ملخص
جمال عبدالناصر لم يستطع التراجع عن الخطأ، فكانت نهاية زعامته عملياً من دون فقدان شعبيته، وحسن نصرالله لم يرد التراجع عن الخطأ، فكان احتلال إسرائيل من جديد لأجزاء من لبنان، ثم قيام سلطة لبنانية جديدة قررت حصر السلاح بيد الدولة وسحب السلاح من "حزب الله" وكل التنظيمات الفلسطينية.
ليس في عالم اليوم، إلا نادراً، قادة من أصحاب الكاريزما التي تختلف عن الشعبوية، لا في المناصب الرسمية العليا، ولا في الأمانات العامة للأحزاب، هناك كثير من الرجال والنساء العاديين في مناصب يملأونها أو تبدو فارغة، وكثير ممن ينطبق عليهم عنوان كتاب جدعون راتشمان "عصر الرجل القوي: كيف تهدد عبادة القائد الديمقراطية".
أما خارج الديمقراطيات، حيث الأنظمة الشمولية أو السلطوية، فإن "عبادة الفرد" في أيام ستالين وماوتسي تونغ دمرت المجتمع وأنهت الحيوية في الحزب الشيوعي، وأما النموذج الفريد في القيادة، فإن نيلسون مانديلا يمثله سواء في السجن أو الرئاسة عبر المصالحة الشعبية والإدارة الحكيمة والاقتناع بأن "التراجع عن الخطأ هو أيضاً قيادة"، لكن القائد القوي في الأنظمة الشمولية كما الديمقراطية، إن كان أو لم يكن صاحب كاريزما يمتلئ من نفسه ويميل إلى الانفراد باتخاذ القرارات، بحيث يغامر في أماكن خطرة ويرتكب أخطاء استراتيجية بمقدار ما يشعر شعبه بالرضا والاطمئنان إلى أن قائده يأخذه إلى النصر أو أقله يغيظ الأعداء.
ولعل آخر قائدين صاحبي كاريزما في الشرق الأوسط هما الرئيس جمال عبدالناصر والأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، بعض هذه الكاريزما القيادية من سحر الخطابة على الجماهير في عصر التلفزيون بعد الراديو، وبعضها الآخر من صنع موهبة طبيعية وقدرة شخصية على إدارة الأمور واستنفار الناس وإشعارها أنها مالكة القرار الذي وضعته في يد القائد، والقفز من فوق المصاعب، و"أهلاً بالحرب" في مواجهة الأخطار، وسط تصور القائد أنه على أرض قوية جداً.
ففي حرب السويس التي شنتها فرنسا وبريطانيا وإسرائيل عرف عبدالناصر كيف يوظف موقف الرئيس الأميركي أيزنهاور وموقف الرئيس السوفياتي خروشوف في تحويل الخسارة العسكرية إلى نصر سياسي وربح استراتيجي، وفي حرب 1967، ذهب الزعيم المصري على قدميه إلى الفخ الأميركي والإسرائيلي، كيف؟
صدق تأكيد المشير عبدالحكيم عامر بأن استعداد الجيش "تمام"، طلب من الأمين العام للأمم المتحدة سحب القوات الدولية من شرم الشيخ لإغلاق المضائق في وجه الملاحة الإسرائيلية، أخذ بالنصيحة القائلة والقاتلة التي أعطيت له، وموجزها عدم القيام بالضربة الأولى في الحرب وتجهيز الرد على الضربة الإسرائيلية الأولى فحسمت الضربة الأولى الحرب.
ونام على خديعة الرئيس الأميركي جونسون له عبر دعوته إلى إرسال نائبه إلى واشنطن لإجراء محادثات عشية اندلاع الحرب، فاتصل بدمشق وقال للمسؤولين "حرب ما فيش، وهزأوا فيهم زي ما انتو عاوزين"، والنتيجة هزيمة مرة لمصر وسوريا والأردن وكل العرب، واحتلال إسرائيل لسيناء والجولان وغزة والضفة الغربية خلال ستة أيام، ولم يعش عبدالناصر طويلاً بعدها لتحضير الرد في حرب مقبلة.
وحسن نصرالله قاد "المقاومة الإسلامية" إلى تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 بدعم إيراني وسوري، وفي حرب 2006 التي بدأتها إسرائيل بعدما خطف "حزب الله" جنوداً للعدو خارج خط وقف النار، صمد في القتال أكثر من 30 يوماً، ثم صدر القرار 1701 من مجلس الأمن الذي قضى بنشر قوات "اليونيفل" المعززة والجيش اللبناني في الجنوب، فأعلن نصرالله "النصر الإلهي" ولو أنه قال بعدما رأى حساب الخسائر "لو كنت أعلم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما "حرب الإسناد" لغزة، فإنه بدأها في اليوم التالي لعملية "طوفان الأقصى"، وأعلن أنه لن يوقف الحرب على جبهة لبنان قبل وقف النار في غزة، لا بل أصر على ذلك حتى بعدما وسعت إسرائيل الحرب واغتالت القادة العسكريين في "حزب الله" وآلاف الكوادر قبل اغتيال السيد حسن وخليفته هاشم صفي الدين.
وانتهى الأمر إلى اتفاق على وقف الأعمال العدائية في إطار تطبيق القرار 1701 من دون ربط ذلك بوقف النار في غزة، ومع استمرار إسرائيل في الاعتداءات واغتيال الكوادر من دون أي مواجهة من "حزب الله"، ومن قبل "حرب الإسناد" انتظم نصرالله في حرب سوريا، وفي الحالين غلطة استراتيجية دفع ثمنها مع لبنان.
عبدالناصر لم يستطع التراجع عن الخطأ، فكانت نهاية زعامته عملياً من دون فقدان شعبيته، ونصرالله لم يرد التراجع عن الخطأ، فكان احتلال إسرائيل من جديد لأجزاء من لبنان، ثم قيام سلطة لبنانية جديدة قررت حصر السلاح بيد الدولة وسحب السلاح من "حزب الله" وكل التنظيمات الفلسطينية.
هذه حال قادة أقوياء مثل الرئيس حافظ الأسد ونجله بشار والرئيس صدام حسين والرئيس فلاديمير بوتين والرئيس أنور السادات وشاه إيران، والإمام الخميني وخليفته علي خامنئي والرئيس دونالد ترمب وسواهم من الذين تصرفوا كأنهم "أنصاف آلهة"، فلا أحد يستطيع مجادلتهم في أي قرار يتخذونه ولو كان الخطأ مدمراً خشية أن يدفع الثمن غالياً، فهم أقوياء لكنهم ليسوا أصحاب كاريزما، ولعل ذلك لا يهم معظمهم، وهم يفرضون سطوتهم بالقوة على مساعديهم قبل الناس.
ماوتسي تونغ كان ينظر في الماركسية وقاد أكبر حزب شيوعي إلى السلطة في الصين من دون أن يقرأ كتاب "الرأسمال" لكارل ماركس كما نقل عنه مولوتوف في مذكراته، وشي جينبينغ تلميذ بارع لمكيافيللي القائل للأمير "أن تكون مرهوباً أفضل من أن تكون محبوباً" كما رأى جان بيار كابستيان في كتاب "الصين غداً"، وبحسب كتاب "لعنة العمالقة" لأكاديمي أسترالي، فإن "ترمب نرجسي وبوتين سيكوباتي".
ويقول إيخمان في مذكراته تحت عنوان "آلهة مزيفة"، "كنت واحداً من عدة خيول تجر العربة ولا تستطيع الهرب يميناً أو شمالاً بسبب رغبة السائق".
وفي أيامه الأخيرة قال خروشوف لميكوبان "من كان يجرؤ على القول لستالين يجب أن تتقاعد، الآن صار الأمر ممكناً وهذا إنجازي"، أما دينغ شياو بينغ، فإنه على عكس القادة الذين يستمرون في الحكم حتى الموت، قرر التخلي عن كل مناصبه "قبل أن يصبح عقلي مشوشاً".
حتى في أميركا، فإن نائب الرئيس هو مجرد ديكور لا دور له إلا في الجنازات أو بانتظار موت الرئيس، ويروي توماس مارشال نائب الرئيس وودرو ويلسون قصة رمزية عن أخوين، واحد ركض في البحر وآخر صار نائباً للرئيس، ولم يعد أحد يسمع شيئاً عنهما"، ولا أحد يتوقع، خلافاً لترمب، أن يتراجع بوتين عن غلطته بغزو أوكرانيا والتسبب بعقوبات قاسية على روسيا.
و"ليست محظوظة البلدان التي تحتاج إلى أبطال"، كما قال المسرحي الألماني الكبير برتولد بريشت.