ملخص
انجرفت التظاهرات السلمية إلى أعمال عدائية تتسم بكثير من التخريب والتدمير، وإضرام النار في سيارات الشرطة وفي مقار ومنشآت عديدة من مصارف ومحال، ومحاولة اقتحام مقر للدرك الملكي كما حصل ليلة الأربعاء - الخميس في مدينة القليعة.
انزلقت سريعاً الوقفات الاحتجاجية التي قام بها شباب "جيل زد"، كما باتوا يسمون في المغرب، من شعار السلمية للمطالبة بتحسين خدمات الصحة والتعليم على وجه الخصوص، إلى ارتكاب أعمال شغب خطرة من تخريب وإحراق محال ومحاولة اقتحام مقار مملوكة للدولة.
وشهدت أعمال الشغب التي تخللت احتجاجات "جيل زد" مشاركة لافتة للأطفال والقاصرين، وهو ما أكدته أرقام حديثة لوزارة الداخلية المغربية التي أفادت بأن مشاركة هذه الفئات بلغت في أحيان عديدة نسبة 100 في المئة من المجموعات المشاركة في هذه الأشكال الاحتجاجية العنيفة.
ويرى مراقبون أن هذا الانزلاق السريع من مطالب اجتماعية مشروعة في وقفات احتجاجية، حتى لو أنها غير مرخص لها، إلى أعمال شغب يعاقب عليها القانون بأشد العقوبات، يطرح أسئلة عميقة حول تنشئة وخلفيات هؤلاء القاصرين الذين يعتبرون وقود هذه التظاهرات العنيفة.
سمات الانزلاق
انطلقت احتجاجات "جيل زد"، الذين يتجمع كثير منهم في منصة "ديسكورد" في الفضاء الرقمي، يوم السبت الـ28 من سبتمبر (أيلول)، لتتسم بكثير من السلمية، إذ رفع الشباب مطالب وصفت بأنها مشروعة، تتمحور بالأخص في إصلاح قطاعي الصحة والتعليم وتحقيق العدالة الاجتماعية.
واستمر الوضع كما هو عليه يوم الأحد الـ29 من سبتمبر، غير أن القوات الأمنية واجهت مطالب الحركة بغير قليل من القوة والحزم، وجرى توقيف واعتقال عشرات من المتظاهرين، وثقتها عدسات المصورين التي بثت تلك المشاهد في مواقع التواصل الاجتماعي.
وابتداء من يوم الإثنين الـ30 من سبتمر وحتى الخميس الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، انجرفت تلك التظاهرات "السلمية" إلى أعمال عدائية تتسم بكثير من التخريب والتدمير، وإضرام النار في سيارات الشرطة وفي مقار ومنشآت عديدة من مصارف ومحال، ومحاولة اقتحام مقر للدرك الملكي كما حصل ليلة الأربعاء - الخميس في مدينة القليعة.
من جانبها، قالت حركة "جيل زد" أمس الخميس في بيان "نؤكد للرأي العام والسلطات أن تظاهراتنا ستكون سلمية بالكامل، ونرفض أية صورة من صور العنف أو التخريب أو الشغب"، كما جددت تأكيد مطالبها وأبرزها "تعليم يليق بالإنسان ومن دون تفاوتات" و"صحة لكل مواطن من دون استثناءات"، وخلفت أحداث الأربعاء صدمة في البلاد وتورط فيها كثير من القاصرين، بينما نأت الحركة الداعية إلى التظاهرات بنفسها عنها.
ويرى مراقبون أنه، إضافة إلى عنصر التحول السريع من "السلمية" إلى العنف في احتجاجات "جيل زد"، اتسمت هذه التظاهرات باتساع رقعتها، فبعد أن كانت منحصرة في المدن الكبرى والمتوسطة، بلغت حينها 11 مدينة، عرفت تمدداً لتشمل عدداً من الحواضر والمدن الصغرى وحتى بعض البلدات القروية، ليصل العدد إلى 34 إقليماً.
ومن الملاحظات الأخرى التي سجلها مراقبون في شأن تحولات هذه الاحتجاجات، أن الوجوه التي ظهرت في الوقفات السلمية، من بينهم نشطاء حقوقيون ومحامون، تواروا فجأة إلى الخلف، ليملأ ميدان الاحتجاج وحتى منصة "ديسكورد" أطفال وشباب قاصرون.
خريطة الخسائر
هذه الأحداث في أكثر من مدينة مغربية، خصوصاً في سلا والقليعة ووجدة وإنزكان، انخرطت فيها بصورة مثيرة للاستغراب أعداد كبيرة من القاصرين، تجاوزت في المجمل نسبة 70 في المئة من مجموع المشاركين، وعرفت استعمال أسلحة بيضاء، والرشق بالحجارة، وتفجير أسطوانات الغاز، وإضرام النيران في العجلات المطاطية، وفق وزارة الداخلية المغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشفت الداخلية المغربية، ضمن تصريح للمتحدث الرسمي باسمها، عن أن "المؤسف في أحداث العنف والشغب هذه أنها عرفت مشاركة نسب كبيرة من الأطفال والقاصرين، بلغت في أحيان متعددة نسبة 100 في المئة من المجموعات المشاركة".
وتبعاً للمصدر الرسمي نفسه، عرفت أعمال العنف والشغب في مناطق متفرقة أبعاداً أشد جسامة وأكثر خطورة، بانخراط مشاركين في عمليات هجوم، باستعمال الأسلحة البيضاء، واقتحام واكتساح أبنية مملوكة للدولة ومقار مصالح أمنية، كما وقع في القليعة، حيث حاولت مجموعة من الأشخاص الاستيلاء على الذخيرة والعتاد والأسلحة الوظيفية، مما اضطرت معه عناصر الدرك الملكي إلى استعمال السلاح الوظيفي، في إطار "الدفاع الشرعي عن النفس، نتج منه تسجيل ثلاث وفيات".
وأعلنت الداخلية المغربية في السياق نفسه تسجيل إصابة 354 شخصاً بجروح متفاوتة الخطورة، من بينهم 326 عنصراً من القوات العمومية المكلفة بالمحافظة على النظام، وإلحاق أضرار مادية جسيمة بـ271 عربة تابعة للقوات العمومية و175 سيارة مملوكة للخواص، إضافة إلى أعمال اعتداء وتخريب ونهب طاولت نحو 80 من المرافق الإدارية والصحية والأمنية والجماعية والوكالات البنكية والمحال التجارية.
أسباب التحول
كان لافتاً تحول الوقفات الاحتجاجية التي دعت إليها حركة "جيل زد" من طابعها السلمي، على رغم أنها جوبهت بالمنع من طرف السلطات الأمنية، إلى أعمال تخريب وسرقة واعتداءات على ممتلكات تابعة للدولة وأخرى تابعة للقطاع الخاص.
لفهم هذا التغير السريع من شعارات مطلبية اجتماعية واضحة إلى احتجاجات عنيفة، أبطالها مراهقون وقاصرون ملثمون في الغالب، أوضحت الباحثة السوسيولوجية ابتسام العوفير بأن الأمر يتعلق باختلاف منطلقات المتظاهرين في الحالتين معاً.
وأفادت بأنه في انطلاق الوقفات الاحتجاجية لـ"جيل زد"، كان الأمر يتعلق بشباب غالبهم من طلبة المعاهد أو المتخرجين أو النشطاء والمحامين الشباب، وبالتالي كانت مطالبهم مصاغة بصورة واضحة لا لبس فيها، وكانوا سلميين إلى أبعد الحدود، بينما لم يحظوا بالمعاملة ذاتها من طرف السلطات الأمنية.
وأضافت المتحدثة نفسها بأنه بعد مرور يومين اقتحم ميدان الاحتجاج شباب صغار السن، ألفوا ولوج الفضاء الأزرق ومنه منصة "ديسكورد"، وتغيرت بذلك المفاهيم والمطالب وحتى التوجهات، وطغت الفوضى على الاحتجاج، مما يفسر تراجع بعض الوجوه الحقوقية عن مشهد الاحتجاجات.
وأكملت العوفير بأن غالب الذين أشعلوا فتيل العنف في هذه الاحتجاجات أطفال وقاصرون تتراوح أعمارهم أحياناً بين 15 و18 سنة، وهم في الغالب غير متعلمين أو منقطعون عن الدراسة، بدليل أن المؤسسات التعليمية لم تشهد أي رد فعل عنيف أو احتجاجات من طرف الطلاب.
وأبرزت أن الذين تعمدوا ارتكاب أعمال العنف في الشوارع ليسوا طلبة ولا تلاميذ، فهم إما منقطعون عن الدراسة، أو عاطلون عن العمل، أو من "أطفال الشوارع"، مردفة أنهم كانوا يعلمون جيداً تبعات أعمالهم الجنائية، وهو ما فسرته مشاهد تغطية وجوههم بالأقنعة حتى لا تعرف ملامحهم لدى مصالح الأمن.
ولم يفت المتحدثة الإشارة إلى وجود حسابات وهمية في منصة "ديسكورد"، يجري من خلالها "تجييش القاصرين والشباب صغار السن من أجل الخروج إلى الشارع والتعبير عن غضبهم، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة بخصوص بواعث محركي هذه الجحافل من القاصرين".
وعلى صعيد ذي صلة، صرح أحمد والي علمي، رئيس قطب الدعوى العمومية وتتبع تنفيذ السياسة الجنائية برئاسة النيابة العامة، أن أعمال التخريب وإضرام النار وأعمال العنف أفعال إجرامية لا علاقة لها بحرية التعبير، ويعاقب عليها القانون الجنائي بعقوبات سجنية ثقيلة تتراوح بين 10 و20 سنة، وقد تصل في بعض الأحيان إلى 30 سنة، وأحياناً أخرى إلى المؤبد إذا اقترنت بظروف تشديد.