Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخلل القاتل في التحالف عبر الأطلسي

على ترمب أن يبذل جهداً أكبر لإعادة التوازن إلى علاقة أميركا مع أوروبا

رايتا الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مرفوعتان ضمن مراسم عسكرية في بريشتينا، كوسوفو، ديسمبر 2018 (رويترز)

ملخص

يعاني التحالف عبر الأطلسي خللاً بنيوياً يتمثل في تحمل الولايات المتحدة أعباء غير متكافئة داخل الحلف، وضمن العلاقات الاقتصادية مع أوروبا. انطلاقاً من هذا على إدارة ترمب إعادة صياغة هذه العلاقة عبر تقليص الالتزامات العسكرية وتعزيز الشراكة الاقتصادية والتكنولوجية، بما يخدم المصالح الأميركية أولاً.

عندما عاد الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، كان وضع نصب عينيه إعادة التوازن في العلاقات عبر الأطلسي. وهو محق في ذلك. فالولايات المتحدة تتحمل مسؤوليات وكلفاً كبيرة في إطار حلف الناتو، تفوق ما تجنيه من منافع أو مصالح مباشرة من هذا الالتزام. وأن القواعد التنظيمية الصادرة من بروكسل أفرزت نظاماً تجارياً غير متكافئ بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وعلى رغم أن الولايات المتحدة واحدة من بين 32 عضواً في الناتو، فإنها تغطي 16 في المئة من موازنة الحلف السنوية، وتتحمل معظم العبء التشغيلي واللوجيستي لأمن أوروبا. وخلال الوقت نفسه، استخدم الاتحاد الأوروبي طوال أعوام الحواجز الجمركية وغير الجمركية لتقييد وصول المنتجات الزراعية والصناعية الأميركية إلى أسواقه، وعرقل عمل الشركات الأميركية الصغيرة وشركات التكنولوجيا الكبرى من خلال قواعد تنظيمية وإجراءات روتينية.

واستهدف ترمب أوروبا فور توليه منصبه. فبعد فترة وجيزة من تنصيبه، أرسل نائبه جي دي فانس ووزير الدفاع الأميركي المعين حديثاً بيت هيغسيث، لتحذير الأوروبيين من أن القائد الجديد في واشنطن عازم على تغيير شروط العلاقة. في باريس، دعا فانس أوروبا إلى تخفيف القيود على الذكاء الاصطناعي والطاقة. وفي ميونيخ، شكك في استمرار التزام أوروبا بالقيم الغربية المشتركة. وفي بروكسل، أعلن هيغسيث أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على التركيز بصورة أساس على أمن أوروبا، وأنها ستنتقل إلى أولويات أخرى. وبعد ذلك بوقت قصير، فرض ترمب تعريفات جمركية عقابية تهدف إلى الضغط على أوروبا لخفض الحواجز التجارية واللوائح التي تحد من وصول الشركات الأميركية إلى الأسواق الأوروبية.

ويُذكر أن حملة الضغط المتعددة الجبهات هذه أسفرت عن بعض النتائج الأولية. فضمن اجتماع قمة حلف شمال الأطلسي خلال يونيو (حزيران) الماضي، تعهد الحلفاء الأوروبيون بزيادة إنفاقهم الدفاعي إلى خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035. وخلال يوليو (تموز) الماضي، أعلن ترمب ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، عن اتفاق تجاري يلزم الاتحاد الأوروبي بشراء منتجات طاقة أميركية بقيمة 750 مليار دولار، واستثمار 600 مليار دولار في السوق الأميركية بحلول عام 2028.

مع ذلك، فإن هذه النجاحات لم تكن سوى جزئية، وربما وهمية. في الواقع، إن تعهد الحلفاء الأوروبيون بإنفاق نسبة خمسة في المئة لا يقدم للولايات المتحدة أية فوائد تذكر على المدى القريب، وبما أن قادة اليوم لا يستطيعون إلزام خلفائهم، يبقى من غير المؤكد ما إذا كانت الدول الأوروبية ستفي بهذه الأهداف يوماً ما. علاوة على ذلك، ما زالت الولايات المتحدة تحتفظ بالسيطرة على المناصب القيادية الرئيسة في الناتو، مما يضمن استمرار اعتماد أوروبا المؤسسي على العون العسكري الأميركي.

