ملخص
على خطى الأسلاف، يمضي الجيل الجديد من السعوديين على النهج ذاته في التعامل مع أشجار النخيل، لكن برؤية أوسع تحمل في جعبتها ابتكارات لم تخطر على بال الأجداد، تتجاوز حدود الثمرة إلى تحويل باسقات النخيل وبساتينها إلى صناعة متكاملة تحمل فرصاً اقتصادية واستثمارية
لربما مررت يوماً بجانب نخلة في طريقك، لم تلق لها بالاً، وظننتها مثل سائر الأشجار، لكن لو تأملتها قليلاً لوجدتها أكثر من ذلك بكثير، فهي بالنسبة إلى السعوديين مشروع حياة واستثمار يتجدد.
فمنذ آلاف السنين، ظلت "النخلة" سيدة الصحراء ورفيقة الإنسان في رحلته مع القحط وسنين الجوع، ومدت أبناء شبه الجزيرة العربية من ثمرتها قوتاً، ومن جذعها شيدوا بيوتهم، ومن سعفها نسجوا مأواهم، ومن ليفها شدوا حبالهم، حتى غدت كما هو القول المأثور "النخلة لا يرمى منها شيء"، في إشارة إلى الاستفادة من كل جزء من أجزائها الذي لم يترك جانباً من الحياة إلا وطاوله خيرها.
واليوم، وعلى خطى الأسلاف، يمضي الجيل الجديد من السعوديين على النهج ذاته، لكن برؤية أوسع تحمل في جعبتها ابتكارات لم تخطر على بال الأجداد، تتجاوز حدود الثمرة إلى تحويل باسقات النخيل وبساتينها إلى صناعة متكاملة تحمل فرصاً اقتصادية واستثمارية واعدة.
صناعة النخيل والتمور
هذه الرؤية المستقبلية نوقشت في منتدى عنيزة الدولي الثاني للتمور، الذي انعقد الأسبوع الماضي تحت عنوان "الاستدامة في صناعة النخيل والتمور"، وشهد مشاركات محلية ودولية بحثت سبل تطوير هذا القطاع وتعزيز حضوره في الأسواق العالمية.
وعنيزة التي يطلق عليها السكان "باريس نجد" تقع في وسط السعودية، وتشتهر بخضرتها ومزارعها وآبارها العذبة.
ويقول رئيس الغرفة التجارية بالمحافظة خالد الصيخان لـ"اندبندنت عربية" إن "الغرفة اعتادت في كل موسم أن تطلق منتجاً جديداً يخدم أسواق التمور، ويعزز جهود التسويق والتصنيع والتصدير، ضمن توجه مستدام لتطوير هذا القطاع الحيوي في المنطقة".
وتبنت غرفة عنيزة فكرة تنظيم المنتدى ليقام كل ثلاث سنوات، ويكون منصة حوارية تجمع المزارعين والمستثمرين والخبراء تحت سقف واحد، تناقش التحديات التي تواجه القطاع، وتخرج بحلول عملية تسهم في تطوير الصناعة ورفع كفاءة منظومتها.
تحسين جودة التمور
والنسخة السابقة من المنتدى ركزت على سلاسل إمداد التمور وتحسين جودة المنتج السعودي في مراحل ما بعد الحصاد، أما النسخة الحالية فجاءت لتتناول مستقبل السوق وصناعاته التحويلية، وتبحث عن حلول واقعية للتحديات الراهنة التي تواجه المزارعين والمصنعين والمصدرين.
وتمكنت الغرفة وشركاءها خلال السنوات الماضية من معالجة بعض القضايا التي طرحت في النسخة الأولى من المنتدى، وأكد الصيخان أن "العمل مستمر هذا العام على تحليل أوراق العمل والمخرجات المقدمة من المشاركين وتطبيق توصياتها على أرض الواقع، بما يخدم قطاع التمور في المملكة ويعزز مكانته في الأسواق المحلية والعالمية".
