومستمر.
يتدفق السرد في نسق طبيعي تتدافع أحداثه أفقياً إلى الأمام. ويتحمل عبء قيادته راوٍ عليم لا ينقطع صوته إلا في مساحات حوارية متفرقة تسمح للشخوص بالتعبير عن ذواتها. وتنطلق الأحداث من صدفة تدفع بشاب في مقتبل عمره "خالد"، للدخول - اتقاءً للمطر - إلى أحد محال التحف والأنتيكات في وسط القاهرة "دكان زمان"، فيكون لقاؤه بمالكته الأرملة الخمسينية "عالية"، شرارة لحب يشتعل بينهما، وبداية لصراع مع مجتمع تهيمن عليه تقاليد وأعراف موروثة، لا يسمح بمخالفتها أو الخروج عليها.
تعدد دلالي
شرع الكاتب رحلته السردية بعنوان يجمع بين دلالات واقعية ومجازية، إذ تحيل "زهرة النار" إلى نبات ينمو في الطبيعة، ويتسم بقدرة عجيبة على التفتح من جديد، بعد الحرائق، وبعد أعوام طويلة من الموت والذبول، كما يحيل إلى دلالات رمزية يتكشف انسحابها على بطلة الرواية، التي تعيش حالة من الذبول بعد موت زوجها، ثم تتفتح بعد أعوام طويلة مع حب جديد. ولم تقف هذه الدلالة عند حدود شخصية البطلة، وإنما امتدت إلى واقع وطن طاولته طبقات من العطب، لكنه أيضاً كزهرة النار، يمكن إحياؤه وإعادة مجده من جديد. كذلك بدت الرمزية ذاتها في افتتان "خالد" بـ"عالية"، على رغم أنها تكبره بأعوام كثيرة، إذ أحالت هذه الصورة السردية إلى نوع من النوستالجيا، والافتتان بالتاريخ القديم، بدا ضمناً وصراحة في مواضع متفرقة من السرد: "أنهكه السير فجلس على أريكة حجرية.
نظر إلى الشمس وهي في النزق الأخير قبل أن تختفي خلف الأهرامات، التي بدت من بعيد حزينة على تبدل الحال، ترى ماذا ستقول الشمس للأهرامات حين تسائلهاعن حال أبنائها الذين علموا العالم الحق والعدل، ماذا حدث لهم؟ وكيف يعاملون اليوم؟" ص110. وقابل ذلك الحنين إلى الماضي، محاولة لنكء جراح الحاضر، وطرح قضاياه، فقد طرق الكاتب قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية عديدة، مثل الفقر، والأزمات الاقتصادية الطاحنة، والتفاوت الطبقي، وغياب العدالة الاجتماعية، والمناخ القمعي وغياب الحريات الأساسية، والبيروقراطية، والروتين، والنظرة الرجعية للنساء، وانتهاك خصوصية الفرد وحقه في الاختيار. كما مرر رؤى تدين الأنظمة الأمنية القمعية، والرأسمالية المتوحشة، والأحزاب الهزلية المسماة بالمعارضة، والتخصص الدقيق وغياب الثقافة الموسوعية، وثقافة الإقصاء ودورها في خلق جيل غير مُنتمٍ وغير فاعل.
اضطرابات الزمن
لم يصرح الكاتب بالحقبة التاريخية التي تمثل الفضاء الزمني للأحداث تصريحاً مباشراً، وإنما دلل عليها ببعض الحوادث التي أوردها في سياق السرد، مثل اغتيال الجماعات الإرهابية للرئيس، وتولي نائبه للرئاسة، وكذا مذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان، مما يحيل إلى اختياره مطلع ثمانينيات القرن الماضي زمناً للسرد: "أتمت كل الحجوزات دون أن تعرف أن الرحلة لن تتم، وأن لبنان سيشهد في سبتمبر واحدة من أبشع المذابح في تاريخ المخيمات الفلسطينية" ص 159.
ومع تدفق السرد بدت حالة من عدم الاتساق تمثلت في بعض الاضطرابات الزمنية، فلم تعرف حقبة الثمانينيات المواقع الإلكترونية، ولا وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلها الكاتب سلاح أصدقاء "مدحت الناجي"، في دفاعهم عنه، وتحويل أزمة اعتقاله إلى قضية رأي عام. كذلك لم يتسق الحديث عن انتحار داليدا الذي حدث عام 1987، خلال زيارة "خالد" و"عالية" فرنسا، التي سبقت هذا التاريخ بسنوات. ولم يكن منطقياً أيضاً استشهاد صديق البطل، في حواره مع الأب الرافض لعلاقة ابنه بأرملة خمسينية، بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته! وإضافة إلى هذا الاضطراب الزمني، بدت اللغة شديدة البساطة والمباشرة. ولم تواكب المعالجة الأسلوبية عمق وثراء والأفكار. كما وقع الكاتب في فخ السرد الفائض للمألوف، مما أثقل إيقاع القراءة، من دون أن يخدم الحبكة أو المعنى، بل أضر بالكثافة الأدبية المتوقعة للنص.