وقد يمثل الاتفاق التجاري مع الاتحاد الأوروبي، الذي أبرم رسمياً كاتفاق إطاري خلال أغسطس (آب) الماضي، تعديلاً أكثر جوهرية. لكنه يبقى خلال الوقت الحالي مجرد مخطط. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت أوروبا قادرة على الوفاء بالتزاماتها على مدى أعوام عدة، فيما تواصل بروكسل رفض تعديل اللوائح التي تعوق عمل الشركات الأميركية في مجال التكنولوجيا الفائقة في القارة. كما أن الاتفاق التجاري هذا يعد مجرد صفقة لمرة واحدة، غير مدعوم بأية بنية تحتية مؤسسية. ونتيجة لذلك، سيظل تعقيد بيروقراطيات الاتحاد الأوروبي يقيد قدرة الولايات المتحدة على إعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي.

إذا كانت إدارة ترمب تنوي حقاً إعادة التوازن في العلاقة مع أوروبا، وإعطاءها مكانة أكثر تناسباً في السياسة الخارجية الأميركية، فلا يمكنها الاعتماد على صفقات ضيقة لا تعدو أن تكون مجرد تعديلات طفيفة أو محاولات للتحايل على المؤسسات القائمة. بدلاً من ذلك، يجب عليها التعامل مباشرة مع القواعد الأساس للعلاقة عبر الأطلسي. ويتطلب القيام بذلك فهماً للخيارات الثلاثة المصيرية التي اتخذت عند تأسيس حلف الناتو: إعطاء الأولوية لأوروبا على حساب الأميركتين، وإضفاء الطابع المؤسسي على البعد العسكري بدلاً من البعد الاقتصادي للعلاقة عبر الأطلسي، وتضمين تحالف إقليمي في إطار أيديولوجي عالمي شامل. وكانت لهذه القرارات نواح سلبية واضحة منذ البداية. وكلها أدت إلى صعوبات متزايدة خلال الأعوام الأخيرة. وستظل العلاقة تعاني المشكلات الجوهرية نفسها، إلى أن يعاد النظر في الأسس التي قامت عليها السياسة الأطلسية منذ البداية.

لحسن الحظ، يمكن لإدارة ترمب اتخاذ خطوات لمعالجة أخطاء الماضي ووضع العلاقات عبر الأطلسي على مسار جديد. أولاً، ينبغي على ترمب الوفاء بالتزامه بإعادة تركيز السياسة الخارجية الأميركية على الجوار القريب، والانسحاب من أوروبا وتجنب "الاستدارة نحو آسيا" بصورة حادة التي تعهدتها الإدارات السابقة. ثانياً، ينبغي على فريق الأمن القومي التابع له الإصرار على أن تقتصر أنشطة حلف شمال الأطلسي على المنطقة الأوروبية الأطلسية. وأخيراً، ينبغي على إدارة ترمب تحويل العلاقة عبر الأطلسي من علاقة قائمة على التعاون العسكري إلى علاقة تتمحور حول الشراكة الاقتصادية والتكنولوجيا. وستظل القارة شريكاً مهماً للولايات المتحدة، لكنها لن تشكل عبئاً على الموارد الأميركية.

