ملخص
منذ إعلان استقلال فلسطين عام 1988، تتواصل المعركة الدبلوماسية لحشد الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية. وأخيراً اعترفت دول كبرى بينها بريطانيا وفرنسا وأستراليا، ما رفع العدد إلى أكثر من 155 دولة.
هذه الاعترافات منحت فلسطين شرعية سياسية ورمزية أوسع، لكنها لم تغيّر ميزان القوى على الأرض، فيما الخبراء منقسمون بين من يراها خطوة نحو مسار سلام وضغط على إسرائيل، ومن يعدها رمزية بلا أثر عملي.
منذ إعلان استقلال دولة فلسطين عام 1988 في الجزائر، حيث أطلق زعيم "منظمة التحرير الفلسطينية" الراحل ياسر عرفات من جانب واحد قيام دولة فلسطينية مستقلة، لم تهدأ المعركة الدبلوماسية الفلسطينية على الساحة الدولية. موجات متتالية من الاعتراف الرسمي انهالت من دول العالم، وشكلت على مدى عقود رصيداً سياسياً ومعنوياً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
لكن هذه الاعترافات لم تكن متزامنة ولا متساوية، بل جاءت على صورة محطات متقطعة، تتأثر بالتحولات الإقليمية وبمزاج السياسة الدولية وبحسابات المصالح بين الدول الكبرى.
اليوم، وبعد مرور نحو أربعة عقود على ذلك الإعلان، يعود ملف الاعتراف بدولة فلسطين للواجهة بقوة، مع توالي خطوات مماثلة قامت بها دول عدة، على رأسها فرنسا وبريطانيا، مما يفتح الباب أمام أسئلة ملحة، هل نحن أمام موجة جديدة يمكن أن تغير ميزان الشرعية الدولية؟ أم أن هذه الاعترافات تبقى رمزية أكثر مما هي عملية؟ وأي أثر لها على المشهد الفلسطيني الداخلي أو لناحية الضغط على إسرائيل؟
من هي الدول التي اعترفت أخيراً بدولة فلسطين؟
كما كان متوقعاً، وكما صرح مسؤولوها خلال الأسابيع الماضية، أعلنت كل من بريطانيا وفرنسا وأستراليا ومالطا والبرتغال ولوكسمبورغ وبلجيكا وأندورا وموناكو الاعتراف رسمياً بدولة فلسطين، ليرتفع عدد الدول المعترفة إلى أكثر من 155 دولة من أصل 193 عضواً في الأمم المتحدة، وفق تقارير صحافية، فيما تضم القائمة روسيا والدول العربية وكل دول أفريقيا وأميركا اللاتينية تقريباً، والغالبية العظمى من الدول الآسيوية، بما فيها الهند والصين.
أكثر من ذلك أعادت الحكومة البريطانية رسم خرائطها لمنطقة الشرق الأوسط، وأضافت للمرة الأولى اسم "دولة فلسطين" عليها، ويكتسب إعلان المملكة المتحدة هذا بصورة خاصة أهمية تاريخية لأنها الدولة التي خرج منها "وعد بلفور" الشهير، نسبة لوزير خارجيتها آرثر بلفور عام 1917، القاضي بإقامة دولة إسرائيلية في المنطقة.
في المقابل، بقيت دول أوروبية كبرى مثل ألمانيا وإيطاليا متحفظة على هذه الخطوة، إذ تربط برلين الاعتراف بدولة فلسطينية بتحقيق اتفاق سياسي نهائي قائم على "حل الدولتين"، على رغم تصاعد انتقاداتها لإسرائيل أخيراً، فيما قالت إيطاليا إن الاعتراف الفوري بدولة فلسطين قد يؤدي إلى نتائج غير محسوبة.
أما الرد الإسرائيلي على موجة الاعتراف، فلم يتأخر وأتى سريعاً على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي توعد بأن "دولة فلسطين لن تقوم"، بينما ذهب وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش إلى القول إن "الرد الوحيد على الاعترافات بدولة فلسطين هو الضم الفوري" للضفة الغربية.
وصرّح وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بأن واشنطن نبهت دولاً عدة إلى أن الاعتراف بدولة فلسطين قد يفاقم الصراع.
القيمة السياسية والرمزية للاعتراف بدولة فلسطين
في قراءة أولية لرمزية هذا الاعتراف، لا يختلف اثنان على أنه عزز شرعية الدولة الفلسطينية على الساحة الدولية ومنحها مكانة قانونية ورمزية أكبر لا يمكن تجاهلها بسهولة، وأتى كأنه رد على محاولات إسرائيل نزع الشرعية عن الوجود الفلسطيني، مما يعطي دفعة مباشرة للهوية الوطنية الفلسطينية في المحافل العالمية ويترجم كدعم سياسي قوي، ناهيك عن أن هذا الواقع الجديد الذي قد يشهد اعترافات أخرى خلال الفترة المقبلة، يقوي الموقف التفاوضي الفلسطيني، فيتحول الطرف الفلسطيني من "كيان" إلى "دولة معترف بها" تطالب بحقوقها.
الأبعاد العملية والحدود الواقعية
في المقابل، برزت تساؤلات كثيرة عن الأثر القانوني والدبلوماسي لهذا القرار، وما إذا كان سيمكن فلسطين من الانضمام إلى هيئات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، مما يفتح ربما المجال لمساءلة إسرائيل قانونياً.
لكن الاعتراف بحد ذاته لا يغير ميزان القوى على الأرض ولا يوقف الاستيطان أو الاحتلال العسكري، أقله في الوقت الراهن، كما أنه لا يفرض التزامات مباشرة على الدول المعترفة لتقديم حماية أو فرض عقوبات على إسرائيل.
ووسط المقاربتين، بين أولى قائلة إن التأثير سيكون كبيراً لو لم يترجم عملياً في المرحلة الراهنة، وثانية تؤكد أن ليس هناك أثر عملي لهذه الاعترافات، تبرز رؤية ثالثة تعتبر أن ما يحدث من موجات الاعتراف وسيلة ضغط سياسية، ستتحول إلى أداة ضغط على إسرائيل لدفعها للجلوس إلى طاولة المفاوضات أو لتقديم تنازلات، وفي حال تراكم هذه الاعترافات ووصلت إلى كتلة حرجة من الدول، ستتحول بلا شك من مجرد "ضغط" إلى واقع دبلوماسي يصعب تجاهله.
عودة لمسار السلام الدولي في الشرق الأوسط
في السياق، يعتبر الباحث الفلسطيني هشام دبسي أن أهمية موجة الاعترافات الجديدة "المفصلية" أنها جاءت من أقرب الدول الراعية والحامية لدولة إسرائيل منذ تأسيسها بموجب القرار 181 مثل بريطانيا وكندا وأستراليا، ناهيك عن أنها الدول العاملة عن قرب مع واشنطن في إدارة الملفات الدولية، وعليه تشكل هذه الاعترافات رافعة جديدة تحث واشنطن وتل أبيب على وقف حرب الإبادة وإنهاء القتل والتهجير القسري وعمليات ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وتهويد مدينة القدس الشرقية.
وتابع أنه "يمكن القول إنها خريطة طريق دولية لتنفيذ حل سلمي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ولا يمكن لأصحاب القرار في واشنطن أن يتجاهلوها، وبات حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني واجباً أممياً لا يمكن أيضاً لحكومة إسرائيل نقضه، وما حصل هو عودة لمسار السلام الدولي في الشرق الأوسط، وما حصل سيحول الحال القائمة في الشرق الأوسط من الحال المتفجرة إلى الحال التي يمكن أن تنتج سلاماً للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي".
ورداً على الكلام القائل إن كل هذه الاعترافات ستبقى كلامية من دون أثر عملي، أوضح دبسي أن الأمر ليس مجرد موقف عابر على المستوى الدولي، بل مع خطوات أخرى، فإن المسار سيفضي إلى نتائج إيجابية ولن يبقى مجرد مسار ضاغط.
في المقابل يقدم الباحث والصحافي إياد أبو شقرا مقاربة مختلفة لهذه الاعترافات، ويضعها في خانة "إراحة" بعض الحكومات المعنية من الإحراج ليس إلا، وقال "مواقف بريطانيا وألمانيا بالذات لم تكن مشرفة، خصوصاً أنها لا تلوح بإجراءات عملية ضد إسرائيل كوقف بيع الأسلحة والتعاون الأمني"، معتبراً أن المطلوب "إنقاذ المريض لا أن تنجح العملية... ويموت بعدها".
بدوره يعتبر الباحث والكاتب رامي الريس أن هذه الاعترافات ومهما بلغ عددها سبتقى من دون تأثير إن لم تترافق مع خطوات جادة من قبل الدول المعنية، على أن تشمل هذه الخطوات فرض عقوبات على إسرائيل.
وفي السياق تناقلت وسائل إعلام خبراً مفاده بأن إسبانيا أعلنت حظراً كاملاً على تصدير وشراء الأسلحة والتكنولوجيا والمعدات العسكرية مع إسرائيل.
كيف يفسر رجال القانون "الاعتراف" بدولة ما؟
يؤكد حقوقيون أن فلسطين استوفت بالفعل جميع الشروط القانونية والسياسية لتكون دولة، وحصلت عام 2012 على اعتراف دولي كدولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة (لا يحق لها التصويت). لكن على رغم هذا الواقع، يبقى أن أميركا ستلجأ إلى حق النقض (فيتو) ضد أي قرار لإعطاء فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة، مما يحرم الفلسطينيين من حق طبيعي ودولي في الاستقلال.
يجيب أستاذ القانون الدولي والتنظيم الدولي في جامعة القاهرة الدكتور إبراهيم سيف منشاوي عن سؤال "ما تفسير هذه الاعترافات في عالم القانون؟"، بالقول إنها خطوة أساسية نحو تجسيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، في ظل معاناته أزمة إنسانية غير مسبوقة. ويتوافق، أيضاً، مع الدعوات الصريحة التي أطلقتها منظمات دولية متعددة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، على أساس أن الاعتراف لا يمثل خطوة رمزية وحسب، بل يشكل أداة قانونية وسياسية أساسية لدعم "حل الدولتين" وتعزيز فرص التسوية السلمية العادلة للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف أن الاعتراف بفلسطين له مكاسب عدة، إذ سيرسخ حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وهو الحق الذي أكدت عليه مواثيق الأمم المتحدة المختلفة وكثير من القرارات الأممية بوصفه قاعدة آمرة في القانون الدولي، وسيعزز من قدرة فلسطين على الانضمام إلى مزيد من المعاهدات والاتفاقات الدولية، وسيضمن إثارة مسؤولية إسرائيل عن الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فقد سبق وانضمت فلسطين إلى الاتفاقات الخاصة بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان كاتفاقات لاهاي وجنيف، واتفاقة منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948. كما انضمت إلى منظمات مثل "يونيسكو" ومنظمة الجمارك العالمية.
ويقول منشاوي "سيضع الاعتراف فلسطين، من الناحية النظرية والقانونية، على قدم المساواة مع الدول الأخرى في العلاقات الدبلوماسية، ويقلل من علاقات التبعية التي يفرضها الاحتلال، مما يشكل في حد ذاته تطبيقاً لنصوص ميثاق الأمم المتحدة. كما يخلق الاعتراف الدولي المتزايد ضغطاً سياسياً ودبلوماسياً على إسرائيل لإنهاء الاحتلال والتزام القانون الدولي. ومن الممكن أن يدفع الدول التي لم تعترف بعد بفلسطين إلى إعادة تقييم مواقفها، مما يعضد بصورة متزايدة من مسألة ’حل الدولتين‘. كما سيعطي لفلسطين وزناً أكبر لها في المنظمات الدولية المختلفة".
ويختم "يمكن أيضاً أن تلجأ الدول الداعمة لفلسطين إلى ممارسة الضغط من خلال الهيئات الدولية أو من خلال فرض جزاءات بصورة انفرادية أو جماعية، كوسيلة ردع لإجبار إسرائيل على إعادة النظر في سياساتها. وبدأت بعض الدول بتبني هذا الإجراء بالفعل مثل بعض دول الجنوب العالمي كبوليفيا وكولومبيا وإندونيسيا وماليزيا وناميبيا وجنوب أفريقيا التي وقعت على بيان ختامي صادر عن مؤتمر مجموعة لاهاي لدعم فلسطين في يوليو (تموز) الماضي، فرضت بموجبه تدابير عليها من بينها وقف تصدير الأسلحة ومنع السفن المحملة بالأسلحة من المرور عبر موانئها، فضلاً عن تعليق بعض الدول الأوروبية توريد الأسلحة، أو تراخيص التصدير لإسرائيل، ومن بين هذه الدول فرنسا وإسبانيا والمملكة المتحدة".
لا قيمة لهذه الاعترافات
من واشنطن، يقرأ المستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية حازم الغبرا التطورات الأخيرة، معتبراً أنه لن تكون هناك أية قيمة لهذه الاعترافات لأنه في نهاية المطاف لن تحل المشكلات بمجرد اعتراف "شفوي"، بخاصة المشكلات مع إرهاب حركة "حماس" وفساد السلطة الفلسطينية، والاعترافات الدولية سبتقى حبراً على ورق، فيما المطلوب عمل دولي جاد. ويسأل "من سيكون الراعي لعملية الانتقال نحو دولة فلسطينية، فأوروبا لا تستطيع تحمل العبء السياسي والمادي لدولة تعاني هذا الكم من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية".
ويردف أن "ليس هناك أي تصور أميركي أن ما طرح سيقدم أي تغيير او حلول ملموسة، بل ما كان سيقدم شيئاً إيجابياً هو صفقة القرن التي كان من شأنها إيصال ما يقارب 50 مليار دولار إلى الشعب الفلسطيني، وأي اقتصاد ناجح تبنى حوله بيئة سياسية ناجحة، لكن للأسف بعضهم يفضل هذه الاعترافات غير الملزمة وغير الناجعة ويرفض الحلول المنطقية".
وقال الغبرا "لا أعتقد بأن هذه وسيلة ضغط ناجحة على إسرائيل التي لم تغير توجهها في الحرب حتى... وهذا غير مجدٍ وغير ناجح".
يبقى أن الاعترافات ليست مجرد رمزية ولا مجرد وسيلة ضغط، بل لها قيمة سياسية وقانونية تراكمية تبقي القضية الفلسطينية حاضرة على أجندة العالم، وتفتح أمام الفلسطينيين قنوات جديدة للتحرك الدبلوماسي والقانوني. لكنها، وحدها، لا تكفي لإنهاء الاحتلال ما لم تترافق مع إرادة دولية فاعلة وإجراءات عملية تلزم إسرائيل تغيير سلوكها.