تحاور الفنون
عمد الكاتب إلى استدعاء أنواع عديدة من الفنون، مثل النحت، والعمارة، والموسيقى، والأوبرا، والفن التشكيلي. وبدا هذا الحضور القوي والكثيف للفن كعنصر عضوي في البنية الدرامية، إذ اتسق مع خلفية الشخصيات، ومع التطور الدرامي للأحداث. وأسهم ما أتاحه من مخزون بصري وسمعي في تحويل النص من مجرد سرد قصصي إلى تجربة حسية ثرية. وسمح بتمرير كثير من الحمولات المعرفية، التي أضاءت بدورها أعمالاً فنية مهمة ومتنوعة، مثل تمثال كانوفا، وتمثال نهضة مصر، ومعبد حتشبسوت، وجامع السلطان حسن، وكنيسة نوتردام، وسجاد أصفهان، وأوبرا لا ترافياتا، وسيمفونية تشايكوفيسكي السادسة أو السيمفونية الحزينة، التي وضع فيها الفنان الروسي أحزان حياته كلها، ولوحة "الفتاة ذات رباط العنق التل الأبيض" للرسام الفرنسي رينوار، التي اقتنتها إميلين زوجة محمد محمود خليل، لتصبح بعد ذلك نواة متحفه في القاهرة.
و أضاء الخطاب المعرفي، التجربة الفنية لأشهر الفنانين العالميين، مثل البريطاني جورج ستايز الذي تخصص في رسم الخيل، وشوبان الذي كان يعشق البيانو إلى حد أنه لم يكتب موسيقى لأي آلة أخرى، وأندريه ديران، الذي اتصلت بعض لوحاته بأحداث تاريخية مهمة: "توقف خالد عند لوحة للفنان أندريه ديران المولود في شاتوه عام 1880، شرح لهما البائع أنها تصور حدثاً مهماً في تاريخ البلدة. ففي شهر أغسطس من عام 1944 قامت قوات الاحتلال النازية بإعدام 27 من المدنيين وأعضاء المقاومة الفرنسية في شاتوه رمياً بالرصاص. كان اسم اللوحة مذبحة السبعة وعشرين شهيداً" ص131.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يقتصر الخطاب المعرفي بالسرد، على المعارف التي تتصل بالفنون وحسب، بل مرر الكاتب حمولات معرفية أخرى ذات طبيعة علمية، وتاريخية، وجغرافية، حول نبات زهرة النار، والسلطانة ملك زوجة السلطان حسين كامل، ونابليون الثالث وزوجته أوجيني، ومطبعة غوتنبرغ، وبورتابورتيزي، أو "سوق الحرامية" في إيطاليا، وبلدة شاتوه الفرنسية. واقترن حضور الفنون بتقنية الوصف، التي اعتمد الكاتب عليها، لإكساب العمارة، والمنحوتات، والسجاد، وغيرها من أعمال فنية، سمة البصرية، إضافة إلى لجوئه إلى الوصف التفسيري، لتجسيد الحالة الشعورية للشخوص، التي تنوعت بين الحب، الحزن، الشك واللايقين: "عاد ينظر إلى صفحة النيل فوجدها قد فقدت لمعتها وأصبحت سوداء قاتمة" ص111.
تماثل وتقابل
استثمر الكاتب ما استدعاه من معارف، في تمرير دلالات جمالية ومفارقات، بدت في التماثل بين غزو "عالية" قلب "خالد"، على رغم أنه هو من بادر بغزو عالمها، وغزو تراث مصر وحضارتها لفرنسا، على رغم أن بونابرت، وجنوده، وعلماءه، هم من قاموا باحتلالها. وبدت تلك الدلالات أيضاً في التماثل بين حادثة قتل المقاومين الفرنسيين على يد الاحتلال النازي، وقتل الفلاحين المصريين على يد الإنجليز في حادثة دنشواي، وبين زهرة النار و"عالية"، وبين عقيدة "خالد"، وعقيدة سارتر حول قوة الرباط العاطفي، التي تفوق قوة العقد الاجتماعي، وبين نهاية قصة حب "فيوليتا" و"ألفريدو" في أوبرا فيردي، ونهاية قصة حب "خالد" و"عالية" في الواقع الروائي.
و برز عديد من صور التماثل، بدا التقابل أيضاً في مواضع متفرقة من السرد، عبر ثنائيات الجديد والقديم، الحاضر والماضي، الفرح والحزن، الشرق والغرب، الثراء والفقر، الصدق والادعاء. وبين قطبي كل من تلك الثنائيات احتدم الصراع، فتجلى بين "خالد" الذي يصر على صمود حبه، وأبيه الذي يسعى إلى هدمه، بين حاجات المجتمع، ورغبات السلطة، بين الإعلام الرسمي، وصوت الحقيقة، بين كلا العاشقين، وأعراف تلصق بهما صفتي الانتهازية والفساد.
حضور النهر
مد النيل شرياناً من الواقع الحقيقي إلى الفضاء السردي، إذ حظي بحضور كثيف داخل النص، فكان شاهداً على تلاقي وتباعد الحبيبين، وعلى حزن البطل وسعادته، فكان بمثابة مرآة داخلية تعكس مشاعر الشخوص. كذلك استخدمه الكاتب معرفاً به الوطن "أرض النيل". واستدعى في سياق السرد أحد النصوص الهيروغليفية، التي تجمع بين الحب والنهر: "تذكر النهر كلمات عشق كتبت على ضفافه منذ آلاف السنين، وما زالت محفوظة على إناء قديم بالمتحف المصري: لماذا تتوانى يا حبيبي؟ تعالَ إلى الشاطئ كي أنزل معك إلى النهر بردائي المصنوع من الكتان الملكي الرقيق، وبعطري الذكي الفواح، سأغوص في الماء وأخرج ممسكة بسمكة حمراء، تعالَ فقد طال الانتظار" ص175. وربما أراد الكاتب من هذا الحضور الكثيف للنيل، تمرير صورة رمزية للحب المقرون بالألم، ومنحه سمة التجدد، والأبدية، والاستمرار.