ملخص
نتوهم دائماً في الإقليم العربي أن العلاقات بين الدول خصوصاً المتجاورة تقوم على إحدى دعامتين، إما مواجهة عسكرية في ميادين القتال أو تراشق سياسي باهت في مجالات السياسة، ولكننا لم نتعلم أبداً أن العلاقات بين الدول تقوم – صعوداً وهبوطاً - على عوامل متداخلة، ليست بالضرورة خاضعة للتقسيم الحدي بين الحرب والسلام أو بين العمل العسكري والنشاط الدبلوماسي، ولقد أثبتت تجارب الشعوب في صراعات الدول المختلفة أنه يمكن استخدام الأمرين معاً.
وقر في ذهن كثر أن الصراع بين قوتين إما أن يرتكز على المعارك المسلحة أو المفاوضات المطلقة مع التوقف الكامل عن إحداث ضغوط على الطرف الآخر، وفي ظني أن كلتا الحالتين لا تؤديان إلى نهاية للصراع أو حسم للمواجهة.
لقد أثبتت التجارب التي مرت بها الأمم والمحن التي اجتازتها الشعوب أن النصر لا يكون بالمعارك وحدها ولا بالدبلوماسية والمفاوضات من دون غيرهما، ومما لا مراء فيه أن الكفاح قد يكون مسلحاً ولكن تكتمل عناصره بالمفاوضات الموازية، فالمقاومة التي تتمسك بها الشعوب المناضلة لا تقتصر على العمل العسكري أو حتى حرب العصابات من دون غيرها.
الثورات المنتصرة والدول المستقلة حققت أمانيها بالعنصرين معاً، إذ إن للسياسة كما يعلم الجميع وجهين، وجه عسكري يعتمد على قوة الجيوش وكفاءتها تدريباً وتسليحاً وتطوراً تكنولوجياً، بينما هناك وجه آخر للعملة ونعني به الجهود الدبلوماسية لدولة معينة أو جماعة قادرة على استخدام التفاوض بذكاء، بحيث تمتلك مقومات النصر على الجانبين.
أقول ذلك بمناسبة التفاؤل الذي أقدمت عليه عدد من الدول العربية مؤيدة النقاط التي وضعها ترمب، وأفكاره ومن حوله من الجانبين الأميركي والإسرائيلي، والتي جعلته يتباهى أمام العالم بأنه يملك مفاتيح السلام ويتجه – من وجهة نظره – إلى استحقاق جائزة نوبل، يرصع بها التواطؤ المكشوف الذي مارسه ويمارسه رئيس الولايات المتحدة الأميركية استجابة للقاتل الإرهابي المدلل نتنياهو.
الأمر يكشف لنا كل يوم عن متانة العلاقة بين تل أبيب وواشنطن والتنسيق الكامل بينهما في المجالات كافة، وتبني الإدارة الأميركية الحالية أجندة إسرائيل بتفاصيلها، بل إنها تفتح أمامها الأبواب لكي يطل منها بنيامين نتنياهو على خريطة وهمية لإسرائيل الكبرى في الشرق الأوسط بدعم من مساعديه وفي مقدمهم صهره "كوشنير"، حتى تبدو إدارة الرئيس ترمب إدارة كاشفة للسياسة الأميركية وليست منشئة لها.
لقد تبنى الرئيس الأميركي دونالد ترمب كل آمال إسرائيل وتطلعات اليمين المتطرف فيها، واتخذت سياساته منحى جديداً يفضح بصورة كبيرة الانحياز الأميركي المطلق للحركة الصهيونية وسياسة إسرائيل التوسعية العدوانية العنصرية، وفي هذه الظروف الصعبة والأوضاع المعقدة يصبح أمام العرب خريطة سياسية واضحة تختلف عن كل ما تداولناه في الماضي، إذ إن قراءة الحاضر تتأرجح بين ملفات سياسية اقتصادية وأخرى استراتيجية عسكرية، دعنا نطرح بعض الملاحظات في هذا السياق.
أولاً، نتوهم دائماً في الإقليم العربي أن العلاقات بين الدول خصوصاً المتجاورة تقوم على إحدى دعامتين، إما مواجهة عسكرية في ميادين القتال أو تراشق سياسي باهت في مجالات السياسة، ولكننا لم نتعلم أبداً أن العلاقات بين الدول تقوم – صعوداً وهبوطاً - على عوامل متداخلة، ليست بالضرورة خاضعة للتقسيم الحدي بين الحرب والسلام أو بين العمل العسكري والنشاط الدبلوماسي، ولقد أثبتت تجارب الشعوب في صراعات الدول المختلفة أنه يمكن استخدام الأمرين معاً.
لعل عبارة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، عندما صاح صيحته التاريخية "لقد جئتكم أحمل غصن الزيتون في يد والبندقية في يدي الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي"، كانت للدلالة على اختلاف بين النمطين من التعامل على رغم أنهما يعملان معاً في الحقيقة من أجل هدف سياسي واحد.
يكفي أن ننظر إلى العامين الماضيين إذ تكفلت جرائم إسرائيل في غزة بتغيير مواقف عدد كبير من الدول شعبياً بل ورسمياً أيضاً، فقد أدرك الجميع أن إسرائيل ليست هي ذلك الحمل الوديع الذي يحيط به أعداء من الذئاب العربية، بل تيقن كثر أن إسرائيل سرطان دولي ينهش في كيان الشعب الفلسطيني بل والأمة العربية كلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا شك أن الجهود الدبلوماسية التي جرى بذلها خلال الحقبة الماضية هي المسؤولة عن تحقيق النتيجة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية اليوم، وحقوقها الضائعة في غمار السياسات الإسرائيلية التي تحترف الكذب والتزوير والتضليل في الماضي والحاضر، كما تفعل حالياً في تغيير نصوص نقاط ترمب الـ21، إذ عبثت حكومة تل أبيب بالنص الذي يشير إلى الانسحاب الإسرائيلي من غزة فأحالوه إلى وضع متدرج على رغم حديث النقاط ذاتها عن الإفراج المباشر عن الرهائن الإسرائيليين، وليس ذلك جديداً على إسرائيل التي احترفت تاريخياً العبث بالنصوص وتشويه الاتفاقات وتطويع السياسات الدولية لصالحها، بالتزوير الكاذب حتى في الوثائق الأميركية!
ثانياً، تبدو نقاط ترمب مزيجاً من التعامل مع الأمور العاجلة والقضايا الآجلة، فهو يتحدث عن أمور وترتيبات سريعة لا تخلو من إيجابية للجانب العربي، منها إسقاط أسطورة التهجير والكف عن أكذوبة الضم، وكلتاهما كانت ولا تزال تشكل عقبة كبرى أمام حل الدولتين الذي تناوله النص الترمبي في آخر النقاط، على نحو هامشي وبطريقة عابرة، وقد يكون ذلك لأن النقاط التي يتحدث عنها ترمب تتعلق بالحلين العاجل والآجل في خلط متعمد يعطي إسرائيل دائماً اليد العليا في ما تفعل وما تقول.
نحن نرى بوضوح أن التفاوض أمر لا بد منه لتسوية النزاعات والوصل إلى مراحلها النهائية، إذ إن مائدة المفاوضات هي المحطة الأخيرة لأية صراعات، ولنأخذ العلاقات المصرية - الإسرائيلية نموذجاً لذلك، فقد استرد المصريون سيناء وطابا بكل الوسائل المتاحة، عسكرية ودبلوماسية، فالحروب المصرية - الإسرائيلية معروفة، وكذلك اللجوء إلى الوساطة والتحكيم والمفاوضات غير المباشرة ثم المباشرة، وهي كلها تصب في خانة العمل السياسي الذي تدعمه قوة عسكرية رادعة ليست بالضرورة هي الأداة العاجلة، بل قد لا تستخدم أبداً ولكن وجودها يضيف إلى أسلحة الردع مهابة واهتماماً.
ثالثاً، يتوهم بعض العرب أمام جبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية أننا الأضعف وهم الأقوى، وذلك ليس أمراً محسوماً، فالفارق بين الانتصار التكتيكي والهزيمة المرحلية معروف جيداً في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي، ولقد كشفت أحداث الأشهر الماضية أن القوى الكامنة لدى الجانب العربي والفلسطيني كبيرة على رغم سقوط الضحايا والخسائر الفادحة التي تكبدها الشعب الفلسطيني الباسل وأهل غزة الأبطال.
كل ذلك يؤكد أن لدينا أوراقاً لم نُحسن استخدامها ولم نتمكن من وضعها في مكانها الصحيح، لذلك فإن مرحلة التفاوض القادمة – إذا صدقت النيات – ستكون حاسمة وقاطعة لحل صراع طويل تعاقبت عليه الحكومات العربية والإدارات الأميركية والظروف الدولية، ولا يزال مع كل ذلك عصياً على الحل لأن الطرف الآخر يجيد أساليب الخداع والتعنت، ويتخذ مواقف مضللة لا تتفق مع الحقيقة والواقع بل ولا التاريخ والماضي أيضاً.
رابعاً، إننا نتطلع إلى أن تكون نقاط ترمب بكل ما لها وما عليها مقدمة للالتزام الكامل من الطرفين بالسعي نحو الحل النهائي للصراعات القائمة في المنطقة، ووضع دولها في المكان الطبيعي بعد طول معاناة ضمن صراع هو الأطول عمراً في عالمنا المعاصر والأشد قسوة على شعوبه، خصوصاً الشعب الفلسطيني الذي دفع ويدفع فاتورة الدم مرات عدة ويقدم مواكب الشهداء طواعية.
ونحن نثمن التطورات غير المسبوقة التي أدت إلى توافق مبدئي بين المقاومة الفلسطينية بما لها وما عليها، وبين إسرائيل بتاريخها الطويل وسجلها الحافل، لنقرر هنا أننا للمرة الأولى نشم رائحة الأمل في مستقبل واعد بالسلام والاستقرار بعد أعوام طويلة من الصراع.
دعنا نتطلع في ثقة وأمل إلى حياة أفضل لنا ولأجيالنا القادمة حتى يسود السلام أرض الديانات ومهبط الرسالات في أجمل بقاع الدنيا، كي تزول هذه الغمة وتنتصر الأمة داعين الله أن تزدهر بارقة الأمل لشعوب المنطقة بغير استثناء، بالبعد من العنف ونبذ المواجهات الدامية من أجل سلام عادل وشامل.