Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

واشنطن تعيد تعريف علاقتها بالعراق عبر مبعوث خاص

مارك سافايا تاجر القنب الهندي يتحرك بتفويض رئاسي واسع يدمج بين السياسة والأمن والاقتصاد

ترمب (يمين) ومارك سافايا ( حساب سافايا على إنستغرام)

ملخص

طوال أشهر، كانت الحكومة العراقية، وعلى رأسها محمد شياع السوداني، تترقب مكافأة دبلوماسية من واشنطن بعد قيامها بسلسلة خطوات هدفت إلى تهدئة الساحة الأمنية وإبعاد الفصائل المسلحة من الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل خلال السنتين الماضيتين

في خطوة غير متوقعة، أعلنت الإدارة الأميركية تعيين رجل الأعمال وتاجر القنب الأميركي من أصول عراقية مارك سافايا مبعوثاً خاصاً إلى العراق، في وقت كانت فيه حكومة بغداد تتوقع تعيين سفير جديد خلفاً لإيلينا رومانوسكي. وأثار هذا القرار جدلاً وتساؤلات واسعة في الأوساط السياسية والدبلوماسية العراقية، خصوصاً في ما يتعلق بدلالات توقيته والمخاوف من هذا التحول في المقاربة الأميركية بما يرتبط بالتعامل مع العراق، الذي ما زال يعد في نظر واشنطن ساحة اختبار لا دولة مستقرة. ولعل ما يعقد المشهد بصورة أكبر ويثير مخاوف عدد من الأطراف الفاعلة في النظام السياسي العراقي، وتحديداً الميليشيات الموالية لإيران، ما سمي بـ"مكالمة نزع السلاح" التي جرت بين وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بعد يوم واحد من تعيين المبعوث الجديد.

وبحسب بيان الخارجية الأميركية تضمنت المكالمة موضوعين رئيسين هما ضرورة نزع سلاح الفصائل الموالية لإيران بوصفها "تقوض سيادة وأمن العراق"، فضلاً عن مناقشة الجهود بخصوص إتمام صفقات تجارية، في حين لم يتطرق البيان الرسمي العراقي بخصوص المكالمة لملف الفصائل المسلحة.

مبعوث لا سفير… رسالة في التوقيت والمعنى

وطوال أشهر، كانت الحكومة العراقية، وعلى رأسها محمد شياع السوداني، تترقب مكافأة دبلوماسية من واشنطن بعد قيامها بسلسلة خطوات هدفت إلى تهدئة الساحة الأمنية وإبعاد الفصائل المسلحة من الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل خلال السنتين الماضيتين. إلا أن رد واشنطن لم يكن متوقعاً من خلال إرسال مبعوث خاص بدلاً من سفير، مما يعد، بحسب مراقبين، إشارة رمزية تقرأ على أن واشنطن ما زالت تتعامل مع العراق بصفته بؤرة صراع لا شريكاً استراتيجياً. ويتقاطع هذا التوصيف مع قراءة متغيرات المنطقة ونسق تعامل واشنطن مع مناطق الأزمات في العالم، إذ ترسل المبعوثين إلى مناطق الأزمات كما حصل في لبنان وسوريا وغزة وأوكرانيا، في حين تحتفظ بسفراء معتمدين في الدول التي تعتبرها مستقرة.

وعلى رغم انتشار صور تجمع السوداني بسافايا، أشيع أنها خلال فترة توسطه لإطلاق المختطفة الروسية - الإسرائيلية إليزابيت تسوركوف، إلا أن الحكومة العراقية لم تصدر أي تعليق أو بيان ترحيب رسمي حتى الآن، مما يعكس حال ترقب وربما حذر تجاه طبيعة الدور الذي سيؤديه المبعوث الجديد.