الاستدارة بعد الحرب

على مدار القرن ونصف القرن الأول من تاريخها، أعطت الولايات المتحدة الأولوية لسياسة خارجية تركز على نصف الكرة الأرضية الغربي. ففي خطابه الوداعي عام 1796، حذر جورج واشنطن الأميركيين من التورط في شؤون أوروبا. وفي خطابه أمام الكونغرس عام 1823، حذر جيمس مونرو الأوروبيين من أي تدخل في نصف الكرة الغربي. ويُذكر أن جهود الولايات المتحدة لإضفاء الطابع المؤسسي على سياسة تشمل القارة الأميركية بأكملها، بلغت ذروتها عام 1947 مع اعتماد "حلف الريو"، أول معاهدة أمنية مشتركة انضمت إليها الولايات المتحدة ووافقت فيها دول المنطقة على الدفاع عن بعضها بعضاً في حال تعرضها لهجوم.

وعندما انضمت الولايات المتحدة إلى حلف شمال الأطلسي عام 1949، أشار صانعو السياسات الأميركيون إلى حلف الريو باعتباره سابقة يحتذى بها، ورأوا أوجه تشابه بين وثيقة تأسيس الناتو، أي معاهدة شمال الأطلسي، ومبدأ مونرو. وكان لحلف الناتو جاذبية واضحة آنذاك. فأوروبا، أغنى منطقة في العالم، كانت عانت دمار الحرب، وكان من الممكن دمجها في مجال النفوذ الأميركي بكلفة زهيدة نسبياً. علاوة على ذلك، كان المسؤولون الأميركيون قلقين من أنه إذا لم تكتسب الولايات المتحدة موطئ قدم لها في أوروبا، فستتنازل عن مكانتها في المنطقة لمصلحة الاتحاد السوفياتي، منافسها الأقوى.

ولكن تبين أن الاستدارة بعد الحرب نحو أوروبا كانت رفضاً، وليست امتداداً، لسياسة واشنطن التقليدية في نصف الكرة الغربي، وجاءت بكلفة واضحة على حساب مصالح الولايات المتحدة في الأميركتين. وعلى مدار الحرب الباردة، تخلت واشنطن أو تجاهلت المشاريع الإيجابية السابقة في أميركا اللاتينية وفضلت سياسة من التدخلات المناهضة للشيوعية تقوم على ردود الفعل (وغير فعالة). أما المحاولات النادرة لإحياء الجهود الأميركية في المنطقة، مثل "التحالف من أجل التقدم" الذي أطلقه الرئيس جون كينيدي كبرنامج مساعدات في أميركا اللاتينية، ففشلت في جذب الموارد الكافية وتحولت في النهاية إلى دعم إضافي لأية قوى أمنية محلية كانت تدعي محاربة الشيوعية.

ومع توسع طموحات الولايات المتحدة (وحلف شمال الأطلسي) بعد انتهاء الحرب الباردة، تراجع الاهتمام بنصف الكرة الغربي أكثر فأكثر. وأصبح الأمن على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة هاجساً داخلياً رئيساً مع ترسخ نفوذ الكارتيلات في المكسيك وأميركا الوسطى. وظلت الولايات المتحدة على خلاف مع كوبا، الحليف السابق للاتحاد السوفياتي المنحل، والركيزة الأساس في منطقة البحر الكاريبي، التي لا تبعد سوى 160 كيلومتراً من سواحل فلوريدا، وبعد انتخاب هوغو تشافيز عام 1998، فقدت علاقاتها البناءة مع فنزويلا، التي تمتلك أكبر احتياطات نفطية مؤكدة في العالم. وخلال الوقت نفسه، فإن فرص الاستثمار في مختلف أنحاء المنطقة ذهبت بصورة متزايدة إلى شركات غير أميركية.

