ملخص
هدر الطعام في بريطانيا يشكل أزمة أخلاقية وبيئية كبرى، إذ يتلف طعام صالح للاستهلاك بينما يعاني الأطفال الجوع، مما يفاقم أزمة المناخ ويكشف خللاً في الأنظمة الغذائية يتطلب إصلاحاً عاجلاً وشجاعاً.
في صباح أحد أيام الشتاء، وصلتني رسالة من أحد مديري المدارس عند الفجر "ليس لدينا أي حليب. ولا حبوب للفطور. ولا أي شيء لوجبة الفطور". وخلال تلك اللحظة تحديداً، كان فريقي يفرغ حمولة من المتاجر مليئة بالألبان والخبز والفاكهة الصالحة للاستهلاك بعدما انتشلناها قبل ساعات من إتلافها. ونقلنا السلع إلى المدرسة، وبحلول الساعة الثامنة صباحاً، كان 200 طالب تناولوا الطعام.
هذا هو التناقض الأخلاقي في عصرنا: يبدأ أطفال بريطانيا يومهم الدراسي جوعى فيما تتلف كميات ضخمة من الطعام الصالح للاستهلاك، لأن أنظمتنا جعلت الهدر أرخص من التعاطف. إن هذا الهدر العظيم للطعام داخل بلد ترتفع فيه نسبة الجوع يشكل أكثر فضيحة مسكوت عنها في بريطانيا. وهو أيضاً أحد أكثر العوامل المسببة لأزمة المناخ التي تُتجاهل.
تسلط آخر إحصاءات صادرة عن وزارة البيئة والغذاء والشؤون الريفية (اختصاراً "ديفرا" Defra) وبرنامج العمل في شأن النفايات والموارد Waste and Resources Action Programme (Wrap) الضوء على حجم أزمة هدر الطعام في بريطانيا. وتشير التقديرات إلى التخلص من 10.7 مليون طن من الطعام الذي توازي قيمته 17 مليار جنيه استرليني تقريباً كل عام في المزارع والمصانع والمتاجر والمطاعم والمنزل. وإذا قسمنا هذه القيم، نجد أن أية عائلة عادية من أربعة أفراد تهدر طعاماً بقيمة ألف جنيه تقريباً.
وتتحمل المنازل مسؤولية 60 في المئة من كامل كمية الهدر، فيما تسهم المزارع بنحو السدس. ومن الصادم أن نحو نصف الطعام الملقى في القمامة ما زال قابلاً للاستهلاك تماماً، مما يمثل ملايين الوجبات المهدورة كل يوم. وإلى جانب الأثر المالي والاجتماعي، ترتفع الكلفة البيئية لهذه الممارسة بصورة كبيرة، إذ ينبعث نحو 18 مليون طن من غازات الدفيئة سنوياً من الطعام المهدور، مما يقوض التزامات المملكة المتحدة في قضية المناخ وأمن البلاد الغذائي على حد سواء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الكلفة الحقيقية تقع على كاهل الكوكب خلال وقت نستضيف فيه محادثات عالمية في شأن المناخ ونتعهد بالتوصل إلى صفر صافي انبعاثات. إن كنا جادين في شأن الأمن الغذائي والريادة في مجال المناخ، يجب أن نتعاطى مع مسألة حل هدر الطعام باعتبارها أولوية وطنية. ومع ذلك، عندما تطرح الحكومات خططها المناخية بموجب اتفاق باريس، فإن أقل من 15 في المئة منها تذكر هدر الطعام. إنه مجال محجوب عن الأنظار، ويرقى إلى مستوى الإهمال.
قضيت وفريقي12 عاماً في جمع الطعام الفائض وإعادة توزيعه على المدارس وملاجئ المشردين والمراكز المجتمعية، بهدف تحقيق "صفر نفايات وصفر جوع". خلال تلك الفترة، منعنا إلقاء آلاف الأطنان من الطعام في مكبات النفايات وقدمنا ملايين الوجبات، لكننا حققنا ذلك على رغم صعوبات كبيرة.
وما رأيته لا يقتصر على انعدام الفعالية فحسب بل رأيت نظاماً يشجع على التدمير بصورة فاعلة. فالمزارعون مقيدون بعقود تجعل من إعادتهم المحاصيل إلى التربة أرخص من حصادها وتوزيعها. وتواصل المتاجر فرض معايير شكلية جمالية على الطعام، ترفض بسببها منتجات صالحة للأكل. وحتى "ديفرا"، وهي الوزارة المكلفة حماية نظامنا الغذائي، تطلب إجراء مراجعات وتجارب لا نهاية لها، فيما تفشل في سن التشريعات. وخلال الوقت نفسه، تجني شركات الاستشارات أرباحاً طائلة من إعداد التقارير ووضع الأطر المتعلقة بالهدر الغذائي، بينما تعتمد مراكز إعادة التوزيع، مثل مركزي، على المتطوعين كي تستمر وعلى تمويل أساس شبه معدوم.
ولا تقتصر هذه المشكلة على بريطانيا. ففي الولايات المتحدة، تسفر قوانين وضع التواريخ المربكة عن إهدار ملايين الأطنان من الطعام. في المقابل، طرحت فرنسا عام 2016 قانون غارو، الذي يجرم قيام المتاجر الكبرى بإتلاف الطعام الصالح للأكل أو جعله غير صالح للاستهلاك، ويجبرها بدلاً من ذلك على التبرع بالطعام الفائض للجمعيات الخيرية. يلزم أحد أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة العالم بخفض هدر الطعام إلى النصف بحلول عام 2030، لكننا بعيدون من تحقيق هذا الهدف. وكل عام من التأخير هو عام بددناه فيما كان بالإمكان خفض الانبعاثات فيه.
ليست الفضيحة في وجود الهدر نفسه، بل في أننا صممنا أنظمة تجعل من الهدر أمراً منطقياً، وعقود شراء بالتجزئة تعاقب على زيادة العرض دون أن تجازي التخلص من الطعام، وأنظمة مسؤولة تجعل من التبرع مخاطرة ومن المكب أمراً آمناً، وأنظمة دعم مالي تكافئ مصانع تنتج طاقة من الهدر عبر إحراق الفائض بدلاً من إعادة توزيعه، وحكومة تفضل أن تستعين بمستشارين خارجيين لتقديم "حلول" بدلاً من تمويل الاستعانة بشاحنات وثلاجات وعمال يمكن من خلالهم حل المشكلة غداً.
هذا هو النفاق المسكوت عنه في بريطانيا. صحيح أن "وكالة معايير الأغذية" في بلادنا Food Standards Agency تفرض نظاماً صارماً يتتبع كل شطيرة تُباع، لكن عندما تصبح هذه الشطيرة طعاماً فائضاً فلا وجود لأي نظام يضمن أن تصل إلى يد طفل جائع، بدلاً من أن تلقى في القمامة. وإن كان هدر الطعام أحد أعراض الأنظمة المعطوبة، فمن الضروري أن يكون التعليم جزءاً من العلاج. ولهذا السبب نحن نمهد الطريق لتطبيق نموذج تعليمي تقدمي، لا تكون فيه الاستدامة وحدة دراسية هامشية، بل المبدأ الذي يقوم عليه كل شيء.
إن هدر الطعام ليس مسألة ثانوية، بل فضيحة المليار وجبة التي تقع في صلب انهيار المناخ والظلم الاجتماعي. ومن شأن خفض هذا الهدر إلى النصف أن يؤدي إلى توفير في الانبعاثات أكبر من ذاك الذي قد نحققه إن أوقفنا كل طائرات العالم عن الطيران. وهو كفيل بتأمين قوت الناس مساءً وحماية الكوكب غداً.
إن أراد القادة أن تذكر قمة المناخ "كوب30" Cop30 [المرتقبة في بيليم، البرازيل] لتحقيقها أفعالاً وعدم اكتفائها بالكلام، فعليهم مواجهة هذه الفضيحة، ليس من خلال المشاريع التجريبية والوعود، بل من خلال الاستثمار والشجاعة.
خلال قرن يتسم بالندرة لا يعد الهدر مجرد إهمال، بل فعل لا يُبرر إطلاقاً.
تاز خان حائز على وسام الإمبراطورية البريطانية وهو مؤسس مطبخ لندن المجتمعي
© The Independent