ثلاثة مبعوثين في محطات مفصلية

تاريخياً، لم ترسل الولايات المتحدة مبعوثين خاصين إلى العراق إلا في المنعطفات الكبرى، ففي عام 2003، عين بول بريمر حاكماً مدنياً لإدارة مرحلة سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين، وفي عام 2015 أوفدت بريت ماكغورك لإدارة التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، واليوم يأتي مارك سافايا بوصفه ثالث مبعوث أميركي في لحظة توصف بأنها مرحلة إعادة تعريف العلاقة الأميركية - العراقية بين الاقتصاد والسيادة، ويرجح عدد من المراقبين أن يعتمد سافايا في القضايا السياسية الحساسة على المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف. ويرى مراقبون أن هذا التحول يعكس مقاربة جديدة تعتمدها واشنطن في الشرق الأوسط، ترتبط بـ"دبلوماسية الضغط الاقتصادي والاستثمار بدل دبلوماسية الجيوش"، أي توظيف المال والمشاريع والضغط الاقتصادي كأدوات نفوذ بدلاً من الحضور العسكري المباشر.

منطق التأثير الاقتصادي

في السياق، وصف رئيس مركز "كلواذا" للدراسات باسل حسين تعيين واشنطن مبعوثاً خاصاً إلى العراق بدلاً من سفير بأنه "تحول مقصود في مقاربة الولايات المتحدة تجاه بغداد"، مبيناً أن واشنطن "لم تعد تبحث عن تمثيل دبلوماسي تقليدي، بل عن أداة تنفيذ مباشرة تتيح تجاوز البيروقراطية وإدارة الملفات الحساسة في العراق"، وأضاف أن المبعوث "يتحرك بتفويض رئاسي واسع يدمج بين السياسة والأمن والطاقة والاقتصاد، في لحظة تسعى فيها واشنطن إلى إعادة صياغة حضورها من منطق القوة الصلبة إلى منطق التأثير الاقتصادي"، وأشار إلى أن ما يجسد هذا التحول في التعاطي الأميركي مع الملف العراقي هو "رجل أعمال من أصول عراقية، لكنه سيواجه تحدياً يتمثل في فهم المشهد العراقي المركب"، وختم أن "نجاح المبعوث مرهون بجعل الاقتصاد جسراً للمصالح المشتركة، لا أداة ضغط سياسي، وإلا فسينظر إلى دوره كمحاولة احتواء جديدة تفتح الباب لتوتر محدود".

العراق مكشوف بعد ضعف إيران

من جانبه، رأى الباحث السياسي والصحافي مصطفى ناصر أن الخطوة تعبر عن تحول عميق في تفكير الإدارة الأميركية، من خلال اختيار شخصية غير دبلوماسية تعتبرها واشنطن "رجل أعمال مسانداً لاستراتيجية الجمهوريين"، مبيناً أن انحداره من أصول عراقية سيجعله "أدرى من أي دبلوماسي أميركي بتركيبة العراق الاجتماعية وتوازناته السياسية". وعلى رغم أن اختيار سافايا يعبر بصورة واضحة عن "عدم احترام (الرئيس الأميركي دونالد ترمب) الحكومة العراقية" إلا أنه في الوقت ذاته يمثل "توازناً أمام قبول حكومة بغداد بالإملاءات الإيرانية"، وأضاف أن "الساسة العراقيين أظهروا ضعفاً كبيراً بعد تراجع النفوذ الإيراني وتدمير معظم قدرات طهران في الإقليم، مما جعل العراق مكشوفاً أمام أية عملية عسكرية إسرائيلية محتملة"، مشيراً إلى أن هذا الأمر دفع "القوى السياسية، بما فيها الإطار التنسيقي المقرب من إيران، إلى الاتفاق على إعادة ترميم العلاقات مع واشنطن"، ولفت ناصر إلى أن "العراق اليوم لا يحتاج إلى دبلوماسية ناعمة بل إلى رجال أقوياء ينتهجون منهج ترمب، بعد أن فشلت دبلوماسية أوباما (الرئيس السابق باراك أوباما) في كبح نفوذ الميليشيات والسلاح المنفلت الذي ما يزال يفرض سطوته على الاقتصاد والسياسة والأمن في البلاد". ورأى أن النفوذ الإيراني في العراق "لن ينتهي إلا بسقوط نظام ولاية الفقيه"، مبيناً أن إرسال المبعوث الأميركي ربما يسهم في "إعادة توازن القوى إلى ما قبل الانسحاب العسكري الأميركي من البلاد عام 2011".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مخاوف من عقلية "تاجر الحشيش"

في مقابل ذلك، يشير اختيار رجل بلا تاريخ سياسي أو خبرة دبلوماسية إلى أن الولايات المتحدة تنقل ملف العراق من وزارة الخارجية إلى "غرف الصفقات"، وهو أمر يثير مخاوف عدد من المراقبين، خصوصاً مع احتمال أن يدير مواقفه استناداً إلى شبكة معارفه وعلاقاته الشخصية داخل العراق، أكثر من اعتماده على أدوات التحليل المؤسسية، مما قد يجعل مهمته أقرب إلى "مغامرة شخصية" منها إلى دور سياسي منضبط.

وإذا ما قورن سافايا بزميله في لبنان توم براك، الذي يعد رجل اقتصاد مخضرماً وصاحب خبرة مالية ومؤسساتية طويلة وله معرفة بشؤون الشرق الأوسط، فإن المفارقة تزداد وضوحاً، خصوصاً أن سافايا يأتي بلا خبرة حقيقية في الاقتصاد الدولي ولا خلفية في العمل السياسي أو المالي المؤسسي. حتى في سياق الاقتصاد، لا يصنف سافايا كتاجر أو رجل اقتصاد بالمعنى التقليدي، بل كتاجر محلي ارتبط اسمه بتجارة "الحشيش" في ميشيغان، مما يجعل تعيينه مادة للسخرية والريبة في الداخل العراقي.

ولعل ما يزيد من حدة المخاوف إزاءه ما يراه مراقبون من احتمال أن تتحول مهمته إلى "سوق مساومات سياسية" أكثر منها بعثة دبلوماسية، خصوصاً بعد تداول الحديث عن أن تعيينه جاء كمكافأة شخصية على دعمه وتمويله حملة ترمب الانتخابية عام 2024، ودوره في تعبئة أصوات الجالية العربية في ولاية ميشيغان التي كانت حاسمة في النتائج الانتخابية.

أولويات اقتصادية

في السياق، لفت أستاذ العلوم السياسية حميد حبيب إلى أن "إرسال المبعوثين ليس صورة جديدة في السياسة الخارجية الأميركية، لكنه نادر الاستخدام، وقد بدأ الرئيس ترمب يعتمد عليه خصوصاً في ملفات حساسة كالساحة السورية واللبنانية"، وتابع أن دور المبعوث "لا يلغي دور السفير ولا يتجاوزه، فالسفارة الأميركية في بغداد قائمة وتمارس عملها، لكن المبعوث يؤدي مهمات أكثر حساسية ويتحرك خارج البيروقراطيات التقليدية، لأنه مكلف شخصياً من الرئيس الأميركي"، وأشار إلى أن تعيين سافايا بقرار مباشر من الرئيس "يمنحه حرية أوسع في التحرك وإرسال الرسائل واتخاذ قرارات حاسمة"، مبيناً  أن اختياره يعكس "أولوية اقتصادية واضحة في الملف العراقي".

ويعطي حديث وزير الخارجية الأميركي عن التفاهمات الاقتصادية مع العراق بعد أيام على تعيين المبعوث الجديد انطباعاً بأن ترمب قد "يستخدم سافايا في صياغة تلك التفاهمات"، بحسب حبيب الذي بين أن بإمكان الأطراف العراقية "الاستفادة من أصوله العراقية في تواصل عملي أكثر مرونة"، وحذر من أن المأزق الأكبر سيظهر ما إذا كان المبعوث الأميركي "مكلفاً بملف التطبيع مع إسرائيل، لأن هذا الموضوع مرفوض تماماً من القوى الشيعية، وسيعد محرقة سياسية لأي طرف يقبل به".

بين الاقتصاد والرسائل السياسية

وعلى رغم كل الترجيحات والتوقعات المختلفة، إلا أن كل الرؤى تتقاطع عند نقطة واحدة تتمثل بأن واشنطن تعيد تعريف حضورها في العراق، وتترك كثيراً من الخيارات مفتوحة سواء عبر التحركات العسكرية، أم من خلال المبعوثين والصفقات الاقتصادية. ولا يبدو تعيين سافايا مجرد خطوة إجرائية، بل تحولاً في فلسفة النفوذ الأميركي، من الحاكم المدني بول بريمر، إلى الدبلوماسي بريت ماكغورك، وصولاً إلى رجل الأعمال سافايا، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأن الاقتصاد سيمثل المدخل الأهم في الرؤية الأميركية للعراق في المرحلة المقبلة.

المزيد من تقارير