Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بولاق الفرنساوي" رواية ترصد بعين نوبية حرب 1973

حجاج أدول ينتهج السخرية لتوثيق تبعات الصراع العسكري على المهمشين

عسكري مصري يرفع شارة النصر في حرب 1973 (أرشيف وزارة الدفاع)

ملخص

على رغم مرور أكثر من نصف قرن على اندلاع حرب 1973، فلا تزال حاضرة في الأدب باعتبارها حدثاً مفصلياً في الوجدان المصري، بعد تصدعات نالت منه إثر نكسة يونيو (حزيران) عام 1967.

تدفع التحديات والصراعات الإقليمية التي تفرضها إسرائيل على المنطقة إلى استدعاء محطات من الصراع العربي- الإسرائيلي، من بينها حرب السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973. وفي روايته "بولاق الفرنساوي" (منشورات إيبيدي- القاهرة) يستعيد الكاتب المصري النوبي حجاج أدول، أجواء هذه الحرب وتبعاتها على المجتمع المصري، مستنداً إلى أنه أحد المجندين الذين شاركوا فيها، وقدّر له الوجود على خط النار طوال أعوام عدة. وهذا التجنيد أتاح له إدراك كل سوءاتها ومعايشة قبحها وقسوتها ووحشيتها، ومكّنه في الوقت نفسه من تقديم صورة أكثر صدقية لما كان يحدث على جبهة القتال.

لكنه لم يتخذ من قناة السويس، فضاء مكانياً وحيداً للسرد، على رغم بروزها في النص، بل وزع الأحداث بين الجبهة والداخل المصري. واختار أحد أحياء القاهرة الشعبية "بولاق الفرنساوي" ليشتبك من خلاله مع الطبقة الأكثر فقراً التي تمثل هامشاً منسياً قلما يلتفت إليه، ورصد معاناة تلك الطبقة في ظل الحرب وبعد انتهائها.

تجاذب الأجناس   

عبر إدراج نصه في فئة "الرواية"، أعلن أدول منذ بداية رحلته السردية عن لجوئه إلى التخييل، وإن كان في مساحات يسيرة من النسيج، وحاول المزج بينه وبين أحداث ووقائع حقيقية ثابتة تمثل تاريخه الشخصي، مما جعل النص أقرب إلى أدب المذكرات، ولا سيما مع بروز بعض سمات هذا النوع من الأدب، مثل تركيز الكاتب على حيوات الآخرين من رفاقه المحاربين وأصدقائه من حي بولاق، أكثر من تركيزه على ذاته وحياته الشخصية، وكذا تناوله حقبة زمنية محددة حصرها في سنوات الحرب، بداية من حرب الاستنزاف بعد العدوان الإسرائيلي على مصر عام 1967، وحتى ما بعد انتصار أكتوبر عام 1973، لتكون هذه الحقبة الشائكة والملتهبة فضاء زمنياً محدداً للسرد، إضافة إلى تعاطيه مع الحرب كقضية محورية، ولا سيما أنه شارك فيها وشهد أهوالها ومآسيها.

وعمد أدول إلى رصد آثار الحرب على مجتمع الهامش والطبقة الأكثر فقراً وانسحاقاً. واشتبك فضلاً عن قضيته المحورية مع قضايا اجتماعية أخرى كانت الأكثر بروزاً في تلك الحقبة مثل تهجير أهالي النوبة نتيجة مشروع السد العالي والفقر والبؤس المستشري في صعيد مصر والفساد وسرقة قوت الفقراء عبر السوق السوداء والانفتاح الاقتصادي بلا ضوابط وصعود بعض فئات المجتمع بحيل وأساليب غير أخلاقية وتأثر منظومة القيم الاجتماعية سلباً مع استشراء ثقافة الركض خلف الربح السريع، "الزوربا حزين، الأيام تمر وتتعب ملامحه. وكلنا مثله في ما عدا القلة المستغلة التي تطفو فوق بحيرة ضيقنا" (صفحة 110). واتسق مع حضور الحرب كقضية مفصلية دارت في فلكها الأحداث، وكذا مع اتخاذ الكاتب من جبهة القتال فضاء مكانياً للسرد، لجوؤه إلى التقنيات البصرية، ومحاولته استنفار حواس القارئ كافة، فتسلل عبر النص صوت القذائف والدانات ورائحة الدخان ومشاهد القتل والاشتباكات والأطراف المبتورة ومشاعر الحزن والألم والفقد والرغبة في الثأر.

وعمد إلى تسجيل بعض البطولات والتضحيات التي بذلها الجنود على خط النار، "زرناه نحن الأربعة. فرح فرحاً طاغياً بنا. ونحن وجدناه وقد زاد وزنه. صلاح مشرق الوجه رغم ذراعه المفقودة. عدت لأحضر علبة سجائري التي نسيتها. فإذا بي أشاهد صلاح يخفي وجهه بين كفه وأصابعه اليمنى ويبكي" (صفحة 44)، غير أن بروز الحرب كقضية رئيسة كان يستدعي بداية الرحلة السردية من الجبهة، لا البدء من حي بولاق، والإسهاب في رصد ملامحه التي كان من الأفضل الاقتصاد بها، وإرجائها إلى مرحلة تالية من السرد.

ملامح ثقافية

وفضلاً عما رصده الكاتب من سمات اجتماعية، تطرق إلى الملامح الثقافية للمجتمع المصري في ذلك الوقت ورصد الاهتمام بالسينما، وتأثيرها حتى في الطبقات الأقل حظاً من الثقافة والتعليم، حدّ أن اكتسب أحد الشخوص المحورية "عليوة الزوربا" اسمه من شخصية "زوربا اليوناني". واكتسبت معركة الحمير التي قادها طابع وأسلوب معارك الـ"كاوبوي" في أفلام هوليوود. كما وثق أدول أنواع الزي الشعبي خلال حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مستفيداً من زخم التنوع في حي بولاق الذي كان فضاء اجتمعت فيه أنواع عدة من العمائم، ومن الجلباب الشعبي سواء الصعيدي، أو النوبي، أو الفلاحي، إضافة إلى الملاءة اللف التي كانت النسوة يرتدينها. كما تطرق إلى الزي السكندري الذي ميّز الصيادين في تلك الحقبة، "الكثيرون حاسرو الرؤوس، والبعض متعمم بعمامات خفيفة، والبعض يرتدي الطربوش، لكن عدداً على رؤوسهم القبعة الخاصة بالصيادين، وأيضاً القميص المغلق وبرقبة صاعدة تحيط بالعنق، والسروال (أبو ليّه)، والحذاء الخفيف اللين. وهذا ملبس أهل الإسكندرية من سنوات بعيدة مضت".

وتطرق إلى الموسيقى التي كانت تعبر عن المزاج الشعبي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي الذي انحاز إلى أغاني عبدالمطلب ومحمد قنديل، وإن ساير الذوق العام المحتفي بشادية وعبدالحليم كأشهر مطربي تلك الحقبة.

أثر الصراع

وقام الصراع بدور مهم في تحريك الأحداث وتحقيق التطور الدرامي، وتنوع بين صراع خارجي اندلع بين الجنود المصريين وجنود العدو، وبين فتوات الحي وبعضهم بعضاً، وصراع داخلي اندلع في العوالم الداخلية للشخوص وعبّر عن مأزوميتها، فقد عاشه الراوي حين مزقه اليأس والإحباط جراء الأعوام الكثيرة التي قضاها في التجنيد، وما عاشه من أهوال على خط النار فقد على إثرها بعض أصدقائه من جهة، وتأججت رغبته المتأججة في الثأر والانتقام من العدو واستعادة الأرض المسلوبة من جهة أخرى. كما عاش هذا الصراع "عليوه الزوربا" الذي انقسم بين حبه الشديد لزوجته "المعلمة فلّة"، ورغبته في الرحيل عنها لإصرارها على العمل في السوق السوداء، وعاشه "حسن زيادة" بين قلبه الراكض خلف امرأة متزوجة، وعقله الرافض لاختيار قلبه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكما نأت هذه الصراعات بالشخوص عن المثالية الزائفة ومنحتها صدقية وجاذبية، كانت وسيلة عززت رؤى ضمنية مغلفة بالألم واللوم، مررها الكاتب عبر ما طرقه من معاناة الجنود على جبهة القتال ومعاناتهم بعد انتهاء الحرب. كذلك كان الصراع وسيلة انتهجها الكاتب للدفع بالأحداث وتغليفها بالتشويق الذي تسلل إلى غير موضع في النص عبر تقنيات أخرى مثل الاستباق، فعمد إلى الإشارة لارتقاء "حسن زيادة" إلى طبقة اجتماعية أعلى، وانتقاله من حي بولاق للسكن في حي الزمالك الراقي، وأرجئ الكشف عن ملابسات وأسباب هذا التحول لمرحلة متأخرة من السرد. 

الطرافة والسخرية

السخرية كانت وسيلة أخرى لجأ إليها الكاتب لتمرير بعض الرؤى الضمنية، وكذا للاستفادة منها في خلخلة مناخ الحزن والأسى الذي هيمن على السرد نتيجة ما التقطه من مشاهد المعارك والقتل والبؤس والفقر والإحباط. وقد عكس عبر نسيجه الروائي الذي جمع بين القدرة على إثارة الضحك، وفي الوقت عينه استنفار الدموع، مزاج جموع المصريين وقدرتهم الفريدة على المزاح حتى في ظل ما يمرون به من أزمات. وكان هذا التناقض واحداً من تناقضات كثيرة رصدها عبر شخوصه، ولا سيما شخصية "عليوة زوربا" الفتوة الخشن الذي يستخدم قوته لإخضاع الآخرين لكنه يهجر الفتونة لرقة قلبه، بعدما ندم على إيذاء خصمه، وعلى رغم تكاسله عن العمل وركونه للراحة، فإنه ينتفض وقت العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ويسعى إلى الانضمام للمقاومة الشعبية، ويرفض عمل زوجته في السوق السوداء ويعده جريمة في حق المصريين. أما الجنود الذين يواجهون الموت في كل لحظة من القتال الشرس، فلا ينفكون يضحكون، ويصرعون ألمهم وحزنهم بالدعابة والنكات. 

كذلك التقط أدول تناقض العالم والمكان، فالحي الشعبي الذي يئن تحت وطأة الفقر والجوع يجاور أحد الأحياء القاهرية الراقية التي لا يسكنها إلا الأثرياء وأصحاب النفوذ، والمسكن القبيح الذي يعيش فيه "عليوة"، هو أكثر الأماكن التي يغتنم الأصدقاء منها سعادتهم وبهجتهم، والأسماك الميتة بفعل الدانات هي التي تمنح المياه جمالاً وبشاعة في الوقت ذاته. ووسط هذا الزخم من التناقضات، استدعى الكاتب بعض صور التماثل، ولا سيما بين خط بارليف وخط الفقر.

وساق مفارقة حول عبور الأول على رغم صعوبته، والرزوح تحت الثاني الذي توحش، وبات في كل يوم يلتهم أعداداً جديدة من المصريين. وكان الوصف بمستوييه الإبهاري والتفسيري، وسيلة استطاع الكاتب عبرها استعادة حقبة انقضت واندثرت ملامحها. وهو أعاد إنتاج هذه الحقبة مستعيناً بلغة مشهدية، على نحو ساعد في تعزيز تماهي القارئ مع النص، ودعم إيهامه بآنية الحدوث، ولا سيما وقد استعان بالـ"ديالوغ" المسرحي في أنحاء متفرقة من النسيج، لبلوغ الغاية ذاتها. كما عزز تلك الحال من التماهي عبر ما اتسمت به الشخوص من جاذبية استمدتها من واقعيتها وبشريتها التي بدت في تراوح طبائعها ما بين الطيب والرديء.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة