ملخص
تعزيز الثقافة المالية، يمكن أن يحدث تحولاً جذرياً في المجتمعات عبر بناء الثقة وتوفير أدوات فعالة لاتخاذ قرارات مالية أفضل في عالم يزداد تعقيداً.
منذ ما يربو على 800 عام، نشر الابن الشاب لدبلوماسي إيطالي كتاباً غير مسار الحضارة الغربية. ترعرع ليوناردو، المتحدر من بيزا، داخل مدينة بجاية الجزائرية في كنف والده، الذي كان يعمل مسؤولاً للجمارك وتاجراً من بيزا. وخلال فترة دراسته في المدينة الساحلية الواقعة شمال أفريقيا، مقابل جزيرة سردينيا إلى حد ما، تتلمذ ليوناردو على يد علماء عرب عرفوه على مفهوم جديد لم ينتشر إجمالاً في أوروبا، هو علم الجبر.
يقوم هذا المفهوم على الأهمية الثورية لعدد "الصفر". يتيح لنا الصفر، في جوهره الحسابي، الانتقال من الأعداد الموجبة إلى الأعداد السالبة، مما يسمح بالتمييز بسهولة بين الدائنين (أصحاب الأموال) والمدينين (الذين يدينون بالأموال). ويتيح لنا الصفر تمثيل الأعداد الكبيرة، مثل 1000000، مما يفتح أمامنا إمكانية طرحها وجمعها وقسمتها وضربها - وهو اكتشاف خلف تداعيات ضخمة في عالم التجارة والتبادل التجاري.
كانت الحضارات الأوروبية القديمة رفضت مفهوم الصفر. ولم يستسغ الفلاسفة الإغريق أمثال أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس فكرة الفراغ. لكن في الهند، كان أحد الأهداف الأساس للهنود القدماء الوصول إلى صورة من صور العدم، ويبدو أنهم أحرزوا تقدماً في فهم الرياضيات لهذا السبب. عندما غزا العرب الإمبراطورية الفارسية خلال القرن السابع، تعلموا الأرقام الهندية القديمة التي فتحت أعينهم على تقنية رائعة قوامها الآحاد والعشرات والمئات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
دفعت هذه الأفكار الجديدة بالعرب إلى إحداث تغيير جذري في نشاطهم التجاري، إذ أنشأوا شبكات تجارية امتدت من غرب البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي مروراً بالعالم الإسلامي. وأثناء تنقله مع والده عبر الموانئ التي يسيطر عليها العرب، شهد ليوناردو القادم من بيزا قوة معرفتهم بأم العين، إذ راقب التجار وهم يحسبون الأوزان والنسب والأسعار بسرعة البرق. وبينما كان الأوروبيون يعانون صعوبة استخدام المعداد، كان العرب يحسبون الموازنات ذهنياً، ويتفوقون حتى على أكثر تجار البندقية خبرة.
بعدما تمكن من فك شيفرة العرب الغامضة، نشر ليوناردو من بيزا - الذي نعرفه اليوم باسم فيبوناتشي - كتاب "ليبير أباتشي" Liber Abaci أي كتاب العد أو الحسابات عام 1202. وانطلاقاً من مفهوم الصفر، علم الكتاب الأوروبيين كيفية حساب أسعار الفائدة والأرباح أو تقييم الإيرادات والكلف.
ساهم علم رياضيات فيبوناتشي الذي بدا سحرياً في إيقاظ أوروبا من ظلمات العصور الوسطى. وأصبح كتابه بمثابة المرجع الأساس للتجارة الأوروبية وأطلق شرارة قرون من الابتكارات المالية الجديدة في جميع أنحاء القارة بدءاً من القيد المزدوج في المحاسبة إلى العملات الاحتياطة، ومن الأوراق النقدية إلى الرهون العقارية الحديثة. ولم تسهل إعادة ابتكار النظم المالية الازدهار التجاري والنمو الاقتصادي فحسب، بل ارتدت أيضاً أهمية محورية في تعزيز التقدم العلمي والتكنولوجي، والحد من الفقر، وحتى التخفيف من حدة النزاعات.
تعد قصة فيبوناتشي بمثابة معلم تاريخي لامع يجسد معضلة تركز عليها حكومات اليوم بصورة متزايدة: كيف يمكننا تحسين المعرفة المالية؟ لا يستطيع سوى ثلث السكان الراشدين في العالم أداء المهام المالية الأساس. في الولايات المتحدة، ينفد المال من نحو ثلث الموظفين قبل موعد تسلمهم رواتبهم التالية، وهو ما قد يؤدي إلى الاكتئاب والقلق. ومن ناحية أخرى، أظهر استطلاع حديث للآراء في المملكة المتحدة أن الهواجس المالية تؤرق نحو نصف السكان البالغين، بينما يطاول هذا الموضوع الشباب والأقليات العرقية بدرجة أكبر. والوضع أسوأ بعد في البلدان النامية.
من المتوقع أن تنشر الحكومة البريطانية خلال الأشهر المقبلة استراتيجيتها المنتظرة منذ فترة طويلة لتعزيز الشمول المالي. وتشمل أبرز محاورها: الإدماج الرقمي، والوصول إلى الخدمات المصرفية والمدخرات، والائتمان الميسر، والتأمين، والاستشارات المتعلقة بالديون، والتثقيف المالي.
وهذا موضوع تدرسه شركتي بدورها. طالما كانت مهمتنا مساعدة الناس على اتخاذ قرارات مالية أفضل من خلال تزويدهم بالأدوات والمعرفة التي يحتاجون إليها في سبيل الادخار والاستثمار والتداول بثقة. ولهذا السبب، عقدنا شراكة مع كلية "سعيد" لإدارة الأعمال بجامعة "أكسفورد" من أجل إطلاق برنامج بحثي جديد يجمع بين أبحاث خبراء عالميين رائدين في مجالات المالية السلوكية (دراسة تأثير العوامل النفسية والعاطفية على السلوكات المالية للمستثمرين) والمسؤولية الاجتماعية للشركات من أجل إيجاد حلول تحسن عملية اتخاذ القرارات.
إن الحاجة ملحة إلى هذه المعرفة. نحن نعيش في عالم لا ينفك يزداد تشظياً وخطراً، إذ الثقة عملة نادرة. أحد المبادئ الأساس للثقافة المالية - وهي قيمة عالمية يفهمها الجميع ويتقبلونها - هو التعبير عن الثقة، اللبنة الأساس في كل المجتمعات المتحضرة. واليوم، نحن في حاجة إلى جرعة جديدة من الثقة، تماماً كما عزز عمل فيبوناتشي الثقة من خلال تعزيز الشفافية وتوفير أنظمة أكثر كفاءة وموثوقية داخل المؤسسات الرأسمالية الناشئة في أوروبا.
إمكانات التغيير تبدو غير محدودة. خلال عام 1900 كان ما بين 15 و20 في المئة فقط من السكان الراشدين في العالم ملمين بالقراءة والكتابة. وأشك كثيراً في أن أي شخص من تلك الحقبة كان سيتنبأ بالارتفاع الهائل في معدلات معرفة القراءة والكتابة على مستوى العالم، والتي وصلت اليوم إلى 87 في المئة للراشدين من 15 عاماً فأكثر. تخيلوا لو استطعنا حشد نفس التركيز والتصميم لحل التحدي الملح المتمثل في محو الأمية المالية خلال القرن الـ21.
فيكتور بروكوبينيا مؤسس موقع "كابيتال دوت كوم" Capital.com وأستاذ زائر في مجال الابتكار وريادة الأعمال في جامعة "ليدز".
© The Independent