Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإقليم العربي بين قرنين

حل الصراع يكمن في أن تتغير إسرائيل إلى دولة تسعى بحق إلى السلام وتطلب التعايش مع الجيران ولا تصبح دولة عدوان واستيطان وعنصرية

الرئيس الفلسطيني محمود عباس متحدثا خلال مؤتمر حل الدولتين في الأمم المتحدة (رويترز)

ملخص

الجهود المبذولة حالياً لغرس الأمل لدى كل الأطراف في الشرق الأوسط أمر يدعو إلى التفاؤل هذه المرة أكثر من كل المحاولات السابقة، ذلك أن المفاوضات تجري تحت سمع وبصر العالم كله، وبعد سقوط أكثر من 70 ألف قتيل من أهل غزة، منهم نسبة كبيرة من الأطفال والنساء، مما يؤكد أن جرائم الحرب يجب أن تتحول الآن إلى أيقونات للسلام.

ليس من شك في أن الأعوام الأخيرة من القرن الـ 20 كانت حافلة بالأحداث المهمة والتحولات الخطرة في المنطقة العربية، فمع بداية الربع الأخير من ذلك القرن ساد إحساس عام بأننا نمضي على طريق تسوية سلمية للقضية الفلسطينية، خصوصاً بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، حين تمكنت القوة العربية من فرض إرادتها بشكل أو آخر على باقي الأطراف، ولا نزال نتذكر حتى الآن الزيارات المكوكية لوزير الخارجية الأميركي الدبلوماسي الداهية هنري كيسنجر، الذي تمكن من توقيع اتفاقات فك الاشتباك بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا، وفي تلك الفترة حقق الفلسطينيون أيضاً بعض الإنجازات الملموسة على الأرض، وعادت القيادة الفلسطينية لمقرها الرسمي فوق ترابها الوطني.

وجرت في تلك الفترة حادثة شاذة على الساحة العربية باحتلال العراق للكويت وتداعيات ذلك على سياسات المنطقة وأجواء الحكم فيها، وأنا ممن يظنون أن قرار الرئيس العراقي السابق صدام حسين بغزو دولة جارة على نحو مفاجئ يعتبر في حد ذاته أكبر صفعة للمنطقة العربية، لا تزال تداعياتها واضحة حتى اليوم، فكما أن هزيمة 1967 هزت أركان العالم العربي فإن غزو العراق للكويت وسياسات صدام حسين أدت هي الأخرى إلى إضافة رصيد سلبي للعمل العربي المشترك والتماسك القومي المطلوب، فالبعث الذي كان يرفع دائماً شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" قد بعث برسالة جديدة تقوم على الفرقة والتشرذم والتخبط السياسي، في ظل أنواء عصفت بالشرق الأوسط عموماً وبلغت ذروتها مع حادثة دولية غير مسبوقة، عندما اقتحمت طائرات مجهولة برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، لتدشن فصلاً مروعاً مع مطلع القرن الـ21 ترك بصمات طويلة المدى على الخريطة الجيوسياسية للإقليم برمته، ومن منا لا يعترف أن أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 كانت نقطة تحول كبرى نتج منها كثير من الآثار السلبية في الساحة الدولية، إذ تحول المشهد الإقليمي إلى معارك دامية باحتلال الولايات المتحدة فعلياً لكل من أفغانستان والعراق، ثم سقوط صدام حسين بين يدي أعدائه ليجري إعدامه في مشهد عالمي مروع، سيبقى في ذاكرة الأمة العربية صفحة مطوية تلخص مأساة العرب مع مطلع القرن الجديد.

وإذا نظرنا إلى مسار القضية الفلسطينية وجدنا تقدماً ملاحظاً طرأ خلال تلك الفترة عربياً وفلسطينياً، فلقد نشطت الدبلوماسية الإسرائيلية في تحسين صورتها على رغم اغتيال رئيس وزرائها الذي كان يمثل القاطرة المتحركة نحو السلام بدرجة ما، وما زلت أتذكر شخصياً أن وزير خارجية مصر في تلك الفترة عمرو موسى اتصل بي ذات صباح في أحد أيام عام 2000 ليكلفني باعتباري مساعد أول وزير الخارجية المصرية لشؤون العالم العربي ودول الشرق الأوسط، وكان التكليف هو استقبال وزير خارجية إسرائيل شلومو بن عامي في مطار النزهة بالإسكندرية، واصطحابه مع السفير الإسرائيلي لدى مصر إلى حيث اللقاء الذي جرى إعداده مع الرئيس مبارك في المقر الرئاسي بالإسكندرية، إذ لم يتمكن السيد عمرو موسى من حضور بداية اللقاء، وكان على موعد مع ضيفه وزير خارجية الدنمارك على مائدة الإفطار، وكان الوزير الضيف الاسكندنافي في زيارة رسمية للقاهرة، وبالفعل ذهبت إلى المطار واستقبلت الوزير الإسرائيلي وذهبنا إلى مقر القصر الرئاسي، وبن عامي يحكي لي عن أصوله المغاربية و فترة عمله سفيراً لإسرائيل في إسبانيا، وكان هناك نوع من التفاؤل يشع في الأجواء العامة لتلك المرحلة، وعندما وصلنا إلى مقر الرئيس دخل كبير الأمناء أشرف بكير ليقول لي إن الرئيس قد علم أنك هنا، وهو يطلب أن تحضر الاجتماع في غياب وزير الخارجية الذي كان مرتبطاً بالضيف الذي يزور الخارجية المصرية، وقد فعلت ذلك، وما إن دخلنا ورحب الرئيس بالجميع وداعبني بكلمات رقيقة حتى أعطى الكلمة للسيد شلومو بن عامي الذي قال نصاً "أصبحنا مقتنعين بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها شرق القدس"، فقال الرئيس مبارك "الحمد لله أنكم اكتشفتم أخيراً طريق الصواب".

ثم جرى حديث متفائل تبدو فيه روح جديدة بين الجميع، وعندئذ أضاف وزير خارجية إسرائيل للرئيس المصري الراحل عبارات تقدير لدور مصر في تهدئة الصراع وتقديم النصيحة الواقعية للقيادات الفلسطينية، ثم أضاف قائلاً "لكن هناك مشكلة أطرحها على فخامتكم وأعني بها الأماكن المقدسة في القدس وما حولها"، عندئذ قاطعه الرئيس مبارك قائلاً "الأماكن المقدسة هي للديانات الثلاث حق مشترك لأصحابها، ولا أزعم أن لدينا حلاً سحرياً لها، ولكن الأمر يتوقف على التفاهم المشترك وروح السلام الجديد وتأثيرها في كل الأطراف"، وعندئذ وصل عمرو موسى إلى مكان الاجتماع وحيا الحاضرين وذكر أمامه الرئيس ملخصاً سريعاً للحوار الذي جرى، فأخرج وزير خارجية مصر من ملف أمامه خرائط لمدينة القدس وتوزيع الأماكن المقدسة فيها، بدءاً من المسجد الأقصى ومروراً بكنيسة القيامة ووصولاً إلى حائط المبكى، وبدأ يشرح أهمية كل منها لأصحاب الديانات الإبراهيمية الثلاث، ثم أضاف أن لدى الخارجية المصرية بعض التصورات وعدداً من الاقتراحات لحل مشكلة الأماكن المقدسة في فلسطين، ومنها أن يجري اختيار الرئيس الفلسطيني عرفات خادماً للحرم المقدسي على غرار الملك السعودي خادم الحرمين الشريفين، والاقتراح الثاني هو أن نبحث عن صيغة شبيهة بوضع الفاتيكان واستقلاليته للأماكن المقدسة، تضمن حرية العقائد الدينية وتسمح بالتعايش المشترك بين أتباع الديانات الثلاث على أرض فلسطين، خصوصاً في البقاع المقدسة والأماكن ذات الخصوصية الدينية لكل طرف، وعندئذ أبدى الوزير الإسرائيلي سعادته بالاقتراحين وإمكان البحث فيهما مع اقتراحات أخرى، ما دامت روح السلام هي التي تسود، واضعين في الاعتبار الآثار الإيجابية للمناخ العام في ظل حكومة إيهود باراك التي كانت قائمة حينذاك، وادعت زيفاً أنها تعرض على الفلسطينيين 97 في المئة من مطالبهم الأرضية وحقوقهم التاريخية.

انصرفنا من لقاء الرئيس بوزير الخارجية الإسرائيلي لتناول طعام الغذاء في فندق "متروبوليتان" الأثري في محطة الرمل، وكانت الروح عموماً مختلفة تماماً عما نشهده هذه الأيام من صلف إسرائيلي مطلق، مقترن بجرائم نتنياهو التي لا مثيل لها في تاريخ الأمم والشعوب، واستخدام سياسية الترويع والتجويع كأداتي ضغط لتحقيق أهداف معينة، تسعى إلى إجهاض كل ما تحقق حينذاك من خطوات ولو بطيئة نحو السلام الشامل العادل الذي يطالب به العرب.

ولم يقف الأمر عند المشهد الفلسطيني وحده، بل إن تداعيات أخرى على ساحة الإقليم غيرت جزءاً كبيراً من الصورة العامة، فقد رحل العاهل السعودي الملك فهد بن عبدالعزيز عن عالمنا وتولى خلافته رسمياً الأمير عبدالله بن عبد العزيز ولي عهده، وهو صاحب المبادرة العربية الشهيرة التي لا نزال نطالب بها ونسعى إلى تحقيق بعض بنودها، وأتذكر الآن "مؤتمر القمة العربية في بيروت" وحرص الأطراف المختلفة على الوصول بصيغة أوسلو إلى حل يقترب من المسار النهائي للصراع العربي - الإسرائيلي، وبوصول الرئيس الأميركي بيل كلينتون إلى سدة الحكم تفاءل كثيرون بالدم الجديد لرئيس شاب نسبياً، يعيد للأذهان شيئاً من روح جون كيندي الذي راح ضحية التعصب اليميني وضاع دمه بين القبائل كما يقولون، وبدأت العلاقات الفلسطينية - الفلسطينية صفحة مؤلمة من تجدد الخلاف بين حركتي "فتح" و"حماس" حتى وصل الأمر إلى الصدام المسلح، خصوصاً أن القيادة الفلسطينية القوية التي مثلتها شخصية الرئيس ياسر عرفات كانت قد اختفت من الساحة بوفاته عام 2004 بعد فترة احتجاز خلال المقاطعة في رام الله، حيث كانت نهاية حزينة لذلك القائد الفلسطيني الوحيد الذي اجتمع حوله الفلسطينيون، على رغم كل الصراعات والخلافات كافة.

وتتردد هنا قصة في بعض الأوساط الدبلوماسية وبعض العرب من موظفي البيت الأبيض تشير إلى أن بيل كلينتون حاول جاهداً خلال الأسبوعين الأخيرين من فترة رئاسته إقناع أبو عمار بقبول عرض قدمه إيهود باراك، ولكن أبو عمار طلب موافقة القيادة السياسية في دولتين عربيتين وهما السعودية ومصر، وبالفعل أجرى كلينتون اتصالاً هاتفياً بكل من الرئيس المصري مبارك وولي العهد السعودي القائم بأعمال الملك آنذاك الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، واستمع منهما معاً إلى إجابة واحدة تقريباً، وهي أنهما يرحبان بكل ما يوافق عليه الفلسطينيون وسيدعمون ذلك بلا تحفظ، ولكن عندما عاد كلينتون برد الفعل المصري - السعودي ذكر أبو عمار أن الأمر يحتاج إلى قمة عربية، فتصور كلينتون أن تلك إجابة هربية لا جدية فيها، فقال له "سأتفرغ لحل المشكلات بين الهند وباكستان فقد أحصل بها على 'جائزة نوبل' خلال الفترة القصيرة الباقية لي في البيت الأبيض"، وأُجهضت المبادرة.

وعندما كنت أسأل الدبلوماسي المخضرم عمرو موسى عن تقييمه لذلك، كان رده دائماً أن إسرائيل لم تكن جادة أبداً في عرضها وكان اقتراحها عاماً ومائعاً بلا خرائط ولا محددات واضحة، ولقد دفع عرفات بعد ذلك ثمناً باهظاً في أيامه الأخيرة حبيساً مريضاً في مقره الفلسطيني، وخلاصة ما أريد أن أقوله في هذا المقام هو أن إسرائيل كانت دائماً تلعب بعامل الوقت ولا تفكر في سواه، فهي تريد أن تشتري زمناً قادماً بالتلويح على طريق التسوية وهي غير جادة في ذلك، لذلك اتسم مطلع القرن الـ21 بقدر كبير من الترقب والقلق، وما زلت أتذكر عندما أوفدني الرئيس مبارك حينما كنت رئيساً للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصري كي أكون مرافقاً لرئيس الاستخبارات المصرية عمر سليمان في الاحتفال بذكرى مرور 40 يوماً على رحيل عرفات، ورأيت كيف كانت المشاعر ملتهبة والأحاسيس قوية، ولكني كنت أشتم أيضاً بحاستي السياسية أن الصراع بين "فتح" و"حماس" يتزايد، وأن الصدام قادم لا محالة، وبالفعل كان ذلك هو ما حدث بعد الحرب على لبنان التي خاضها "حزب الله" ضد قوات إسرائيل، وخرجت منها "حماس" بنصر نسبي هيأ لقادتها أنهم طرف فاعل في الصراع المحتدم على أرض الشرق الأوسط، خصوصاً بعد انسحاب إسرائيل الطوعي من غزة، حيث بدأ التصعيد على الأرض وبرز دور "حزب الله" مؤثراً في الساحات المختلفة، في وقت صرح مسؤول إيراني بعد سقوط صنعاء في يد الحوثيين بأن العاصمة العربية الرابعة قد سقطت في يد إيران بعد بغداد ودمشق وبيروت.

وهكذا أصبحت المنطقة على موعد مع حدث جلل لا يمكن تجاهله، بل لا يزال حتى الآن موضع علامات استفهام غامضة توحي بأن شيئاً ما كان يقف وراء ما جرى حينذاك، وأعني بذلك ما نطلق عليه "أحداث الربيع العربي" التي أثرت تأثيراً كبيراً في القضية الفلسطينية، وتحديداً بسبب الانتباه للحدث الجديد الذي اجتاح المنطقة وصرف الانتباه نسبياً عن ذلك الصراع الطويل بين العرب والحركة الصهيونية، وانتهى الأمر بسقوط بعض الأنظمة واختفاء بعض القيادات، لكن حالاً من الملل أصابت بعض الأطراف حين سقط عدد من الأنظمة العربية وأصبحنا أمام مشهد تصعب قراءته، ولقد استغلت إسرائيل الفرصة لكي تدفع بأفكارها التقليدية وتحكم قبضتها على الأراضي الفلسطينية حتى أصبحت الساحة العربية مختلفة تماماً، وازدادت إسرائيل تمرداً على الشرعية الدولية وخروجاً على المألوف الذي كان متوقعاً، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فلقد ضعفت السلطة الفلسطينية نسبياً وحاول بعض قادة "حماس" ركوب الموجة والتصعيد في مواجهة إسرائيل وممارساتها العدوانية، وظهر دور "حزب الله" ليفتح جسوراً من أبنائه في ساحات مختلفة، وامتد نشاط إيران من جنوب لبنان إلى الاندماج الكامل مع نظام الأسد في سوريا وصولاً إلى علاقات وثيقة مع الحوثيين في اليمن، فضلاً عن شد وجذب طائفي في العراق، حتى إن بعضهم يطلق على تلك الفترة التي تلت أعوام الربيع العربي مباشرة "الحقبة الإيرانية"، حين تبلور الاستقطاب بوضوح بين محورين أحدهما معتدل والآخر إيراني متشدد، وقد تمكنت السعودية بقيادة ولي عهدها الشاب الأمير محمد بن سلمان من اختراق الجبهة الإيرانية وفتح حوار إيجابي معها، ولم تكن إسرائيل بالطبع مرتاحة له أو راضية عنه.

ولا شك في أن الأمر في النهاية يدور في مطلع هذا القرن بين محاور ثلاثة هي بالترتيب حادثة الـ11 من سبتمبر 2011 بتداعياتها وغموضها ومآلاتها، فضلاً عن مهرجان الربيع العربي بأضوائه الخافتة وأحداثه الصاخبة في الوقت ذاته، ثم كان المحور الثالث كما أسلفنا وهو تصاعد الوجود الإيراني في المنطقة واحتدام الصراع بين الإدارة الأميركية والدولة الفارسية، واضعين في الاعتبار ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي وتسميته ذاته "تنظيم الدولة الإسلامية"، وهو الذي ارتكب جرائم فادحة في أقطار المشرق العربي، حتى تمكن العراق من طرد فلوله واستعادة الموصل من تحت سيطرته، وبمجيء دونالد ترمب إلى السلطة عام 2016 قام بإلغاء الاتفاق الإيراني - الأميركي الذي كان الرئيس أوباما قد وقعه مع طهران، وبذلك أصبحت قضية الملف النووي الإيراني مصدر صداع تحرص إسرائيل على استخدامه من حين لآخر، من أجل توتير المنطقة وإحداث حال من الفزع، تهدد فيها تل أبيب بالقيام بعمل عسكري ضد إيران، وباختفاء شخوص مؤثرة في المنطقة من أمثال صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح، فضلاً عن رحيل حافظ الأسد والملك حسين، وكذلك الابتعاد النسبي لبعض دول المغرب العربي من الساحة وغياب تأثيرها عن القمم العربية الحاكمة للإقليم كله.