ثروة استراتيجية
المشهد بدأ وكأن النخلة في رؤية السعوديين تستعد لبدء رحلة جديدة من العطاء، تتجاوز فيها حدود السوق المحلية وإنتاج الثمرة إلى آفاق أوسع من الابتكار والصناعة.
في هذا السياق، قال مدير قطاع الأغذية في وزارة الاستثمار عادل السرحان في حديثه لنا إن السعودية تقف اليوم على "ثروة استراتيجية قادرة على التحول من مجرد منتج زراعي تقليدي إلى قصة نجاح صناعية عالمية"، مشيراً إلى أن السعودية تتصدر المشهد العالمي كأكبر منتج للتمور.
وأوضح السرحان أن هذا القطاع يفتح آفاقاً واسعة للاستثمار في الصناعات التحويلية، تبدأ من إنتاج مسحوق التمر كمحل طبيعي بديل للسكر، مروراً بألواح الطاقة والمخبوزات والمعجنات الغنية بالتمر، ووصولاً إلى مشروبات التمر بأنواعها المختلفة من القهوة إلى العصائر.
كما أشار إلى فرص الاستثمار في الصناعات الصحية والدوائية، مثل إنتاج المكملات الغذائية الغنية بمضادات الأكسدة، واستخدام نوى التمر وزيوته في المستحضرات الطبية، فضلاً عن استخراج الألياف الطبيعية أو مكملات البكتيريا النافعة التي تعزز صحة الجهاز الهضمي.
هذا الأمر بدأ بالفعل العمل عليه، ففي تجربة بحثية بجامعة القصيم، نجح فريق سعودي العام الماضي باستخلاص مادة طبيعية من التمور تستخدم كـ"سواغ" دوائي بديل طبيعي لبعض المواد المصنعة في الأدوية، مما مكنهم من الحصول على براءة اختراع من الهيئة السعودية للملكية الفكرية.
ويتسق هذا الابتكار السعودي مع النمو العالمي في سوق "السواغات" الصيدلانية، الذي يتوقع أن يرتفع من 9.21 مليار دولار عام 2023 إلى 13.49 مليار دولار بحلول 2028.
صناعة العطر ومستحضرات التجميل
أما في عالم الجمال والتجميل فللنخلة مكانها، وبحسب مسؤول الاستثمار السعودي يمكن استخراج "زيت نوى التمر" من ثمرتها وإدخالة في صناعة العطور ومستحضرات التجميل والشامبو، إلى جانب استخدام مشتقاته في صناعات حيوية مثل البلاستيك الصديقة للبيئة.
العطاء بعد الموت
ومما لا شك فيه أن موت النخلة مشهد محزن لمزارعها، لكن فرصتها الاستمثارية لا تموت معها فيمكن تحويل بقايا النخيل إلى أعلاف حيوانية وفحم نشط وإيثانول حيوي، في انسجام مع مبادئ الاقتصاد الدائري التي تتبناها السعودية ضمن رؤيتها البيئية.
ولعل أحدث الخطط التي يعمل عليها المستثمرون السعوديون، بحسب القائمين على المشروع، وهي تحويل مخلفات النخيل إلى فحم ثم إلى سماد عضوي يعاد للأرض، لتكتمل بذلك دورة حياتها في صورة اقتصاد دائري متكامل، يجعل من هذه الشجرة المباركة مورداً لا ينضب، وثروة تتجدد كل موسم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كولا سعودي
وشاهد السعوديون على رفوف متاجرهم عبوات أنيقة بلونها الأخضر الفضي تحمل شعار "ميلاف"، استوقفت كثيرين بمكونها المختلف، فهي مشروب كولا لكن بنكهة سعودية مستخلصة من التمر، في تجربة جديدة خلقت سوقاً حديثة لمنتجات التمور.
