ملخص
إن القتال والموت من أجل وطن، كما يفعل الجنود الأوكرانيون بالآلاف، يعزز القوة العاطفية للأرض، وبالنسبة إلى عدد من الأوكرانيين ما يطلب منهم التنازل عنه ليس فقط عبارة عن ممتلكات بل أرض مقدسة لا تتجزأ، يدفع ثمنها بالدم، وبالنسبة إلى الجنود الروس، قد تشكل هذه الأراضي التي يسكن معظمها ناطقون بالروسية جزءاً من تاريخ وطنهم، فضلاً عن اعتبارات الأمن القومي الروسي في منع حلف شمال الأطلسي (الناتو) من تهديد وطنهم الأم.
كثيراً ما كان رسم خطوط التقسيم على الخرائط سمة من سمات الصراعات الإقليمية ومفاوضات السلام المتعثرة، لهذا لم يكن من المستغرب أن تشكل الخرائط الآن جزءاً أساسياً من أسباب الخلاف في المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا لإنهاء الصراع المستمر منذ ثلاث سنوات ونصف سنة في أوكرانيا، التي يبدو أنها كانت السبب وراء عدم عقد القمة بين ترمب وبوتين في بودابست، بخاصة الخلاف حول السيطرة على إقليم دونباس. فما أصل الخلاف هنا؟ ولماذا يتمسك كل طرف بموقفه من خرائط التقسيم؟ وهل يعني ذلك فشل آخر للرئيس ترمب، أم ستنجح جهوده في الضغط على أوكرانيا وروسيا لتقديم تنازلات؟
تبدل مثير
عكس تراجع البيت الأبيض عن خطط لقاء دونالد ترمب مع فلاديمير بوتين في المستقبل القريب، التبدل المثير الذي ميز علاقة الرئيس الأميركي مع نظيره الروسي منذ عودة ترمب للبيت الأبيض، وهو ما أفسد الصورة الوردية التي قدمها سيد البيت الأبيض قبل خمسة أيام فقط، بعد أن تحدث هاتفياً مع بوتين لأكثر من ساعتين، وخرج بخطة لعقد اجتماع شخصي سريع جداً في بودابست لمناقشة إنهاء الحرب.
غير أن إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عقب مكالمة هاتفية مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، أن موقف موسكو من الحرب لم يتغير، وأن اتفاق السلام يجب أن يأتي قبل وقف إطلاق النار، وإصراره على أن يستند أي اتفاق سلام إلى ما يسميه الكرملين جذور المشكلة، وهو اختصار غامض يستخدمه للإشارة إلى مطالب موسكو بتنازل أوكرانيا عن مزيد من الأراضي، والتخلي الدائم عن الانضمام إلى حلف "الناتو"، وقبول قيود صارمة على حجم جيشها، وعدم تلقي أية مساعدة عسكرية غربية مستقبلية، كان من شأنه أن ينسف اجتماع قمة بودابست، بل واجتماع الوزيرين وكبار المسؤولين، فقد بدا أن استراتيجية بوتين هي السماح بمواصلة الحرب إلى أجل غير مسمى، في انتظار التفاوض على اتفاق أكثر واقعية قد يستغرق التوصل إليه سنوات.
هكذا، أصبح السؤال في واشنطن هو ما إذا كان ترمب قد أدرك أنه لكي يحقق النتائج التي يريدها، عليه الضغط على بوتين، كما يشير السفير الأميركي السابق لدى بولندا والدبلوماسي دانيال فريد، الذي فسر التبدل الأخير في مواقف ترمب من التهديد بإرسال صواريخ "توماهوك" إلى أوكرانيا لإجبار روسيا على التفاوض ثم تجميد الصفقة بعد التوافق على قمة في بودابست بأنه يعني أن بوتين يواصل التلاعب به.
أصل الخلاف
غير أن أصل الخلاف تبدى في التنازل عن الأراضي، ففي المكالمة الهاتفية التي جرت يوم الخميس الماضي مع ترمب، طالب بوتين أوكرانيا بتسليم كامل منطقة دونيتسك، بما في ذلك الأراضي التي لا تسيطر عليها روسيا، وفي اجتماع لاحق متوتر في البيت الأبيض مع زيلينسكي يوم الجمعة، حثه ترمب على تسليم كامل منطقة دونباس، بما في ذلك منطقة دونيتسك، للتوصل إلى اتفاق، وهو ما عارضه زيلينسكي من دون أن يكرر الصدام مع ترمب، مدعوماً بموقف الحلفاء الأوروبيين الذين رفضوا في اليوم التالي فكرة التنازل عن الأراضي للروس، لكن ترمب خرج من اجتماع زيلينسكي داعياً إلى وقف إطلاق النار على طول خط المواجهة، وهو موقف أيده الرئيس الأوكراني لكي يفتح الباب للتفاوض، لكن ذلك أثار حفيظة الروس ودفعهم إلى تذكير الولايات المتحدة بشروطهم التي اتضح معها حجم الهوة الهائلة في مواقف الطرفين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان من الواضح أن موقف روسيا لم يتزعزع عما كان عليه قبل ستة أشهر بحسب ما تقول تاتيانا ستانوفايا، كبيرة الباحثين المختصة بشؤون روسيا وأوراسيا في مركز "كارنيغي"، فكلما بدا أن ترمب ينفد صبره مع بوتين، كان الزعيم الروسي يبادر بعرض السلام، ولكن بشروط روسيا الصارمة، مع مواصلة زعيم الكرملين الضغط على ترمب لإجبار أوكرانيا على التنازل عن أراض في دونباس لروسيا، ثم يدفع باتجاه مزيد في ما بعد، وهو ما يجعل خرائط تقسيم الأراضي أساساً لوضع التصورات الممكنة لإنهاء الصراعات الإقليمية.
خرائط المصير
كثيراً ما كان رسم خطوط التقسيم على الخرائط سمة من سمات الصراعات الإقليمية المتعثرة كما يشير أستاذ الحكومة والشؤون الدولية في جامعة "فرجينيا" للتكنولوجيا جيرارد تول، ففي عام 1995 أبرم المفاوضون الأميركيون الاتفاق الذي أنهى حرب البوسنة من خلال تعديلات في الخرائط تمت في اللحظة الأخيرة لضمان توافق التسوية مع تقسيم الأراضي المتفق عليه مسبقاً بنسبة 49 – 51 في المئة بين قوات صرب البوسنة وممثلي الاتحاد البوسني، بعدما كانت الخرائط محورية في عمليات التطهير العرقي التي حدثت في البوسنة والهرسك، مما دفع الفصائل، وبخاصة صرب البوسنة، إلى محاولة إنشاء مساحة أحادية العرق من خلال العنف.
وفي القوقاز، شكلت أوهام إنشاء خرائط لأراضي متجانسة عرقياً أو دينياً أساساً لحملات عنيفة مسلحة ضد المجموعات العرقية الأخرى في كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وناغورنو قرة باغ.
مع ذلك، فإن تقسيم الأراضي كنسب مئوية يتعارض مع نظرة معظم الناس إلى أوطانهم على مساحة من الأرض، لهذا وصف المؤرخ الأنغلو- أيرلندي بنديكت أندرسون كيف تنشئ الدول أمماً من خلال الانتشار الواسع لخريطة من الأراضي تضم مجتمعات مشتركة، وهي طريقة أصبحت معها صور الخرائط بمثابة شعارات للدولة، إذ لم تتخيل الأمم نفسها كمجتمع فحسب، بل كانت تنتمي إلى مساحة محددة ومعروفة تشكل وطناً مألوفاً على مساحة من الأرض.
وتطور مفهوم الأراضي أو الأقاليم في عالم اليوم لتصبح أشكالاً مميزة توضع على الملصقات والقمصان وفي الكتب المدرسية، لكنها أيضاً تخضع وسط الصراعات للاختبار كشيء أو جسد حي وشخصي باعتبارها جسماً جغرافياً، على حد تعبير المؤرخ التايلاندي ثونغتشاي وينيشاكول، مما يدفع المواطنين والأمم إلى الشعور بارتباط عميق بحدود أراضي دولهم، وهذا يفسر المقاومة المستمرة عموماً من جانب الأوكرانيين لتقديم تنازلات في الأراضي لروسيا على رغم وجود دلائل عكستها استطلاعات الرأي الأخيرة على أن المشاعر الشعبية بدأت تتغير بعد ثلاث سنوات ونصف سنة من الحرب.
من أجل وطن
إن القتال والموت من أجل وطن، كما يفعل الجنود الأوكرانيون بالآلاف، يعزز القوة العاطفية للأرض، وبالنسبة إلى عدد من الأوكرانيين ما يطلب منهم التنازل عنه ليس فقط عبارة عن ممتلكات بل أرض مقدسة لا تتجزأ، يدفع ثمنها بالدم، وبالنسبة إلى الجنود الروس، قد تشكل هذه الأراضي التي يسكن معظمها ناطقون بالروسية جزءاً من تاريخ وطنهم، فضلاً عن اعتبارات الأمن القومي الروسي في منع حلف شمال الأطلسي (الناتو) من تهديد وطنهم الأم.
هذا الفهم للأرض يختلف تماماً عن فهم ترمب وفريقه المختار من رجال الصفقات الذين يتعاملون مع الصراعات الدولية كمعاملات تجارية، إذ سئم الرئيس دونالد ترمب من رؤية خرائط خط المواجهة في أوكرانيا، وفقاً لرواية مسؤول أوروبي، إذ ألقى خرائط الوفد الأوكراني جانباً خلال اجتماعه الأخير مع زيلينسكي في البيت الأبيض يوم الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول).
لكن هذا السعي وراء صفقة على حساب اعتبارات أخرى له جانب سلبي، وقد يؤدي إلى خطوات خاطئة، إذ اعتقد ستيف ويتكوف، مبعوث ترمب الخاص لمهمات السلام، أنه حقق اختراقاً خلال اجتماع مع الروس في أوائل أغسطس (آب) الماضي، عند النظر في المناطق التي قد تنسحب منها روسيا على الخريطة، فقد ذكرت صحيفة "بيلد" الألمانية أن ويتكوف، الذي لا يجيد الروسية ولم يكن لديه مترجم خاص، أساء فهم مطلب بوتين بالانسحاب السلمي للأوكرانيين من خيرسون وزابوريجيا، واعتبره عرضاً من روسيا بالانسحاب السلمي من هاتين المنطقتين، وبسبب تأجيل العقوبات الأميركية الجديدة واقتراح القمة بين بوتين وترمب في أنكوراج بولاية آلاسكا الأميركية، وافق الروس على سوء الفهم، وفقاً لتقرير بيلد.
مع ذلك، لم تكن قمة ألاسكا هي الإنجاز الذي تصوره ترمب، فقد حظي بوتين باستقبال حافل على الأراضي الأميركية، لكنه أخضع ترمب لشرح مطول حول أسباب حرب روسيا في أوكرانيا، إذ لم يكن بوتين مستعداً لمنح ترمب اتفاق وقف إطلاق النار الذي رغب فيه.
غير أن بوتين قدم اقتراحاً حول الأراضي التي يريد كل طرف السيطرة عليها، مما أبقى ترمب مهتماً بمواصلة لعب دور صانع السلام، وتمثل الاقتراح في أنه إذا استحوذت روسيا على جميع أراضي المنطقتين اللتين تشكلان دونباس، فستنظر روسيا في تجميد خطوط القتال في زابوريجيا وخيرسون.
مساومة على النسب
شكل هذا التطور خلفية لاجتماع استثنائي في البيت الأبيض في الـ18 من أغسطس، عندما انضم سبعة قادة أوروبيين إلى زيلينسكي في لقاء مع ترمب لمناقشة نهاية محتملة للحرب.
في هذا الاجتماع، صور الصحافيون الوفد الأوكراني وهو يدخل البيت الأبيض حاملاً ما يشبه خريطة مطوية، لكن في المكتب البيضاوي، واجه الأوكرانيون لوحة صلبة تابعة للبيت الأبيض تظهر خريطة للصراع الروسي - الأوكراني، تضمنت عرضاً بخرائط ملونة باللون البرتقالي للأراضي الخاضعة حالياً لسيطرة روسيا، مع نسبة مئوية من أراضي كل إقليم.
أشارت الخريطة إلى أن روسيا احتلت 99 في المئة من لوغانسك و76 في المئة من دونيتسك، لكن بوتين أراد 100 في المئة من كليهما، وهو مطلب يلزم أوكرانيا بتسليم الأراضي التي يوجد بها خط دفاعي قوي جداً يحمي وسط أوكرانيا، في حين تخشى كييف التنازل عنه حتى لا تصبح فريسة لروسيا حال انهيار اتفاق وقف إطلاق النار أو اتفاق السلام مستقبلاً.
كان معنى خريطة المكتب البيضاوي واضحاً لترمب، ففي اليوم التالي خلال مقابلة هاتفية مع برنامج "فوكس آند فريندز"، وفي إشارة إلى الخريطة، قال إنها مساحة كبيرة من الأراضي جرى الاستيلاء عليها، ملمحاً إلى أنها الآن في قبضة روسيا، وبعبارة أخرى سجلت الخريطة النتيجة الفعلية لحرب مؤسفة بين دولة صغيرة وأخرى أكبر بكثير.
بعد ذلك، حاول زيلينسكي الدعوة إلى نهج مختلف في التعامل مع قضايا الخرائط، وهو نهج يؤكد الأهمية الرمزية والاستراتيجية للحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا كمثال أعلى للأوكرانيين والمجتمع الدولي، وقد أحرز بعض التقدم، فعقب لقائه زيلينسكي في الأمم المتحدة في الـ23 من سبتمبر (أيلول)، أشار ترمب إلى أن أوكرانيا قد تنجح في معركتها لاستعادة السيطرة على أراضيها في شكلها الأصلي.
واقعية مؤلمة
ومع ميل ترمب الظاهر نحو دعم أوكرانيا بصواريخ "كروز" البعيدة المدى من طراز "توماهوك" قادرة على إلحاق خسائر فادحة ضد القوات الروسية ومنشآت الطاقة في العمق الروسي، التقط بوتين زمام المبادرة واتصل بترمب عبر مكالمة هاتفية مطولة سبقت زيارة زيلينسكي للبيت الأبيض في الـ17 من أكتوبر طور خلالها الزعيم الروسي عرضه للسلام، مقترحاً انسحاب قواته من زابوريجيا وخيرسون في مقابل استعادة كامل منطقة دونباس.
مهد هذا العرض الطريق لمشادة كلامية أخرى بين ترمب وزيلينسكي، وتجاهل خرائط خطوط المواجهة، ونشر ترمب من منطلق اقتناعه بالواقع المرير في ساحات القتال والخسائر الفادحة بين الطرفين ورغبته في تحقيق سلام ما دام وعد بأنه قادر على حسمه في يوم واحد، نشر على مواقع "تروث سوشيال"، قائلاً إنه حان الوقت لوقف القتل وإبرام صفقة، وأن على الطرفين التوقف عند هذا الحد وتجميد خطوط القتال.
كان هذا هو موقف ترمب من قضايا الخرائط، إذ يتراجع عن التصعيد للضغط على أوكرانيا للتخلي عن كامل منطقة دونباس علناً، بشرط تجميد الصراع الآن على طول خطوط القتال الحالية، وعندما سئل ترمب في مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" في السادس من أكتوبر عما إذا كان بوتين منفتحاً على إنهاء الحرب من دون الاستيلاء على مساحات كبيرة من أوكرانيا، أجاب بأنه سيأخذ شيئاً ما لأنه فاز ببعضها، مما يظهر اختلافاً مع رؤية زيلينسكي للأمور عند النظر إلى خرائط خطوط المواجهة، إذ يرى الزعيم الأوكراني واقعاً مؤلماً، وهو تمزق رقعة بلاده الجغرافية بعنف على يد روسيا، بينما تشير تعليقات ترمب إلى أنه يرى الأمر نزاعاً على الأراضي، إذ حقق الطرف الأقوى مكاسب إقليمية، وهو الآن بحاجة إلى استغلالها.
لكن بعدما اصطدم فريق ترمب برفض روسيا وقف إطلاق النار، بدا أن هدف الكرملين من الاتصال الهاتفي بين بوتين وترمب لم يكن التوصل إلى اتفاق سلام أفضل لروسيا، بل كسب مزيد من الوقت لمواصلة الهجوم البري في دونباس، بحسب ما يقول ستيفان وولف، أستاذ الأمن الدولي في جامعة "برمنغهام"، على اعتبار أن أفضل سبيل لتحقيق ذلك هو منع الولايات المتحدة من دعم موقف أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين دعماً كاملاً.
كما أن اختيار مكان انعقاد القمة التي كانت مقترحة في بودابست، كان مثيراً للاهتمام وفقاً لتيتيانا ماليارينكو، أستاذة الأمن الدولي في أكاديمية "أوديسا" للقانون بالجامعة الوطنية، إذ لم يكن من الممكن لبوتين السفر إلى بودابست من دون المرور عبر المجال الجوي لحلف "الناتو"، وعبر المجال الجوي للدول المرشحة في الأقل لعضوية الاتحاد الأوروبي، مما يشكل ضغطاً كبيراً على الاتحاد والحلف للسماح لبوتين بالمرور، وإلا سينظر إليهما على أنهما يعوقان جهود ترمب لصنع السلام، وهي رواية يروج لها الكرملين منذ فترة كجزء من استراتيجيته لزعزعة العلاقات عبر الأطلسي.
ماذا بعد؟
على رغم فشل انعقاد قمة بودابست، رأى ترمب إنه لا تزال ثمة فرصة لوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وقال إنه جاء وعليه أن يرى إن كان بإمكانه إخماد الحرب، لكن السؤال هو كيف وسط هذا التعثر الكبير والمتكرر.
لا يزال ترمب يتمتع بنفوذ في المحادثات مع موسكو، إذ يظل بإمكانه تهديد الروس بتزويد أوكرانيا بصواريخ "توماهوك"، فقد كان بوتين قلقاً حيال هذه الصواريخ، وسعى إلى وقف هذه الخطوة وفقاً للسفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا ويليام تايلور.
غير أن مدير برنامج "أوراسيا" في معهد "كوينسي" أناتولي ليفين، يرى أن العدد المحدود من صواريخ "توماهوك" التي تطلق من الأرض، التي يمكن للولايات المتحدة توفيرها بصورة جدية، لن تغير ميزان القوى بين أوكرانيا وروسيا. ومن الناحية السياسية، ستعتبر موسكو استخدام الصواريخ ضدها تصعيداً هائلاً، ومن المرجح أن بوتين حذر ترمب من تزويد أوكرانيا بها خلال مكالمتهما الهاتفية، بخاصة أن الأوكرانيين سيحتاجون إلى مساعدة مباشرة من الجيش الأميركي لتجهيز وتوجيه الصواريخ نحو أهدافها، لهذا قد يكون من المهم أن يتحلى الرئيس ترمب بالحكمة والمسؤولية نفسها في تعامله مع هذا الأمر.
كما ينبغي أن يرفض ترمب اقتراحين آخرين بالغي الخطر قادمين من أوروبا، وهما إسقاط الطائرات الحربية الروسية التي تنتهك المجال الجوي لحلف "الناتو"، ومصادرة الشحنات الروسية في أعالي البحار إذا دخلت موانئ أو مياه دول الحلف الإقليمية، إذ من المستبعد جداً أن تتخذ الدول الأوروبية مثل هذه الخطوات من دون دعم الولايات المتحدة، وهو ما يجب أن ترفضه واشنطن.
والأهم من ذلك، أن الجبهة الأوكرانية لا تزال صامدة بفضل المزايا الهائلة التي توفرها التكنولوجيا العسكرية الحديثة للدفاع، بخاصة أن الجيش الروسي يتقدم ببطء شديد، إذ استمر القتال من أجل بلدة بوكروفسك الصغيرة في مقاطعة دونيتسك منذ ما يقرب من 15 شهراً بلا أي اختراق روسي، ولا توجد أية مؤشرات على ظهور أسلحة جديدة من شأنها أن تمكن روسيا من كسر الجمود بسرعة.
وحتى لو استطاعت روسيا بهذا المعدل الاستيلاء على 30 في المئة المتبقية من مقاطعة دونيتسك التي تسيطر عليها أوكرانيا، أو إذا استطاع ترمب بطريقة ما الضغط على أوكرانيا للانسحاب من هذه المنطقة كجزء من تسوية سلمية، فإن الانتصارات الروسية الأكبر ستظل بعيدة المنال، ولن يكون لدى روسيا أية فرصة للتسبب في انهيار الدولة الأوكرانية.
لذا، فإن استقلال أوكرانيا في الوقت الحاضر مضمون، وسيبقى كذلك، حتى لو سقطت بعض بلدات دونيتسك في يد روسيا، وإذا تمكنت في نهاية المطاف من الاستيلاء على كامل منطقة دونباس فسيكون بوتين مستعداً للتوقف إذا تمت معالجة المخاوف الروسية في مجالات أوسع، مثل العلاقات الأميركية – الروسية، والأمن الأوروبي.