ملخص
"الأسبوع الرفيع" الذي يفترض أن يكون احتفاء بفلسفة الوحدة العالمية، كثيراً ما أصبح لبعضهم رمزاً للانحراف عن المسار الأصلي ومسرحاً للاستعراض والمزايدات، إلا أن هذا النمط من التوظيف لمنبر الأمم خلق جانباً من الكوميديا التي ظلت فاكهة المناسبة المشحونة بالسياسة والمتاعب، جعلت حتى من لا يهتمون بالخطاب الجدي الذي أقيم من أجله الأسبوع والمنظمة، تستهويهم ملاسنات الزعماء وأزياء القذافي وتنمر كاسترو وبذاءات تشافيز، وآخرين قبلهم وبعدهم.
في قلب نيويورك، حيث تتقاطع الدبلوماسية مع الدراما العالمية، يتحول أسبوع الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوي إلى مسرح يجمع قادة العالم تحت سقف واحد، معلناً عن أهداف المنظمة الأولى مثل السلام والتعاون وحقوق الإنسان.
لكن هذا "الأسبوع الرفيع" الذي يفترض أن يكون احتفاء بفلسفة الوحدة العالمية، كثيراً ما أصبح لبعضهم رمزاً للانحراف عن المسار الأصلي ومسرحاً للاستعراض والمزايدات، فضلاً عن الصراعات الجيوسياسية، فتتصادم المصالح ويكشف عن التناقضات. إلا أن هذا النمط من التوظيف لمنبر الأمم خلق جانباً من الكوميديا التي ظلت فاكهة المناسبة المشحونة بالسياسة والمتاعب، جعلت حتى من لا يهتمون بالخطاب الجدي الذي أقيم من أجله الأسبوع والمنظمة، تستهويهم ملاسنات الزعماء وأزياء القذافي وتنمر كاسترو وبذاءات تشافيز، وآخرين قبلهم وبعدهم.
ومن المفارقات التي لا تنتهي عن تلك المنصة أن أميركا التي أنشأتها في عقر دارها عام 1945، لتكون أداة للهيمنة الدبلوماسية، سرعان ما تحولت إلى مصدر إزعاج مستمر يقرعها ويوبخها، حتى كاد ذلك الضيق يخرج عن السيطرة أحياناً، ودفع ترمب أخيراً إلى هجائها في كلمته التي يفترض بها أن تكون تتسم بكرم الضيافة واحترام الوافدين إليها من كل الأرجاء. وهذه المفارقة الأبدية، تجعل نيويورك ليست عاصمة للعالم وحسب، بل ساحة للثورات الصغيرة والصراخ في وجه البيت الأبيض.
السيجار الكوبي أشهر السيف أولاً
كان فيدل كاسترو هو المؤسس الحقيقي لهذا النمط من الندية الجريئة الذي حول منبر الأمم المتحدة إلى ساحة هجاء للهيمنة الأميركية من داخل أميركا. ففي خطاباته الشهيرة خلال الستينيات والسبعينيات، وقف الزعيم الكوبي أمام الجمعية، يلوح بسيجاره الكوبي كسيف ثوري، ينتقد الإمبريالية بكلمات حادة تجمع بين الشعر والسخرية. كان الجار الأقرب للولايات المتحدة جغرافياً، لكنه الأضعف عسكرياً ومادياً، وإن استمد بعض قوته من الاتحاد السوفياتي الذي أراده شوكة في خاصرة عدوته اللدودة، كما تبرهن أكثر قصة "الصواريخ الكوبية" التي كادت تشعل المواجهات بين القطبين يومئذ.
ولم يتردد كاسترو في وصف أميركا بـ"الوحش الإمبريالي"، مطالباً بإصلاحات جذرية في المنظمة لتكون أكثر عدلاً. هذه الجرأة التي جعلت سيجاره رمزاً للتحدي أسست لتقليد لاتيني يستمر حتى اليوم، الضعيف يوبخ القوي، ليس من بعيد، بل من داخل جدران نيويورك، وحين نقمت عليه واشنطن ونفد صبرها لقاء مضايقاته على المنبر وخارجه، أرادت تصفيته وفق التقارير مرات عدة، بما في ذلك عبر خليلته ذات مرة، إلا أنه ظل نداً لها حتى هرم، ورحل في هدوء من دون سبب خارجي.
وحتى الآن لم يحطم زعيم رقم كاسترو القياسي بخطابه في دورة 1960 لأكثر من "أربع ساعات"، مما جعل الأمم المتحدة نفسها تسجله ضمن الأحداث اللافتة في أرشيفها.
الخطاب الأخير للقذافي
ثم جاء معمر القذافي ليضيف لمسة عربية ودرامية سينمائية إلى هذا التقليد، خلال خطابه الأيقوني أمام الجمعية العامة الـ64 عام 2009 الذي امتد لأكثر من ساعة و40 دقيقة، متجاوزاً الوقت المخصص بست مرات، في عرض يشبه فيلماً هوليوودياً لا ينسى.
وقف الزعيم الليبي أمام المنبر، ممسكاً بنسخة من ميثاق الأمم المتحدة، ومزق صفحاته علناً أمام أعين الجميع، معلناً رفضه للمنظمة كما هي. ووصف مجلس الأمن بـ"مجلس الإرهاب" بسبب حق الـ"فيتو" الذي يحميه الأعضاء الدائمون الخمسة، مطالباً بإصلاح جذري ينهي الهيمنة الغربية. كان هذا الفعل الرمزي الذي أثار صدمة الحاضرين وأثار جدلاً عالمياً، آخر عرض مسرحي وخطابي للقذافي أمام الجمعية، إذ قتل في سياق ما سمي "الربيع العربي" عام 2011 على يد ميليشيات على الأرض يساندها "الناتو" بقيادة أميركا التي بدا أنها وجدت فرصة مناسبة للانتقام من القذافي.
في سبتمبر (أيلول) الجاري، خلال دورة الجمعية الـ80، برز غوستافو بيترو كوريث طارئ لهذا المقعد اليساري الذي تعاقب عليه من قبله بمن فيهم زعماء جارته فنزويلا، ولا سيما هوغو تشافيز، محولاً الأسبوع الرفيع إلى لحظة توتر دبلوماسي، وسجال خطابي أثار اهتمام المولعين بهذا النفس الشعبوي.
الصقر الوارث في مواجهة ترمب
خلال خطابه الثلاثاء الماضي أمام الجمعية، ركز على غزة بوصفها "إبادة جماعية" يجب إيقافها فوراً، قائلاً "يجب على البشرية إيقاف الإبادة في غزة. لا يمكن السماح بيوم آخر من القتل، ولا يمكن لنتنياهو وحلفائه في الولايات المتحدة وأوروبا الهروب من العقاب". وانتقد الـ"فيتو" الأميركي الذي يحمي إسرائيل، مشيراً إلى أن "كل يوم يمر يعني مزيداً من الأطفال المقصوفين"، واقترح قوة مسلحة دولية قوية للدفاع عن الفلسطينيين، "بدلاً من خوذ زرقاء غير مدربة، نحتاج إلى جيش قوي من دول لا تقبل الإبادة، حان وقت السيف حرية أو موتاً، كما قال بوليفار".
وانتقل إلى سياسة المخدرات الأميركية، رابطاً إياها بالهيمنة، وذكر أن هجوماً جوياً لواشنطن في الكاريبي الكولومبي قتل 17 شاباً غير مسلحين، بعضهم كولومبيون، قائلاً "هل كان ضرورياً قتل الشباب الفقراء؟ هذه السياسة ليست لوقف الكوكايين إلى الولايات المتحدة، بل للسيطرة على شعوب الجنوب". وأبرز نجاح نهجه الداخلي الذي حقق مصادرة أكبر كميات كوكايين وتسليم 700 تاجر إلى الولايات المتحدة، لكنه عبر عن استيائه من إلغاء واشنطن لشهادة حكومته كشريك موثوق.
ولم يكتفِ بيترو بما كال لجارته من نقد، إذ قرر أن يقرنه بأفعال خارج القاعة الزجاجية، في ميدان داغ هامرشولد، حيث انضم الزعيم الكولومبي إلى آلاف المتظاهرين المؤيدين لفلسطين، ممسكاً ميكروفوناً يصرخ فيه "أطلب من جنود الجيش الأميركي عدم طاعة أوامر ترمب. لا ترفعوا أيديكم ضد الإنسانية!". واستذكر تضحيات الجنود ضد هتلر، مطالباً بتوجيه أسلحتهم نحو "الطغاة" بدلاً من المدنيين.
كما كانت حالات أخرى تبرز المفارقة اللاتينية بأعداء سياسة واشنطن الأكثر إزعاجاً في نيويورك ليسوا من الشرق الأوسط، بل من جيرانها الجنوبيين بدءاً بكاسترو إلى مادورو ولولا في البرازيل، مروراً بهذا الصقر الجديد. ومع ذلك، لم يكُن سعيد الحظ، إذ جاء في عصر ترمب الشعبوي الذي يرد على التحدي بالتنمر الفوري، لا بالحوار الدبلوماسي.
مقارنات بين ترمب وضيفه
لم يتأخر رد الإدارة الأميركية، إذ أعلنت وزارة الخارجية خلال ساعات إلغاء التأشيرة الدبلوماسية، متهمة الزعيم الكولومبي بـ"أفعال متهورة وتحريضية" تشكل "دعوة إلى العنف". وهكذا وجد ترمب الذي يبني جدراناً ضد المهاجرين اللاتينيين، نفسه يطرد رئيس دولة حليفة تاريخياً في مكافحة المخدرات، لمجرد أنه تجرأ على إحياء إرث سابقيه واستهلاك شعاراتهم المعروفة في شوارع نيويورك.
تفاعل الصحافة الأميركية مزج بين الدهشة والإحباط، إذ وصفت "نيويورك تايمز" الحادثة بالاصطدام بين "ترمب وبيترو" في سياق ملف ترحيل المهاجرين الذي تقف ضد تطبيقاته الترمبية، بينما ركزت "واشنطن بوست" على وصف الرئيس الكولومبي لترمب بـ"الشريك في الإبادة"، مشيرة إلى فاعلية نهج بيترو في المخدرات مقارنة بالطريقة التقليدية. وحذرت "سي أن أن" من أن الدعوة إلى عدم الطاعة قد تثير "انقلاباً داخلياً"، في إشارة إلى الانقسام الداخلي في أميركا.
في كولومبيا، انقسمت الصحافة بين الدفاع عن السيادة والسخرية من الإثارة الدولية، فنشرت "سيمانا" ردود البرلمان، إذ قال نائب "كولومبيا تستحق قائداً أفضل". وعلى "إكس"، انفجر الجدل، إذ غردت الصحافية فيكي دافيلا بسخرية "ذهب إلى نيويورك ووقف في الشارع يقول للجيش لا تطِع ترمب... يجب إدخاله مصحة"، بينما رد السياسي خوان مانويل غالان "ماذا لو جاء ترمب إلى بوغوتا ودعا إلى انقلاب ضدك؟". ولم تخلُ الردود من الجانب الداعم، فغرد كريغ مخيبر "بعد اقتراح قوة أممية لغزة، يلغون التأشيرة، إنه انتهاك صريح لالتزامات أميركا".
في النهاية، عاد الرئيس لبوغوتا على متن طائرته الرئاسية، محملاً بصور الطرد كوسام ثوري، فقد أعاد الجدل القديم لجذوته. وبدلاً من أن يحرج هذا النهج المنظمة الأممية بدا أنها سعيدة بعض الشيء به، على طريقة المثل العربي "لم آمر بها ولم تسؤني"، فقد نالت من جهتها نصيبها من النقد والتوبيخ الأميركي، مما جعل أي صوت ناقد لساكن البيت الأبيض بالنسبة إليها مقبولاً، بحسب ما يعتقد.
نقل الأمم المتحدة خارج أميركا!
ويوم رحل كاسترو عام 2016، استجابت المنظمة لدعوة البعثة الكوبية إلى الوقوف دقيقة صمت على روحه، مضيفة "بالنسبة إلى معظم الكوبيين، فيدل كاسترو لم يكن شخصية عالمية تعكس الثورة وحسب، بل كان وسيظل دائماً الرجل الذي استرد كرامتهم وقادهم إلى التقدم الاجتماعي والتنمية"، وأشارت إلى رسالة الأمين العام بان كي مون الذي قدم تعازيه إلى حكومة وشعب كوبا بوفاة كاسترو، مشيداً بقيادته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما بيترو، فرد لاحقاً على الموقف الأميركي وكتب على منصة "إكس"، "لم يعد لديّ تأشيرة سفر إلى الولايات المتحدة، لا يهمني ولا أحتاج إليها... لأنني لست مواطناً كولومبياً وحسب، بل مواطناً أوروبياً أيضاً، وأعتبر نفسي شخصاً حراً في هذا العالم"، مضيفاً أن إلغاء التأشيرة "بسبب التنديد بالإبادة الجماعية يظهر أن واشنطن لم تعُد تحترم القانون الدولي".
وأعربت وزارة الخارجية الكولومبية عن رفضها استخدام التأشيرات "سلاحاً دبلوماسياً"، معتبرة أن ذلك يتعارض مع روح الأمم المتحدة التي تحمي حرية التعبير، ودعت المنظمة الدولية إلى اختيار دولة مستضيفة محايدة.
ماذا تخفي الخطابات المسرحية؟
يفسر غوستاف لوبون ضمن كتابه "سيكولوجية الجماهير" رغبة الناس في سماع هذا النوع من الخطاب على رغم قناعة أكثرهم بقلة أهميته، بأن "الجماهير لا تفكر بمنطق، بل تتأثر بالصور والكلمات والشعارات"، مما يجيب عن كيف انجذبت جماعات واسعة إلى شخصيات مثل معمر القذافي الذي كان يقدم نفسه بخطاب شعاراتي ملون بالرمزية المسرحية. وفي السياق نفسه، يرى إريك هوفر في "المؤمن الصادق" أن الناس الذين يفتقرون إلى معنى لحياتهم "يصبحون أكثر استعداداً لتقديس قائد غريب الأطوار". أما جورج أورويل، فنبّه إلى أن "الجماهير قد تتقبل حتى أشد التناقضات ما دام أنها جاءت في صورة شعارات قوية أو وعود كبرى"، مما يظهر بوضوح في الطريقة التي ابتلعت بها الجماهير تناقضات خطاب القذافي بين الثورية والفوضوية.
ويضيف نعوم تشومسكي عبر تحليله لآليات الدعاية أنه "عندما تضخم صورة الزعيم الغريب الأطوار عبر الإعلام، يصبح أكثر من مجرد إنسان، يتحول إلى رمز يوظف لإبقاء الجماهير في حال افتتان وانشغال". ومن هنا يمكن فهم كيف أن غرابة الأطوار قد تصبح عنصراً وظيفياً وتسويقه جرى استثماره سياسياً عن وعي لإبقاء الجمهور مشدوداً، لتمرير الرسائل السياسية تحت غطاء الهزل والكوميديا السوداء.
وترى الصحف الغربية الرصينة مثل "ذا غارديان" البريطانية لدى تعليقها على خطاب القذافي المشار إليه سابقاً أن مثل هذه الاستعراضات لا تقتصر على توجيه رسائل سياسية وحسب، بل تستغل المناسبة الدولية لضمان الانتشار الإعلامي وترسيخ صورة الزعيم بطلاً عالمياً في أعين شعبه، عبر خطاب صادم ورمزي يكرس هالته كقائد استثنائي يتحدى النظام الدولي ويستحوذ على انتباه الإعلام والجماهير.
"سيد الأمم المتحدة"
ومع بروز القادة الشعبويين والاستعراضيين، إلا أن منبر الأمم المتحدة شهد منذ تأسيس المنظمة قبل 80 عاماً كثيراً من الخطباء المؤثرين بفضل قضاياهم العادلة وبراعتهم البيانية، ومن رجالات العرب كان من أبرزهم السفير جميل البارودي الذي وصفه الكاتب السعودي محمد السيف في كتابه عنه "سيد الأمم المتحدة"، بأنه نموذج فائق القدرة والصبر والمعرفة، بما جعل منه شخصية فريدة بين الدبلوماسيين. وقد التقى البارودي مبكراً بالملك فيصل بن عبدالعزيز الذي رآه الأقدر على حمل شعلة القضية الفلسطينية، مع ما يتطلبه المنصب من شجاعة وصدق وبلاغة، ليظل مندوباً دائماً لبلاده لعقود طويلة، محاطاً باحترام الزملاء والضيوف على حد سواء.
وعرف البارودي بخطبه الطويلة وقدرته على مواجهة مندوب إسرائيل بجرأة، حتى وصفه الكاتب سمير عطا الله بأنه "الرجل الذي يجعل المندوب الأميركي يتوتر والإسرائيلي يحتقن لأنه يحلل الأحداث ويستنكر ما يراه عدلاً أو ظلماً، حاملاً القضايا العربية وفلسطين على عاتقه". هذا المسيحي اللبناني رفع راية الإسلام والقضية العربية طوال حياته الدبلوماسية، كما يوثق مواطنه عطاالله، "وظل متمسكاً بها حتى يومه الأخير، وعاش وعمل ببساطة تامة في قاعة الأمم المتحدة وفنادق نيويورك حيث وافته المنية أيضاً".
وهكذا استحق البارودي أن يكون سيد الأمم المتحدة، في وقت كانت دول عربية وأفريقية عدة لم تزَل تحت الاستعمار، فكان الصوت المنافح عنها، موظفاً ثقل السعودية الذي يحمل في انتزاع التأييد وتسجيل مواقف، أصبح الجيل بعد الجيل يرويها. لكن البارودي هو الآخر لم يسلم الآخرين من حدته التي جعلتهم في المنظمة الدولية يهابونه، إلا أنه كان موهوباً، يفعل ذلك بثقافة وكياسة واقتدار، وهو الذي رثته المنظمة يوم رحيله بتأكيدها أن "بلاغته ومدخراته الواسعة من المعلومات جعلته منذ وقت طويل علامة مألوفة ومحبوبة في الأمم المتحدة".