الخطوة جريئة نحو مجال لم يكن المستثمرون وأصحاب النخيل يغامرون دخوله من قبل، وخاضها الصندوق السيادي السعودي وأطلقت العلامة التجارية "ميلاف" مطلع 2024 لتسويق وتصنيع التمور ومشتقاتها.
الشركة المتخصصة في منتجات التمور المبتكرة مستندة إلى ما تحمله التمرة من قيمة غذائية، ويقول عبدالمحسن المحيسن، مطور منتجات "ميلاف"، لـ"اندبندنت عربية"، إن هدف الشركة يتمثل في "الاستفادة من التمور وتحويلها إلى ابتكارات غذائية جديدة وتصدرها عالمياً"، مشيراً إلى أن من بين منتجاتها اللافتة مشروبات بديلة للمشروبات الغازية، يأتي في مقدمها "كولا بالتمر" كأولى تجاربها في هذا المجال، إلى جانب "كريمة التمر" التي أبرمت الشركة اتفاقاً لتسويقها عبر سلسلة "كرسبي كريم دونات" العالمية.
وتقوم فلسفة "ميلاف" على إعادة تعريف التمر كمادة خام متعددة الاستخدامات، إذ تعتمد على أجود الأصناف لتقديم منتجات غير مطروقة في السوق، بعيداً من المسار التقليدي لمنتجات مثل "المعمول" الشائع في الخليج، وبدل المنافسة فيه تسعى إلى الابتكار والتجديد، بما يعزز الصناعة المحلية ويقلل الهدر الغذائي.
وبحسب القائمين على المشروع، استطاعت الشركة خلال فترة وجيزة أن تجد منتجاتها طريقها إلى رفوف متاجر دول الخليج والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والهند والصين، في خطوة تعبر عن تصاعد الطلب العالمي على المنتجات الصحية ذات الهوية المحلية.
غير أن طموح الشركة السعودية لا يتوقف عند هذا الحد، إذ ترى أن منافسة كبرى الشركات العالمية مثل "بيبسي" و"كوكاكولا" ليست حلماً بعيد المنال، بل مسألة وقت في ظل الدعم الذي تحظى به الصناعات الوطنية وريادة الاستثمار السعودي في الاقتصاد الغذائي المستدام.
النخلة رمزاً وهوية
ومع إعلان مجلس الوزراء السعودي تسمية عام 2025 بـ"عام الحرف اليدوية"، أعادت البلاد إحياء روح متجذرة في تاريخها الثقافي، احتفاء بما تمثله الحرف من رمز للهوية وذاكرة للمكان، ولإبراز ما تزخر به البلاد من صناعات إبداعية ومشغولات يدوية أصيلة تعكس مهارة الحرفيين السعوديين على الساحة الدولية.
وعند الحديث عن الحرف اليدوية في السعودية، تبرز النخلة كأيقونة الحرفة والأكثر حضوراً في هذا المجال، إذ ترتبط بها عشرات الصناعات التقليدية التي لا تزال تمارس حتى اليوم.
وجعلت وفرة أشجار النخيل في البلاد من منتجاتها مادة أساسية للحرف اليدوية، فصنعت منها القفف والسلال والمناسف والأواني التراثية، التي باتت جزءاً من مشهد الأسواق الشعبية، وتحظى بإقبال كبير لما تمثله من ارتباط بالهوية الثقافية.
ومنذ القدم، أولت السعودية اهتماماً كبيراً بالنخيل، حتى أصبح قطاع النخيل والتمور أحد القطاعات الاقتصادية الرئيسة في البلاد.
وأسست "المركز الوطني للنخيل والتمور" بموجب مرسوم ملكي عام 2011، للمساهمة في تطوير هذا القطاع ورفع كفاءته الإنتاجية والتسويقية.
كما أنشأت في عام 2013 "المجلس الدولي للتمور" بعضوية 11 دولة منتجة، بهدف تعزيز الشراكة الدولية في تطوير صناعة التمور عالمياً.
ولم يكن من المصادفة أن تختار السعودية عام 1950 النخلة لتكون جزءاً من شعارها الرسمي إلى جانب السيفين، إذ يرون فيها رمزاً للحيوية والنماء والرخاء، وامتدت هذه الرمزية لتتخطى الحدود المحلية، حين أدرجت منظمة اليونسكو "النخلة" ضمن القائمة التمثيلية للتراث الإنساني، بوصفها رمزاً للثقافة العربية ودليلاً على تلاحم الإنسان مع بيئته.
بساتين النخيل الباسقة
ومع فتح السعودية باب السياحة، دخلت النخلة فصلاً جديداً من فصول عطائها، حين تحولت بساتينها إلى وجهات تستقطب الزوار الباحثين عن الهدوء وتجربة السياحة الريفية.
وفي منتزة "جادة النخيل" بمحافظة عنيزة ما إن تخطو بين ممراته الترابية حتى تمتد أمامك أشجار النخيل الشاهقة التي يزيد عملها على 100 عام بحسب كبار السن في المنطقة، تتخللها مقاه صغيرة تقدم القهوة والتمر، ومطاعم محلية تطهو أطباقها بين عبق الرطب ورائحة الأرض بعد السقيا.
وتحولت هذه المزارع، التي أعدت بجلسات مظللة بين الأشجار وتعرض فيها منتجات المزارعين من دبس ومعمول وتمور بأنواعها، إلى رافد اقتصادي متجدد يوفر لأصحابها مصدر دخل إضافي على مدار العام، إلى جانب جني الثمار وبيعها في موسم الصيف، لا سيما لتلك المزارع التي استعادت حيويتها بعد أن كانت مهملة أو غير مستغلة كما في السابق.
ولتحفيز هذا الحراك، أطلقت إمارة المنطقة جائزة "السياحة الريفية" لتشجيع أصحاب المزارع على تطوير مشاريعهم وفق معايير تراعي الاستدامة والطابع الزراعي الأصيل، في محاولة لدمج النخلة مرة أخرى في صميم الحياة السعوديين.
سوق التمور عالمياً
وتعد المملكة اليوم موطناً لأكثر من 37 مليون نخلة، أي ما يعادل 27 في المئة من نخيل العالم، تنتج ما يقارب 1.9 مليون طن من التمور سنوياً، لتتصدر المرتبة الأولى عالمياً في تصدير التمور إلى أكثر من 133 دولة، بقيمة تتجاوز 1.69 مليار ريال (450 مليون دولار أميركي)، وفق البيانات الرسمية.
وبحسب تقرير صادر عن شركة "الأبحاث العالمية"، قدر حجم سوق نخيل التمر العالمي بنحو 9.2 مليار دولار أميركي في عام 2024، ومن المتوقع أن ينمو من 9.6 مليار دولار في 2025 إلى 13.1 مليار دولار بحلول عام 2034.
وخلال الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترمب، شهدت سوق التمور العالمية اضطرابات ملاحظة بعد إعادة فرض التعريفات الجمركية وتوسيعها، لا سيما على الواردات والصادرات الزراعية.
إذ فرضت الولايات المتحدة رسوماً جمركية تتراوح بين 15 و25 في المئة على مجموعة من المنتجات الزراعية القادمة من دول الشرق الأوسط مثل إيران والإمارات والسعودية، بدعوى حماية الأمن القومي وتقليص العجز التجاري.
وأدى ذلك إلى تراجع واردات التمور الأميركية من منطقة الخليج بنسبة 20 في المئة مطلع عام 2025، ما دفع المصدرين في الشرق الأوسط إلى تحويل وجهاتهم نحو الصين وأوروبا.
ونتيجة لذلك، ارتفعت الصادرات إلى الصين بنسبة 18 في المئة بفضل الاتفاقات التجارية الثنائية الجديدة، في حين خفضت بكين الرسوم الجمركية على واردات التمور الخليجية، مما عزز الروابط التجارية بين الجانبين.