ودعونا نعترف هنا بأن ظهور ولي العهد السعودي بأفكاره الجديدة وآرائه الخلاقة كان ذا تأثير كبير في المنطقة العربية، خصوصاً في ما يتعلق بمواجهة جماعة "الإخوان المسلمين" والعناصر السلفية المتطرفة، فارتفعت أصوات في الرياض تدعو إلى نبذ الأطر التقليدية للمجتمع السعودي وضرورة مشاركة المرأة في الحياة العامة، مما أدى إلى إحياء روح جديدة ترفض التعصب والتشدد والغلواء، وتميل إلى الاعتدال ومواكبة العصر وتطوير التقاليد بما يتمشى مع التطورات الجديدة لعالمنا المعاصر، ولقد استجابت مصر على الجانب الآخر لذلك التوجه رفضاً لأفكار "الإخوان المسلمين" وإنهاء لحكمهم، وذلك عندما خرج الشعب المصري بالملايين في الشوارع معلناً سقوط الجماعة بأفكارها التي امتدت لأكثر من 80 عاماً على الساحة المصرية، بل والمجتمع الإسلامي برمته.

ولكن لا بد لنا من أن نمعن النظر إلى ذلك العامل السلبي الذي تمكن من الحضور تحت مسمى "داعش"، فقد كانت تلك الجماعة بمثابة خطر داهم على الإقليم العربي كله، وأضحت مبرراً لتخليق مشكلات جديدة على الصعيد القومي وخصوصاً في سوريا والعراق، إلى أن تمكن "الحشد الشعبي" من طردها من الموصل، ولا تزال محاولات إحياء ذلك التنظيم قائمة، خصوصاً وأن بعض دول الجوار قد استخدمته، ولعلنا نخص بالذكر هنا الجمهورية التركية وتدخلها الحدودي مع تلك الأنشطة لخدمة السياسة الخارجية لأنقرة، والتضييق على مجتمعات الأكراد ومواجهة اضطرابات الحدود بين تركيا وجيرانها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واتسعت بعد ذلك رقعة الصراع في ما نطلق عليه الشرق الأوسط، وهو الذي يحوي الإقليم العربي ويجاور تخومه، فأصبحنا أمام أوضاع مختلفة وظروف جديدة، وقد شهد العامان الأخيران على وجه التحديد مظاهر لم تكن في الحسبان، إذ إن تداعيات السابع من أكتوبر 2023 لم تكن عابرة، بل أصبحت منشئة لأوضاع جديدة وكاشفة عن نيات سابقة، إذ تساقط عشرات آلاف الشهداء وازدادت إسرائيل غطرسة وإجراماً، وبدأت في استعادة الحلم القديم أو الوهم الدائم الذي يتصل بإسرائيل الكبرى، بل وظهرت تغييرات فرعية في المنطقة لعل أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتولي أحمد الشرع مقاليد الأمور برئاسته الدولة السورية، وما تبع ذلك من آثار عنيفة، إذ إن سوريا كيان مهم في المنطقة ودولة مؤثرة في الصراع العربي - الإسرائيلي والعلاقات التركية – العربية، وطبيعة العلاقات بين إيران وحلفائها في المنطقة، فقد كانت هي طريق التحالف بين طهران و"حزب الله"، واختفاء نظام الأسد يعني كثيراً بالنسبة إلى كل هذه الأطراف.

ولا يغيب أبداً عن أذهاننا أن ترمب عام 2016 غير ترمب عام 2024 وما بعدها، فقد عاد الرئيس الجمهوري لمقعد الرئاسة بقدر كبير من التضارب الفكري والخلاف العقائدي، وظل يضرب في كل اتجاه متصوراً أنه قادر على تغيير الأوضاع كافة وحل جميع المشكلات وإنهاء الصراعات وإيقاف الحروب، حتى إنه أصبح يتوهم أن بيده مفاتيح الحل لما يجري في الشرق الأوسط وأوكرانيا، بل والهند وباكستان أيضاً، وأجرى زيارة تاريخية لبعض دول الخليج العربي حقق فيها نجاحات مالية واستثمارية كبيرة، ولكن ذلك لم يشفع لا للعرب ولا للفلسطينيين أن يجدوا منه مقدار دعم ولو ضئيل، بل زاد الأمر على ذلك بعدوان إسرائيلي غادر على أرض الخليج للمرة الأولى في تاريخ الصراع بالمنطقة، حين استهدفت الطائرات الإسرائيلية مقر قادة "حماس" كما يزعمون في الدوحة، واخترقت الأجواء القطرية واعتدت على السيادة الوطنية لبلد عربي كان ولا يزال وسيطاً من أجل التهدئة واستقرار الأمور، فترمب هو أكثر الرؤساء الأميركيين حتى الآن ارتباطاً باليهود وتحقيقاً لمطالبهم وأهدافهم وحرصاً عليهم، وقد كانت الغارة التي قام بها سلاح الجو الإسرائيلي على الدوحة أخيراً، بدعوى التخلص من قيادات "حماس"، جريمة من نوع خاص يصعب تجاوزها وغفرانها، ولقد تعودنا على يد إسرائيل الطولى في دول الجوار المباشر لها وفي إيران واليمن وغيرها من البقاع العربية وغير العربية، ولكن أرض الخليج كانت حرماً مقدساً يدرك الإسرائيليون خطورة المساس به، لأن ذلك تحطيم كامل لمنظومة يتطلعون إليها ويسعون إلى وجودها، وأعني بها منظومة العلاقات الخليجية وأطماع إسرائيل في التطبيع معها، ولذلك فإن تلك الجريمة الإسرائيلية النكراء تحول نوعي في العلاقات بين إسرائيل والعالم العربي، فلقد تجاوز الصراع بذلك حدود المواجهة الفلسطينية - الإسرائيلية ليصل إلى دولة خليجية آمنة لم تتورط في حرب مع إسرائيل من قبل، بل سعت دوماً إلى التسوية بينها وبين الفلسطينيين، وكانت وسيطاً أميناً، ومعها مصر، لإيقاف الحرب والسعي إلى السلام.

ولا تزال الرواية لم تتم فصولاً على رغم الإدانة الواسعة، لا من العالمين العربي والإسلامي وحدهما، ولكن من معظم أقطار العالم ودول القارات الخمس التي تتسارع دولها للاعتراف بالدولة الفلسطينية اليوم على رغم الإرهاب الإسرائيلي والتخويف الأميركي، ولعلنا نتذكر أن من الإيجابيات القليلة خلال الفترة الأخيرة انتخاب رئيس لبناني جديد بعد أن بقي ذلك المنصب شاغراً لأعوام، ومع وصول العماد جوزاف عون قائد الجيش اللبناني إلى قصر بعبدا، حيث ألقى خطاب القسم يوم توليه مقاليد الأمور متعهداً بنزع سلاح "حزب الله" وغيره، على أن تبقى الأسلحة فقط لجيش لبنان الوطني وليس لميليشيات سياسية أو دينية، ويجب ألا ننسى أن إسرائيل قد اعتمدت في جرائمها الأخيرة على التاءات الثلاث (الترويع والتجويع والتركيع) متوهمة أن ذلك هو الحل، بينما ما تفعله هو ما يمكن أن يقضي على أمل السلام والاستقرار في المنطقة.

إننا نريد أن نسجل في نهاية هذه السطور أن حل هذا الصراع يكمن في أن تتغير إسرائيل وتتحول إلى دولة تسعى بحق إلى السلام، وتطلب التعايش مع الجيران ولا تصبح دولة عدوان واستيطان وعنصرية، وخلاصة القول إن الجهود المبذولة حالياً لغرس الأمل لدى كل الأطراف في الشرق الأوسط أمر يدعو إلى التفاؤل هذه المرة أكثر من كل المحاولات السابقة، ذلك أن المفاوضات تجري تحت سمع وبصر العالم كله، وبعد سقوط أكثر من 70 ألف قتيل من أهل غزة، منهم نسبة كبيرة من الأطفال والنساء، مما يؤكد أن جرائم الحرب يجب أن تتحول الآن إلى أيقونات للسلام، تؤكد للجميع أن الشعب الفلسطيني دفع من التضحيات الغالية ما يمكن أن نقول إنه نقلة نوعية من الكفاح المسلح إلى التفاوض الجاد، على طريق تسوية سلمية عادلة في ظل حل الدولتين الذي تجمع معظم الأطراف على القبول به وانتظاره.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء