ملخص
بين الفيلسوف القديم وشاشة التلقين الحديثة تعمل شركات العلاقات العامة كمهندس سمعة، تعيد تأطير الأزمات وتصمم اعتذارات محسوبة وترتب مبادرات رمزية. الأداة نفسها قادرة على تلميع ما هو غير نظيف. لكن في كل الأحوال فإن هذه الصناعة تبرز ما هو موجود في رجل السياسة ولا تخترع قائداً من فراغ.
لم يعد الزعيم أو القائد أو الرئيس هو رجل السياسة المناضل الذي يخوض غمار العمل الحزبي منذ شبابه ثم يصل إلى السلطة سواء بالانتخابات أو بالثورة والانقلاب أو بوراثة الحزب أو الزعيم الذي سبقه، بل بات عليه كي يصل إلى سدة الحكم أن يتدرب ويتمرن ويتعلم كثيراً من الأمور التي تصنع شخصيته وصورته أمام الجمهور والكاميرا، وتساعده على إبراز خطابه وتغييره بحسب الظروف، بطرق شبيهة بصناعة النجم السينمائي أو عارضة الأزياء أو لاعب كرة القدم الشهير.
هناك صفات مبدئية لا بد من توافرها في الزعيم المقبل، لكن هناك كثيراً مما يصقل تلك الصفات ويطورها ويجعلها ذات تأثير في الناخبين أو المحازبين أو الآخرين سواء كانوا أعداء أو أصدقاء. وباتت صناعة الزعماء مهنة تتكفل بها مؤسسات وشركات متخصصة، وفي غالب الأحيان تنجح هذه العمليات التحضيرية في إنتاج كاريزما وقدرة على الإلقاء واختيار العبارات المناسبة وارتداء أنواع معينة من الملابس بحسب المناسبات، والقيام بكل ما يتطلبه منه دوره الجديد والمهم والحساس المطلوب منه في الكواليس أو أمام كاميرات وسائل الإعلام على حد سواء، بشرط أن يبدو كل ما فيه "فطرياً" وكأنه من نبع شخصيته الأصلية والحقيقية.
القادة القدماء
لم يعلم فيلسوف اليونان أرسطو تلميذه الشاب الإسكندر المقدوني الذي سيجتاح العالم القديم البلاغة وحسب، بل زرع في رأسه خريطة لكل ما يجب أن يعرفه كحاكم قادم من الجغرافيا إلى الأسطورة ونظم الحكم وأخلاق الحرب والسلم. وحين خرج التلميذ من الدرس إلى الميدان، كان يعرف لماذا يفتح المدن وكيف يحكمها. ولم تكن تلك موهبة خاصة فحسب، بل نتيجة ورشة قيادة كاملة بعتاد فكري وعملي لصقل هذه الموهبة. وشارك أرسطو في مهمته مربون لغويون ومؤرخون ومدربو فروسية وأساتذة دبلوماسية.
خلال العصر الحديث ظهرت المدارس التي تنتج النخبة السياسية، ففي فرنسا تحولت مدرسة الإدارة الوطنية إلى مصنع لرجال الدولة، وفي الولايات المتحدة صقلت مدارس النخبة مثل "ويست بوينت" و"هارفرد" كوادر لملء مقاعد القرار. وفي بريطانيا تجمع "إيتون" و"ساندهيرست" النخبة في انضباط المؤسسة. وفي آسيا، من مدارس الحزب في الصين إلى كلية "لي كوان يو" في سنغافورة، تتربى طبقة سياسية على لغات الأرقام والسياسات العامة. هذه المسارات باهظة الكلفة ومحصورة في أبناء أصحاب النفوذ والأثرياء.
دخلت أدوات جديدة إلى ورشة صناعة السياسيين مثل المدربين الإعلاميين وكتاب الخطابات ومهندسي الصورة وأدوات التلقين الإلكتروني. هنا تتحول الجملة إلى نبضة عين، بدءاً من لوحات التلقين التي توضع أمام السياسي ليقرأ منها خطابه في زمن جون كينيدي الذي أعطى للنص المكتوب سحر الارتجال، إذ يقرأ ويظن المشاهد أنه يخاطبه وحده. ورفع باراك أوباما إيقاع الخطابة عبر وقفات صمت محسوبة تعمل كعلامات ترقيم، وعيون لا تفارق المشاهد وكأنه ينظر إليه من دون أن يلجأ إلى الورقة المكتوبة أمامه.
درس تشرشل
كانت "اندبندنت عربية" كشفت عن أن المنظمة البريطانية التي قدمت التأهيل والدعم السياسي للرئيس السوري أحمد الشرع تدعى "إنتر ميديت"، وهي منظمة غير حكومية متخصصة في الوساطة، ويقال إن هذه المنظمة لعبت دوراً في تأهيله سياسياً قبل أن يتبوأ موقع الرئاسة. وعرضت تقارير أخرى في الصحافة كواليس التحول، وأفادت بأنه خضع لمسار تدريبي طويل بدأ فعلياً عبر لقاءات مع جهات غربية، وأن هناك جهوداً استخدمتها أطراف دولية لصياغة صورته الجديدة، مثلاً يذكر أن السفير الأميركي السابق روبرت فورد تحدث عن لقاءات مع الشرع عام 2023 كجزء من هذا المسار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليس كل شيء شاشة، فقبل ذلك كان ونستون تشرشل حوَّل عقدة النطق عنده إلى إيقاع لا ينسى بعد تدريب عنيد على إخراج الكلمات وإلقائها. أما الرئيس رونالد ريغان فقد استعار من المسرح والسينما عدة الوقفة والابتسامة وتوزيع النظر. وصاغ نيلسون مانديلا ثقافته في محاكم القانون ثم في السجن الطويل، وكان خطابه الأخير حصيلة عمر من الانضباط الأخلاقي.
بين الفيلسوف القديم وشاشة التلقين الحديثة تعمل شركات العلاقات العامة كمهندس سمعة، تعيد تأطير الأزمات وتصمم اعتذارات محسوبة وترتب مبادرات رمزية. الأداة نفسها قادرة على تلميع ما هو غير نظيف. لكن في كل الأحوال فإن هذه الصناعة تبرز ما هو موجود في رجل السياسة ولا تخترع قائداً من فراغ.
الغاية الأولى هي بناء رسالة محورية قابلة للتكرار من دون أن تبدو مكرورة وتضم عناوين ذات قيم واضحة، ثم يُضبط إيقاع نبرة الإلقاء ووقفات الصمت المحسوبة والتنفس الذي يهدئ الإيقاع الداخلي، والتواصل البصري الذي يوزع على القاعة. ويأتي الإخراج البصري من الخلفية والإضاءة لإبراز الملامح، واللباس الذي يكمل الرسالة.
خلف هذه السلسلة يقف فريق صغير بمهام محددة، أولهم كاتب خطاب يترجم الرؤية إلى جمل تقال بلا عسر، ومدرب الأداء الذي يضبط توزيع النظر تحت الضغط، ومدير الاتصال الذي يشرف على اتساق الرسائل خلال الأيام العادية ويقود غرفة العمليات في الظروف والأوقات الاضطرارية، وفريق الإخراج والتقنية الذي يضمن أن المشهد يخدم الفكرة. كل وظيفة هنا ليست زينة مضافة، بل تعد جزءاً من ماكينة واحدة لا تعمل إن غابت إحدى قطعها.
الورشة الناجحة تنتج ثلاثة أمور أساس، أولها اتساق يجعل الناس يعرفون ما يُقال ولماذا، والثبات في الأداء، وقابلية قياس تسمح بالتعلم المستمر. لهذا، فإن وراء كل دقيقة يظهر فيها الزعيم أمام الجمهور والكاميرات ليلقي خطابه ساعات من العمل وراء الكواليس.
جذور الحرفة
في بدايات القرن الـ20 ظهر آيفي لي ليرسم قاعدة بدائية وبسيطة هي "قل الحقيقة، أو في الأقل اقترب منها بما يكفي". "إعلان المبادئ" الذي صاغه لم يكن بياناً أخلاقياً بقدر ما كان اعترافاً عملياً بأن صمت المسؤول حين يجب أن يتكلم يغذي الشك بين الناس.
بعده جاء إدوارد برنيز ابن مدرسة التحليل النفسي ليضيف على الخريطة ممراً إلى اللاوعي الجمعي، أي إن الجماهير لا تُدار بالمنطق وحده، بل بالإيحاء والتأطير والرمز. وبين لي وبرنيز ترسخت الحرفة، "لا تكذب، بل أعد بناء المشهد. لا تدر ظهرك للعاصفة، بل أدر خطابك بحيث تمر الريح".
وحين نصل إلى فنون القول، يبدأ الصوت في القيام بعمله الحقيقي، رفع النبرة عند الكلمات التي تريدها أن تلمع، خفضها عندما تشرح، وإتاحة مساحة قصيرة للصمت كي تسقط الجملة في مكانها الصحيح.
المرآة كانت أداة قديمة. قيل إن خطباء القرن الماضي تدربوا أمامها ليختبروا وضعيات تمنح الهيبة. واليوم تقوم الكاميرا بالدور ذاته ولكن بصرامة أعلى، تريك كيف يقرأك الجمهور، وتمنحك فرصة تعديل زاوية الرأس قبل أن يثبت الجمهور زاويته عنك.
كيف يدار الكلام؟
ليس التلقين الإلكتروني شاشة تتلو كلمات فحسب، بل منظومة إقناع دقيقة تعيد ترتيب علاقة القائد بالجمهور. حين يقف أمام عدسة لا ترحم يمده التلقين بخريطة سير للخطاب، أين ترفع النبرة، متى يُستدعى الصمت، وكيف يُبنى الجسر إذا انحرف السياق. وبهذه الهندسة غير المرئية يبدو الكلام حياً ومباشراً.
القيمة الأولى للتلقين أنه يحول الخطاب المكتوب إلى ما يشبه الارتجال. وتبقى العين على خط الجمهور أو العدسة، لا على الأوراق. وتصاغ الجمل خصيصاً لعين التلقين، أي قصيرة الإيقاع، قابلة لأن تحمل نبرة تصعد عند كلمة مفتاحية ثم تهبط لتفسح للصمت دوره. هكذا يصبح النص محادثة لا تلاوة. ويحافظ التلقين على خط التواصل البصري. توضع الشاشتان الزجاجيتان بزاوية تحاكي خط النظر الطبيعي، فيوزع المتحدث عينيه بينهما وبين الصفوف البعيدة والقريبة للجمهور الحاضر. ويضبط التلقين إيقاع الجمل بحيث يصل المتحدث إلى النقطة الأخيرة قبل انتهاء الزمن، لا بعده. هكذا تصان هيبة الوقت من دون التضحية بنضج العبارة. ثم إن الأداة لا تصنع كاريزما من عدم، أقصى ما تفعله أنها تمنع الكاريزما من التعثر.
التلقين والهندسة البصرية يرفعان جودة التواصل عندما يكون هناك ما يستحق أن يُقال. فإذا طلب منهما اختراع مضمون هش انكشف الأمر عند أول سؤال صحافي أو إعادة بث بطيئة. على سبيل المثال في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة اضطر الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى القراءة من الورق (Binder) عندما توقف التلقين، وعلق بأنه ربما "التكلم من دون التلقين أفضل لأنك تتحدث من القلب". وحينها لم تعمل شاشات التلقين في بداية الخطاب، فابتدأ ترمب بالقول "التلقين لا يعمل"، وأضاف ممازحاً أن "من يشغل هذا التلقين سيكون في ورطة كبيرة".