ملخص
كانت طائرة الاستطلاع تحوم في المكان وأزيزها مرتفع، وأصابع أحمد تحرك أوتار الغيتار التي تفوح منها نغمات هادئة مريحة. يقول أستاذ الموسيقى أحمد أبو عمشة "حولت أزيز الدرون الذي ينخر الآذان الصغيرة بوقاحة، إلى جزء من الموسيقى، جعلتها عازفاً في فريقي، وغنينا الألحان على نوتتها".
داخل خيمة بالية إطلالتها رائعة على شاطئ بحر خان يونس، جلس أحمد أبو عمشة على الرمال الصفراء الرطبة وفي يده آلة الغيتار، حوله تجمع عدد من المراهقين والمراهقات، وعندما بدأ الجميع في العزف والغناء، شوش عليهم صوت طائرة الاستطلاع الإسرائيلية، وكادت تفشل جلستهم الطربية لولا فكرة إبداعية ابتكرها الموسيقار.
كان صوت طائرة الاستطلاع الإسرائيلية التي يطلق عليها الغزيون لقب "الزنانة" ويستخدمها الجيش الإسرائيلي لأغراض جمع المعلومات من ساحة المعركة، صاخباً، أزيزها يصم الآذان، وبسبب صوتها الطنان الذي يؤدي إلى الضجيج والتلوث السمعي، طلب الموسيقيون الصغار من معلمهم أحمد إيقاف العزف.
طنين وضوضاء
عكر طنين وأزيز طائرة الاستطلاع صفو العازفين الذين يحاولون الخروج من رعب الحرب، وأصاب اليأس قلوبهم، فما يسمعونه من صوت للقطع الجوية المسيرة، يعد أسوأ صوت في هذه الحرب، فهو أبشع من صوت انفجارات الغارات، وأشنع من صوت جنازير المدرعات العسكرية، وحتى أقبح من هدير الطائرات القتالية، ويسبب ضوضاء أكبر من الانفجار الصوتي الذي تحدثه طائرات أسرع من الصوت.
كان أستاذ الموسيقى أحمد أمام اختبار معقد وأمامه خياران، إما التوقف عن العزف حتى تغادر "الدرون" سماء غزة، أو استغلال هذا الصوت بطريقة إبداعية ابتكرها بنفسه وحولها إلى نغمة موسيقية رائعة يغني عليها أهازيج ومواويل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"لا، لن نتوقف عن العزف والغناء، سنواصل وسنغني معها وعلى نوتتها" قال أحمد وبدأ يحرك أوتار الغيتار ويعزف موسيقى ويدندن "شيل شيل يا جمال شيل" ضحك فتية الموسيقى ورددوا بعده "شيل يا جمال شيل".
أزيز الطائرة نغمة موسيقية
كانت طائرة الاستطلاع تحوم في المكان وأزيزها مرتفع، وأصابع أحمد تحرك أوتار الغيتار التي تفوح منها نغمات هادئة مريحة. يقول أستاذ الموسيقى أحمد أبو عمشة "حولت أزيز الدرون الذي ينخر الآذان الصغيرة بوقاحة، إلى جزء من الموسيقى، جعلتها عازفاً في فريقي، وغنينا الألحان على نوتتها".
تحدى أحمد طائرة الاستطلاع وحول صوتها من أزيز صاخب يسبب الضجيج وينخر السمع إلى جزء من النغمات الموسيقية، والموسيقي يقول إنه "طوَّع" صوت "الزنانة" وتآلف وطلابه مع "الدرون" وباتوا يستغلون صوتها لمصلحة أغنياتهم.
قبل الحرب، كان أحمد مدرساً للموسيقى في "المدرسة الأميركية الدولية" ومنسقاً موسيقياً في معهد إدوارد سعيد للموسيقى، ولديه استوديو خاص في بيته يؤلف فيه الألحان ويوزعها، لكن كل ذلك تحول لخراب بسبب القنابل وأيضاً توقف عن عمله بسبب الترحال والنزوح.
قصة العودة للآلات الموسيقية
انقطع أستاذ آلة الغيتار عن عمله أياماً وأسابيع طويلة، فطريق النزوح الذي لا آخر له جعل النغمات تتناثر من رأسه، وتحول صوت الإيقاع الذي يعيش في خلايا دماغه إلى دوي قذائف وغارات، لكن أحمد الذي يعيش مع الآلات العازفة وتعيش هي داخله قرر العودة بعد 10 أشهر من اندلاع الحرب لنغماته.
يقول "جاءني أحد الشباب بغيتار، لقد مضى أكثر من 10 أشهر على آخر مرة لمست فيها الآلة"، أمسكته بحب وحضنته وتبدلت ملامحي السلبية إلى مشاعر فرح رسمت على وجهي، عزفت وغنيت حتى تجمهر الأطفال حولي، وغنوا معي حتى صنعوا جوقة صغيرة بأصواتهم".
خلال هذه اللحظة تحول أحمد وموسيقاه وأغانيه إلى ملهم للأطفال، وقرر تعليم الموسيقى للمراهقين والمراهقات، يضيف "شعرت أن النغمات سرقت النازحين من ساعات الرعب والإحباط وجعلتهم يشعرون بالحياة، لقد كانت منفعة على أولئك المصابين بالصدمات، والذين فقدوا القدرة على التواصل والكلام".
معالج بالموسيقى
كأنه طبيب، كان أحمد يستخدم تقنيات الموسيقى لعلاج الأطفال ويساعدهم على التواصل والاختلاط مع الآخرين من جديد. يتابع "صرنا نجتمع يومياً على النغمات التي تساعدنا على التحليق روحياً خارج المنطقة التي مزقها العنف والقصف، كان هز أوتار العود دليلاً على أن الفن يثير التعاطف ويساعد على الشفاء".
خلال هذه اللحظة، قرر الموسيقار افتتاح فصل لتعليم الموسيقى، لكن للأسف لا يوجد لديه أدوات، تجول في الشوارع وكانت الآلات تعرض على البسطات دون أن يعيرها أحد أية أهمية، لكنه قرر شراءها، فيما جمع بعضها الآخر من تحت ركام المباني التي نسفتها القنابل الإسرائيلية التي تسقط كالحمم على بيوت الغزيين.
جمع أستاذ آلة الغيتار نحو 20 آلة موسيقية، خمس آلات غيتار وأربع آلات كمان وخمس آلات عود وخمس آلات طبلة، بعضها كان معطوباً فرممها، يؤكد أن الموسيقى لغة يفهمها الجميع وتساعد بتخفيف الألم النفسي وتبعث الأمل.
صف في خيمة موسيقية
على رغم أن الموارد شحيحة جداً والواقع مأسوي، فإن أحمد قدم شيئاً مختلفاً لأطفال غزة، فتح لهم صفاً تعليمياً للموسيقى في خيمته، يعلمهم فيه تحرك أوتار الغيتار والعود من أجل تحويل البؤس إلى بارقة أمل، وأنشأ مجموعة موسيقية أطلق عليها اسم "طيور غزة تغني"، يدربهم على العزف والغناء ويدندن معهم أهازيج وطنية وتراثية، وأخرى تدعو للسلام والمحبة، وبفضله تحولت خيمته إلى مركز يعلم الفن على الغيتار والناي والطبلة.
داخل الخيمة يحمل أحمد وثلاثة من تلاميذه آلته الموسيقية البسيطة، العود والغيتار والقصبة الهوائية، يعزفون معاً أنغاماً حزينة ترافق كلمات أغنية "ترويدة الشمالي" التي تعود إلى التراث البدوي القديم، ويعقب "صوتهم ينسيني الحرب، غزة لطيفة وفيها أمل، الموسيقى تحولت إلى حبل خلاص يتمسك به النازحون".
كان فريق "طيور غزة تغني" يصدح بصوته على خلفية صوت طائرة مسيرة في الأجواء، ويظهر أحمد أن هدفه ليس تعليمياً وإنما ترفيهي لتخفيف الضغط النفسي خصوصاً على الأطفال، بالتالي أصبح أحمد مروضاً للزنانة ولم يعد صوتها الملعون يخيف الأطفال وإنما مع الغناء على أزيزها يهدأ المرعوبون.
القصف دمر معهد الموسيقى
يأمل الموسيقار أن يعود إلى عمله في معهد إدوارد سعيد للموسيقى الذي كان شريان حياة ثقافياً، لكن الجيش الإسرائيلي دمره بالكامل. ويقول رئيس المعهد سهيل خوري "في القصف المستمر عامين قتل بعض الطلاب، المبنى تحول إلى أطلال، انهارت الجدران وتناثرت الأنقاض في الغرف، واختفى بيانو كبير".
ويضيف "آلات موسيقية قليلة نجت من القصف، واشترى فريقنا في غزة بعض الآلات من نازحين آخرين، ويحاول المدربون برفقة أحمد أبو عمشة صنع آلاتهم الإيقاعية الخاصة من علب الصفيح والعبوات الفارغة لتدريب الأطفال وتجاوز ويلات الحرب".