الوجود العسكري على الأرض

عندما وجهت الولايات المتحدة أنظارها واهتمامها نحو أوروبا خلال الفترة التي تلت الحرب مباشرة، كانت أولويتها هي الانخراط الاقتصادي، سواء لإنشاء أسواق تصدير للشركات الأميركية أو لتحصين القارة الأوروبية ضد الشيوعية. وترجمت خطة مارشال، التي أعلن عنها عام 1947، هذه الأولوية إلى سياسة، إذ قدمت مليارات الدولارات كمساعدات لدعم إعادة بناء الاقتصاد وتحقيق استقراره في جميع أنحاء القارة، وشجعت اعتماد المعايير الصناعية الأميركية، وتقليل الحواجز التجارية. ومع ذلك، كان المشروع قصير العمر، وسرعان ما سلمت واشنطن شعلة التكامل الاقتصادي إلى الأوروبيين أنفسهم. وعندما انتهت خطة مارشال عام 1951، أنشأت بلجيكا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، مما زرع بذور تطوير اتحاد اقتصادي لديه القدرة على استبعاد أميركا من السوق التي أسهمت في إنشائها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي حين كانت مبادرة إعادة إعمار أوروبا، وتحقيق التكامل الاقتصادي فيها، مبادرة أميركية استمرت الدول الأوروبية في تنفيذها لاحقاً بمفردها، فإن الأمن المتبادل بدأ باعتباره هاجساً أوروبياً قبل أن يصبح عبئاً أميركياً دائماً. خلال عام 1947، وقعت المملكة المتحدة وفرنسا معاهدة دنكيرك، التي نصت على الدفاع المشترك بينهما. وعام 1948، انضمت إليهما بلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا لتوقيع معاهدة بروكسل. وعام 1949، وقعت الولايات المتحدة معاهدة شمال الأطلسي، فقبلت بذلك دوراً طويل الأمد في أمن أوروبا الغربية.

وحتى خلال ذلك الوقت، لم يكن كثر في الولايات المتحدة يعتقدون أن عليهم حماية أوروبا الغربية إلى ما لا نهاية. كان الدبلوماسي الأميركي ومهندس سياسة الاحتواء جورج كينان متشككاً بدايةً في الحاجة إلى تحالف عبر الأطلسي. وكان يعتقد أن تركيز الأوروبيين الغربيين على الأمن العسكري ناجم عن "فشلهم في فهم مكانتهم بصورة صحيحة" وعن تقييمهم الخاطئ لطبيعة التهديد الشيوعي الذي كان في جوهره سياسياً. ومن وجهة نظر كينان، كان انضمام الولايات المتحدة إلى معاهدة شمال الأطلسي بمثابة علاج نفسي "لتعزيز ثقة الأوروبيين الغربيين بأنفسهم"، لكي يتمكنوا من توجيه انتباههم إلى الأولويات الحقيقية المتمثلة في إعادة الإعمار الاقتصادي والاستقرار السياسي.

لقد استمرت العلاقة عبر الأطلسي كإطار عسكري بحت

وبعد أربعة عقود انهار المعسكر السوفياتي، وانسحب الجنود الروس. ومع ذلك، بقيت القوات الأميركية، ولم ينج الناتو فحسب، بل توسع أيضاً، على رغم اعتراضات كينان وآخرين. وربما أفضل تفسير لاستمرار هذا التحالف العسكري هو غياب هياكل أطلسية بديلة. فأميركا الشمالية وأوروبا لا تربطهما أية مؤسسة سوى الناتو. وبالنسبة إلى الدول الأعضاء سابقاً في حلف وارسو، وإلى الدول الجديدة ما بعد الاتحاد السوفياتي، كانت عضوية الناتو هي التذكرة الوحيدة لدخول النادي الأميركي، وما يوفره من مزايا أمنية واقتصادية. أما بالنسبة إلى واشنطن، فقد كان استمرار وجود الناتو هو أبسط سبيل لضمان مجال نفوذ الولايات المتحدة وتوسيعه.

ومع ذلك، ومثلما توقع عدد من المراقبين، فإن محاولات تعزيز التماسك عبر الأطلسي من خلال توسع الناتو أثارت في النهاية رد فعل روسياً ربما لم يكن ليحدث لو كانت العلاقة عبر الأطلسي قائمة على التعاون الاقتصادي. وأعقب إعلان قمة الناتو عام 2008 في بودابست الذي وعد بانضمام جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف مستقبلاً، حروب في كلا البلدين.

خلال الوقت نفسه، أدى إنشاء الاتحاد الأوروبي عام 1993 إلى تفاقم التوترات داخل التحالف عبر الأطلسي. فبينما دفعت الولايات المتحدة الكلف وتحملت الأخطار لتوسيع نطاق الأمن ​​بصورة متزايدة، لم يكن لها أي دور رسمي في الهياكل السياسية والقانونية والاقتصادية لأوروبا. واستفادت بروكسل وبرلين من ذلك على حساب واشنطن. وهكذا، فإن العلاقة عبر الأطلسي، التي أنشئت لتوسيع النفوذ الاقتصادي الأميركي في أوروبا، استمرت كإطار عسكري صرف.

الناتو يصبح عالمياً

كان التركيز الأميركي على أوروبا في فترة ما بعد الحرب مدفوعاً في البداية بالمصالح الإقليمية، لكن السياسة الخارجية الأميركية سرعان ما اكتسبت توجهاً عالمياً. فقبل أن تنضم الولايات المتحدة حتى إلى حلف الناتو، فكر صانعو القرار الأميركيون في إنشاء تحالف عالمي مناهض للشيوعية. فخلال الـ23 من مارس (آذار) 1948، اجتمع مسؤولون من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا سراً لبحث إمكانية إنشاء "ميثاق للأمم الحرة" على مستوى العالم بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وعلى رغم أنهم قرروا عدم العمل على هذا الخيار في المدى القريب، فإنهم "اتفقوا على أن أي نهج يُتبنى يجب ألا يضر بالتحول المرتقب في هذا الاتجاه".

واستطراداً، واصل صانعو السياسات الأميركيون الدفع باتجاه نظام أمني مترابط عالمياً حتى خلال وقت التزمت فيه الولايات المتحدة بتحالف إقليمي عبر الأطلسي. على سبيل المثال، جمع السيناتور وورن ماغنوسون، وهو ديمقراطي من ولاية واشنطن، بين تصويته لمصلحة معاهدة شمال الأطلسي ودعوته إلى إنشاء "ميثاق مماثل للمحيط الهادئ". وأوضح قائلاً "إذا كنا سنتولى قيادة جميع الشعوب الحرة في العالم، وأولئك الذين يرغبون في أن يصبحوا أحراراً، فبالطبع لا يمكننا حصر العمل الذي نقوم به في منطقة جغرافية واحدة من العالم".

على النقيض من ذلك، شدد كينان على الكلف الباهظة لمواصلة توسيع الالتزامات الأمنية الأميركية، إذ كتب في مذكرة خلال ذلك العام "خارج نطاق منطقة الأطلسي التي تشكل مفهوماً واضح المعالم، وتضم مجتمعاً حقيقياً من المصالح الدفاعية المتجذرة بقوة في الجغرافيا والتقاليد، لا يوجد أية نقطة توقف منطقية تحد من توسيع نظام التحالفات المناهضة لروسيا إلا إذا شمل ذلك النظام العالم بأسره". وأضاف أن مثل هذه السياسة لا يمكن أن "تؤدي إلا إلى واحدة من نتيجتين محتملتين، إما أن تصبح كل هذه التحالفات مجرد إعلانات بلا معنى... أو أن ينجر هذا البلد إلى توسع مفرط، سياسياً وعسكرياً".

وعلى رغم نصائح كينان، استمرت الالتزامات الأميركية في التكاثر. خلال عام 1950، جاء تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68، الذي ينظر إليه على أنه الوثيقة الاستراتيجية المحورية للحرب الباردة، ليحدد الهدف الأسمى للولايات المتحدة بأنه بناء "القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية للعالم الحر"، وهو مفهوم عرفه صانعو السياسات الأميركيون على أنه يشمل العالم غير الشيوعي بأسره. وخلال النصف الأول من خمسينيات القرن الـ20، توسعت عضوية الناتو لتضم اليونان وتركيا وألمانيا الغربية. وخلال تلك الفترة، أحاطت واشنطن أطراف "العالم الشيوعي" بثلاثة تحالفات أخرى "للعالم الحر": "أنزوس" ANZUS (أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة)، و"سياتو" SEATO (أستراليا وفرنسا ونيوزيلندا وباكستان والفيليبين وتايلاند والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، و"سينتو" CENTO (تحالف بين إيران والعراق وباكستان وتركيا والمملكة المتحدة، صاغته الولايات المتحدة من دون أن تنضم إليه).

وعندما انهار الاتحاد السوفياتي، افترض الأطلسيون أن الديمقراطية الليبرالية ستمتد بصورة طبيعية إلى أقاصي الأرض. وعندما لم يتحقق ذلك، ألقوا باللوم على جهات سيئة مختلفة، من الإرهابيين إلى الشموليين. وأعادت إدارة بايدن تبني منظور الحرب الباردة، معلنة وجود انقسام عالمي بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، مع عودة الصين وروسيا لتجسيد دور الخصمين الرئيسين. ومرة أخرى، جرى توظيف العلاقة عبر الأطلسي لخدمة مصالح "النظام الليبرالي" الأكبر، إذ شجعت دول الناتو على زيادة تعاونها العسكري مع الحلفاء في شرق آسيا، بينما حضرت اليابان وكوريا الجنوبية قمم الناتو وأعلنتا صراحة عن دعمهما لأوكرانيا. وحتى بعد إعادة انتخاب ترمب، واصل المسؤولون الأوروبيون الإشارة إلى الروابط بين الصين وروسيا في محاولة للحفاظ على الانخراط العسكري الأميركي في القارة.

تصحيح الأخطاء

لم يكن نهج إدارة ترمب تجاه أوروبا حتى الآن كافياً لزعزعة الأسس التي قامت عليها العلاقة عبر الأطلسي منذ 75 عاماً. لكن الخبر السار لترمب هو أنه لا يزال أمامه أكثر من ثلاثة أعوام لدفع الولايات المتحدة نحو سياسة خارجية تضع المصالح الأميركية أولاً بالفعل.

كخطوة أولى، ينبغي على إدارة ترمب أن تعيد إضفاء الطابع الإقليمي على العلاقة عبر الأطلسي، من خلال توجيه تركيزها مجدداً على أوروبا وشمال الأطلسي، إذ كان من المفترض أن يكون منذ البداية. لقد توقف ترمب وفريقه للأمن القومي عن الحديث عن "البنية الشبكية" التي تربط حلفاء واشنطن الأوروبيين والآسيويين معاً، ولم يعودوا يروجون لحلف الناتو باعتباره حجر أساس لأي نوع من النظام الدولي الليبرالي. كما أنهم حثوا أعضاء الناتو على التركيز على قضايا الأمن في محيطهم المباشر بدلاً من تلك الموجودة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لكن ترمب سيحتاج إلى بذل مزيد من الجهود لإبقاء العلاقة الأميركية الأوروبية محصورة ضمن إطار إقليمي، وبخاصة في المجال الدفاعي.

ومن أجل ضمان عدم توسع نطاق الالتزام عبر الأطلسي، أو صلاحيات الناتو، أكثر من ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تبدأ مناقشات لإغلاق باب الحلف المفتوح رسمياً، بالتالي منع أية فرصة لتوسع مستقبلي. علاوة على ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تضمن بقاء أنشطة الحلف مركزة حصراً على أوروبا. ويجب على واشنطن الإصرار على أن تقتصر وثائق التخطيط الخاصة بالناتو على التحديات الأمنية الأوروبية الأطلسية، بما في ذلك التهديدات المباشرة لأراضي الناتو، وأمن الملاحة في المياه المحيطة بالقارة، والتهديدات السيبرانية الصادرة عن الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية. وينبغي على الولايات المتحدة حجب الدعم عن العمليات خارج الحدود الحالية لحلف الناتو التي يقترحها أعضاء آخرون في الحلف، بما في ذلك العبور البحري لمضيق تايوان وفرض مناطق حظر طيران فوق أوكرانيا.

ينبغي على الولايات المتحدة أن تركز على مجالي التكنولوجيا والتعاون الاقتصادي مع أوروبا

ثانياً، سيحتاج ترمب إلى إجبار أوروبا على تحمل مسؤولية أكبر عن دفاعها الذاتي، وليس على الورق فحسب. وقد لا يتطلب ذلك انسحاباً أميركياً من الناتو، لكنه سيستلزم تقليصاً كبيراً للقوات الأميركية وتفسيراً حرفياً للوثيقة الأساس للحلف، المادة الخامسة، لحصر نطاق الالتزام العسكري الأميركي تجاه أوروبا في حال حدوث أزمة. على رغم أن المادة الخامسة غالباً ما توصف بأنها تلزم الدول الأعضاء بنشر قوات لتقديم الدعم المباشر في حال تعرض أي عضو آخر لعدوان، فإن الالتزام الفعلي أكثر محدودية. إذ تنص المعاهدة فقط على أنه في حال وقوع هجوم، سيقوم الأعضاء "بمساعدة الطرف أو الأطراف التي تعرضت للهجوم من خلال اتخاذهم على الفور التدابير التي يرونها ضرورية، بصورة فردية وبالتعاون مع الأطراف الأخرى، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، لاستعادة أمن منطقة شمال الأطلسي والحفاظ عليه". ويمكن للولايات المتحدة الوفاء بهذا الالتزام من خلال تقديم المساعدة العسكرية أو الدعم اللوجيستي، على سبيل المثال، بدلاً من نشر الجنود الأميركيين في الخطوط الأمامية.

وسيكون من المهم خصوصاً سحب القوات القتالية البرية والجوية المتمركزة في ألمانيا وبولندا ورومانيا، التي تمثل جوهر الالتزام العسكري الأميركي في المنطقة. في الواقع، إن إزالة معظم هذه القوات سيجعل من الأسهل على واشنطن أن تبقي أي دور أميركي في النزاعات الأوروبية المستقبلية محدوداً، من خلال تقليص خطر التورط وتقليل الإغراء الذي قد يشعر به صانعو السياسات الأميركيون لدعم التدخل المباشر. وستكون هناك حاجة إلى تغييرات مؤسسية، إذ ينبغي لإدارة ترمب أن تبدأ محادثات مع حلفاء الناتو لضمان أن يتمكن الأوروبيون، لا الأميركيون، من شغل المناصب المدنية والعسكرية العليا، بما في ذلك منصب القائد الأعلى المقبل لقوات الحلف. وينبغي أيضاً إعادة صياغة خطط الناتو لتقليل دور الولايات المتحدة في الدفاع المتقدم وعلى الجبهات الأمامية، على أن تكلف القوات الأميركية في أوروبا بمهام الدعم، بما في ذلك الاستخبارات واللوجيستيات وغيرها من القدرات الاستراتيجية.

وبعد تقليص حجم وجودها العسكري في أوروبا، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل على بناء أساس جديد للعلاقات عبر الأطلسي، يركز على التكنولوجيا والتعاون الاقتصادي. سيتطلب هذا المشروع مؤسسات جديدة لإضفاء الطابع الرسمي على المشاركة وتعزيز الشراكات في مجالات تشمل الذكاء الاصطناعي، والصناعات الدوائية، والمعادن الحرجة. ويمكن أيضاً تعزيز الريادة الأميركية في مجالي الفضاء والتكنولوجيا السيبرانية من خلال التعاون مع أوروبا. ويمكن أن يكون الاتفاق التجاري الجديد الذي أبرمه ترمب حديثاً مع الاتحاد الأوروبي نقطة انطلاق لبناء آليات تعاون جديدة وعلاقات ذات منفعة متبادلة. وينبغي أن تعطى أهمية خاصة للتقدم في مسائل مثل متطلبات نقل التكنولوجيا ومشاركتها، وتوحيد المعايير التنظيمية.

وأخيراً، يجب ألا تكرر إدارة ترمب أخطاء عام 1949 من خلال استغلال هذا التقليص في التزاماتها للقيام باستدارة حادة نحو آسيا، بما في ذلك إنشاء منظمات جديدة للأمن الجماعي، وتوسيع الوجود العسكري، وبذل جهود لبناء تحالف عالمي من أجل احتواء خصم يخشى منه (هذه المرة، الصين). وتحظى هذه الخطوة بتأييد واسع من خبراء السياسة الخارجية الأميركية والمتشددين تجاه الصين، لكنها ستجعل الولايات المتحدة مرة أخرى مثقلة بأعباء مفرطة، مع خطر الانجرار إلى صراع بعيد من حدودها. وفي كل الأحوال، فإن الوجود العسكري الأميركي الحالي في آسيا أكثر من كافٍ لتأمين المصالح الأميركية.

الاستدارة نحو الوطن

في الواقع، يتعين على الولايات المتحدة أن تستدير نحو الداخل. فعلى ترمب أن يستغل الموارد والهامش الاستراتيجي المتاح نتيجة تقليص الدور العسكري الأميركي في أوروبا، ليعيد تركيز طاقة الولايات المتحدة داخل نصف الكرة الغربي. إن أمن الحدود والموانئ والدفاع الجوي والصاروخي عن الوطن هي مجالات سيكون فيها للقوة العسكرية دور أساس. ولكن حتى بعد الاستثمار في هذه المجالات، فإن تقليص الالتزامات العسكرية الأميركية في أوروبا سيسمح للولايات المتحدة بتخفيف أعبائها، مما يوفر حيزاً في الموازنة للأولويات المحلية، بما في ذلك البنية التحتية والتعليم وسداد الدين الوطني.

ينبغي على إدارة ترمب أن تعمل مع الشركاء الإقليميين لمعالجة الأسباب الجذرية للهجرة وتخصيص مزيد من الموارد لوكالات إنفاذ القانون المتمتعة بأفضل تدريب، من أجل التعامل مع قضايا مثل الاتجار بالبشر والمخدرات والجريمة المنظمة العابرة للحدود، إضافة إلى ذلك يمكن لواشنطن أن تركز على زيادة استثماراتها في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، سواء للاستفادة من الموارد الطبيعية الوفيرة داخل المنطقة أو لبناء روابط أقوى مع جيران الولايات المتحدة، بما في ذلك الدول التي لدى واشنطن تاريخ من الصراعات معها. ويمكن للولايات المتحدة أن تدرج غرينلاند، التي تعد جزءاً من أميركا الشمالية، ضمن سياستها الجديدة في نصف الكرة الغربي، من خلال إيجاد مجالات تعاون ذات منفعة متبادلة، بدءاً من استخراج المعادن الحيوية وصولاً إلى إنشاء مواقع عمليات عسكرية جديدة لتعزيز الأمن في شمال الأطلسي.

وعلى رغم أن هذا التحول نحو الداخل لن يكتمل خلال أربعة أعوام، فإن إدارة ترمب لديها فرصة فريدة لإعادة التوازن في العلاقة عبر الأطلسي ومعالجة اختلالاتها. وعندما يتحقق هذا التوازن، سيكون إنجازاً دائماً يضع الولايات المتحدة في موقع مؤهل لمواجهة تحديات وفرص الأعوام الـ75 المقبلة.

 

جينيفر كافانا هي زميلة بارزة ومديرة التحليل العسكري في مؤسسة "أولويات الدفاع"، وأستاذة مساعدة في مركز الدراسات الأمنية بجامعة جورج تاون.

بيتر سليزكين هو زميل بارز ومدير برنامج روسيا في مركز ستيمسون.

مترجم عن "فورين أفيرز"، الـ30 من سبتمبر 2025

المزيد من آراء