Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هدايا وادي السيليكون لترمب... قنابل موقوتة تهدد الديمقراطية

تصاعد نفوذ نخبة التكنولوجيا المحافظة وتحالفها مع الرئيس الأميركي، يثير مخاوف جدية في شأن تضارب المصالح والأخطار التي قد تهدد المجتمع والديمقراطية

عمالقة التكنولوجيا: (من اليسار) مارك زوكربيرغ، لورين سانشيز وزوجها جيف بيزوس مؤسس "أمازون، والرئيس التنفيذي لشركة "سبيس إكس" إيلون ماسك يحضرون حفلة تنصيب ترمب في الـ20 من يناير (أ ف ب/غيتي)

ملخص

التأثير المتزايد لرواد التكنولوجيا المحافظين والمقربين من دونالد ترمب يستدعي الحذر، لأن تحالفهم مع السلطة السياسية يهدد الديمقراطية من خلال سيطرتهم على المعلومات وتوجيههم للرأي العام عبر الخوارزميات والذكاء الاصطناعي.

قبل ست سنوات، وقبل أن يبدأ مليارات البشر باللجوء إلى روبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي للحصول على إجابات سريعة وشبه شاملة في مختلف جوانب الحياة، من اقتراحات للسفر وقضاء العطلات إلى الاستشارات القانونية والعلاج النفسي، ظهر الملياردير بيتر ثيل، المولود في ألمانيا، والداعم للرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأحد أبرز وجوه وادي السيليكون، ضيفاً على "بودكاست" أميركي.

طرح المذيع روس دوثات، المفكر المحافظ الذي كان يعتريه قلق من أن عمالقة التكنولوجيا بدأوا يتبوؤون دوراً ثقافياً مهيمناً، يكاد يرقى إلى ما يشبه الدور الديني، سؤالاً على ثيل: "أنت تفضل أن يستمر الجنس البشري، أليس كذلك؟".

تردد ثيل في تقديم إجابة سريعة ومرت خمس ثوان كاملة، علماً أنها تعتبر فترة طويلة في سياق محادثة من هذا النوع، قبل أن تخرج كلماته متقطعة: "لا أدري. أنا، أنا… أعتقد… نعم".

وينظر أحياناً إلى هذا التردد، الذي بدا على ثيل، في شأن ما إذا كان البشر أصلاً نوعاً قابلاً للاستمرار، بوصفه تعبيراً عن حيرة فلسفية حيال ما تعنيه مفردة "البقاء" في هذا السياق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن غالباً ما ينظر إلى هذا التردد، بكونه إشارة تحذير مبكرة على أن "رجال وادي السيليكون" - أو "مهووسي الحاسوب" كما كان يطلق عليهم في حقبة زمنية أقل تعقيداً وأكثر براءة - أكثر ألفة مع اليقينيات الثنائية، المتوقعة، والقابلة للضبط، والمستمدة من عالم الهندسة والآلات [أي عالم الآلات والحواسيب]، مما هم مع الكائنات البشرية من لحم ودم، المترددة، وذات المزاج المتقلب، والنزقة التي تحكمها الأهواء، والبطيئة الفهم، كما معظمنا نحن البشر.

الأسبوع الماضي، استقبلت لندن، خلال الولائم والعروض الجوية التي نظمها ملك البلاد ورئيس الوزراء، أكثر البشر تردداً، وتقلباً، ونزقاً: الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية. رافقت ترمب في مأدبة الدولة الرسمية مجموعة من أبرز شخصيات عالم التكنولوجيا، من بينهم: سام ألتمان (الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أي آي")، وجنسن هوانغ (الرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك لشركة "إنفيديا")، وتيم كوك (الرئيس التنفيذي الحالي لشركة "أبل")، وديميس هاسابيس (الرئيس التنفيذي لشركة "ديب مايند" DeepMind التابعة لـ"غوغل")، وساتيا ناديلا (رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت")، الذي قال في تصريح إلى هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" صباح يوم المأدبة الملكية في بريطانيا، بأنه لم يحسم رأيه بعد في البزة التي سيرتديها في هذه المناسبة. ربما يخطر في بالك أن في وسعه ببساطة اللجوء إلى "كوبايلوت" Copilot، المساعد الذكي إنما المزعج بعض الشيء من "مايكروسوفت"، ليعينه في قراره.

جاءت هذه المجموعة من "رجال وادي السيليكون" محملة بهدايا قيمتها 31 مليار جنيه استرليني عبر ما يعرف بـ"اتفاق الازدهار التكنولوجي" (Tech Prosperity Deal)، الذي يحظى بإشادة واسعة لتوفيره استثمارات ووظائف في مجالات الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والطاقة النووية المدنية. ولا ريب أن لدى هؤلاء أسبابهم، ربما تدني أجور العمال في بريطانيا، للانتقال إلى البلاد في وقت تغادر أسواقها المحلية صناعات عدة، من بينها صناعة الأدوية. أو ربما ظنوا أن هذه الخطوة ستصب في صالحهم، أثناء سعيهم إلى الحصول على حوافز ضريبية أفضل.

وربما كان الهدف إرضاء ترمب، الذي يكن تقديراً خاصاً للمملكة المتحدة، ويصر على أنه "صديق" لكل من الملك تشارلز ورئيس الوزراء السير كير ستارمر. الصفقات المعروضة، مثل إنشاء مركز بيانات ضخم للذكاء الاصطناعي في بلدة لوتون في إسيكس، تتمثل في معظمها في وعود والتزامات ممتدة على سنوات عدة، مما يعني أن حكومة ستارمر ستجد نفسها مضطرة إلى توخي الحذر في التعامل مع ترمب خلال السنوات المقبلة، حتى موعد المباشرة بتنفيذ الأعمال على الأرض.

على مدى مئات الأجيال، ظل "رجال الأفعال" [بعكس رجال وادي السيليكون]، الذين لا يجلسون على العرش ويحكمون، بل يصنعون الإنجازات ويحققونها، يحومون حول الملوك والساسة، ساعين إلى التأثير في السياسات، سواء بدافع تحقيق مصالحهم الشخصية، أو انطلاقاً من رؤيتهم لما يرونه خيراً للمجتمع. الكهنة، والجنود، ورجال الأعمال، والصناعيون كانوا دوماً حاضرين إلى جانب كل زعيم، بدءاً بهنري الثامن [ملك إنجلترا حكم بين عامي 1509-1547 وفي عهده انفصلت إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية]، وصولاً إلى أدولف هتلر.

ومع ذلك، كثيراً ما يكون أداء هؤلاء الأشخاص كارثياً عندما يتولون السلطة فعلياً. ثمة استثناءات، مثل العمدة مايكل بلومبيرغ في نيويورك، لكن الآخرين، بدءاً بسيلفيو برلسكوني [رئيس وزراء إيطاليا السابق وأحد كبار رجال الأعمال والإعلام فيها]، مروراً بضباط الجيش اليوناني [الذين استولوا على الحكم بانقلاب عسكري عام 1967 وحكموا البلاد بقبضة أمنية حتى عام 1974]، وصولاً إلى ترمب، يذكروننا بأننا على رغم شكوانا من هيمنة المحامين [والخلفيات القانونية] على الحكم والسياسة، بيد أن هؤلاء بارعون إلى حد ما في الحكم وإدارة الأمور. فبعكس الأثرياء وأصحاب النفوذ، والجنود، ورجال الدين، وغيرهم، يتمتع المحامون بفهم وتعاطف مع تعقيدات النفس البشرية وهشاشتها. بل إن معظمهم دافعوا، في وقت ما، عن أضعف أفراد المجتمع.

ولكن ثمة جانبين جديدين تماماً ويبعثان على قلق شديد في العلاقة المتنامية بين البيت الأبيض، وبعض النافذين في وادي السيليكون المعروفين بقربهم وتأثيرهم الخفي في ترمب.

أولاً، صدر التحذير عن [السياسي البريطاني] نيك كليغ، الذي أشار إلى أن المبالغ المتداولة في الوقت الراهن، على رغم أنها تبدو ضخمة، لا تمثل في واقع الأمر سوى "فتات" من مائدة وادي السيليكون، مما يعادل، في أحسن الأحوال، مركز بيانات تابعاً لشركة "ميتا" في ولاية لويزيانا. وتتفاقم خطورة المشهد عند التمعن في حجم الأخطار الفعلية. وفي مقابلة معه ضمن برنامج "توداي" [يذاع على "بي بي سي"]، حذر كليغ، الذي شغل حتى وقت قريب منصب رئيس الشؤون العالمية في "ميتا"، من أن هذه الجهود لا تجدي نفعاً إذا ما بقيت ملكية التكنولوجيا والخبرة في مجال الذكاء الاصطناعي حكراً على الولايات المتحدة.

قال كليغ "أرى ببساطة أن من الضروري وضع الأمور في نصابها، وسط كل هذه الضجة التي تثيرها الحكومة وشركات التكنولوجيا في مثل هذه اللحظات، لا سيما في ظل واقع لن نتمكن فيه أبداً من منافسة الصين والولايات المتحدة على صعيد البنية التحتية. إضافة إلى أننا لن ننجح أبداً في تطوير نماذجنا الأساسية الرائدة، تلك التي تمثل الركيزة الأولى لصناعة الذكاء الاصطناعي".

ثانياً، ثمة قلق حقيقي يحيط بالتكنولوجيا قيد التطوير، على رغم من كونها، في معظمها، مبهرة وتسهم في تحسين ظروف الحياة، لما تنطوي عليه من أثر عميق في طريقة رؤيتنا للعالم وأساليب تفكيرنا. وربما يقال إن رجال وادي السيليكون اليوم يفوقون، في تأثيرهم، كل النخب التي جاورت السلطة عبر التاريخ. فقد سعى الكهنة يوماً إلى إخضاع الشعوب عبر خرافات ماورائية ممزوجة بالعنف، وتحول التجار العالميون إلى أدوات لاستعمار وحشي يفوق كل تصور، وأسهم الصناعيون في دعم آلة النازيين العسكرية وبرامجهم الإجرامية للإبادة، فيما سخر أباطرة الإعلام صحفهم ومحطاتهم لبث أفكار سياسية ملوثة ومشوهة.

ولكن ما الذي يشغل المراهقين طوال يومهم في سنواتهم الأكثر حساسية وتشكيلاً لشخصيتهم، وهم يزرعون بواكيرهـا ويصوغون آراء ستلازمهم مدى الحياة؟ وما الذي يغذي عقول البالغين المنغمسين في قلب اللانهائي للمنشورات على الشاشات، إن لم تكن معلومات وآراء توجهها الخوارزميات، كثير منها ينتج تلقائياً عبر روبوتات ذكية، وتضخه أبرز الشخصيات المقربة والنافذة في دائرة الرئيس ترمب؟

المقلق حقاً أن تزرع في أذهان الشباب أفكار تنبع في الغالب من مصادر مشبوهة، قبل أن يعزلوا في فقاعات رقمية مفصلة على مقاسهم، إذ تتحول الآراء ووسائل الترفيه والمحتوى الذي يستهويهم إلى المادة الوحيدة التي يتعرضون لها.

لكن ما يبعث على قلق أكبر التوجه الأيديولوجي لدى عرابي التكنولوجيا الذين شيدوا هذا العالم الرقمي، فعمالقة التكنولوجيا هؤلاء ينتمون في معظمهم إلى معسكر المحافظين المتشددين. قد لا يظهرون دائماً بمظهر الرجال المسلحين المتحمسين، ولكن كثيرين منهم يجسدون نخبوية وادي السيليكون ذات النزعة الليبرتارية [تدعو إلى الحد الأدنى من تدخل الدولة، وتعظيم حرية الفرد في جميع مجالات الحياة]، وينخرطون بوضوح في صفوف اليمين المتطرف.

نادراً ما نجد شخصية تحمل آراء تقدمية معتدلة، نعم، بيل غيتس فاعل خير استثنائي قدم الكثير للعالم النامي، حتى أن توجهه هذا جعله هدفاً للكراهية لدى بعضهم. نعم، جاك دورسي، الشريك المؤسس لـ"تويتر"، مول قضايا تقدمية، ودعم جهود مكافحة العنصرية، كذلك تبرع لعدد من عمد المدن الذين يبحثون في برامج الدخل الأساسي المضمون [برامج تمنح المواطنين مبلغاً ثابتاً من المال بصورة دورية، يضمن لهم حداً أدنى من المعيشة بغض النظر عن وضعهم الوظيفي أو دخلهم]. ونعم، تيم كوك، وعلى رغم ما يقال عن ارتباطه بمعسكر ترمب، يسعى إلى أن تبقى شركة "أبل" متماهية مع حقوق الإنسان، والاستدامة، وحماية خصوصية المستهلكين.

ومع ذلك، ثمة شريحة واسعة من قادة التكنولوجيا الأقوياء تدفع بعالمنا نحو ما قد يسميه المؤرخون يوماً "الظلمة الكبرى في أوائل القرن الـ21". على سبيل المثال، أحد أبرز الداعمين الماليين للمدان المعروف بتكرار مخالفاته، تومي روبنسون، يدعى روبرت شيلمان، مهندس يبلغ من العمر 79 سنة، وتلقى تدريبه في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، وقد جنى ثروته في مجال تكنولوجيا الرؤية الآلية [تقنية تمكن الآلات من "الرؤية" وتحليل المعلومات البصرية من بيئتها لاتخاذ قرارات آلية] وأنظمة الاستشعار. وكلا، كما حالكم، لم يسبق لي أن سمعت به أيضاً.

منذ انطلاق عصر الحواسيب، وأنا أراقب عن كثب ما يمكن تسميته بـ"العينة النادرة من العباقرة المهووسين"، وكنت أخشى لسنوات أن يأتي يوم يتمكن فيه هؤلاء التقنيون، بطريقة ما، من إزاحة ليبراليين من أمثالي، المائلين إلى اليسار والمؤمنين بسيادة القانون، والاستيلاء على السلطة السياسية. وقد تبين أن "الوسيلة" كانت الإنترنت، أما "اليوم الموعود" فقد حل قبل نحو 10 سنوات، حين بدأت موجة الشعبوية تكتسب زخماً عالمياً.

في عام 2016، كتبت مقالة في صحيفة "فاينانشال تايمز" أعبر فيها عن خوفي من سيكولوجية الشخصية لدى مليارديرات التكنولوجيا، وكيف يمكن أن تجعلهم لاعبين كارثيين في ميدان السياسة. وكان ذلك قبل وقت طويل من أن يبدأ إيلون ماسك بالتأثير في المكتب البيضاوي والسياسات الآنية، فضلاً عن المزاج السياسي العام.

رويت في مقالتي كيف كانت أول مواجهة لي مع الشخصية المتطرفة لرواد التكنولوجيا، عندما وصفت الراحل كلايف سينكلير، مبتكر الدراجة الكهربائية الفاشلة "سي 5" C5 عام 1985، وأحد أعضاء جمعية "منسا" Mensa المرموقة للأذكياء، بأنه ذكي إنما قليل الحيلة.

رن هاتفي في اليوم التالي، صاح سينكلير بصوت مرتفع، مطلقاً سيلاً من الشتائم، ثم توقف وأضاف "على أية حال، يجب أن نتناول الغداء معاً".

في الحقيقة، لم نتناول الغداء معاً أبداً، ولكن منذ ذلك الحين أصبح وجود شخصيات رقمية مسيطرة ذات سمات غريبة أو متطرفة مشهداً مألوفاً. كتبت: "خذ ستيف جوبز [مؤسس مشارك لشركة "أبل" وأحد رواد صناعة الحواسيب والهواتف الذكية] مثلاً (بطبعه العصبي الحاد، إذ يتجول حافي القدمين في شوارع مدينة بالو ألتو)، وبيتر ثيل مؤسس خدمة الدفع عبر الإنترنت "باي بال" PayPal (الذي أسهم في إفلاس موقع إلكتروني، لأنه كشف عن ميوله المثلية)، وإيلون ماسك (الذي يعتقد أن الواقع قد يكون محاكاة حاسوبية أنشأتها كائنات متفوقة).

ختمت بالقول: "أسياد وادي السيليكون متلهفون بالفعل لإعادة صياغة السياسات العامة، لذا أخشى أن يكون الرئيس المقبل للولايات المتحدة من وادي السيليكون، ويعد بإصدار نسخة محدثة 2.0 [كما في التطبيقات والأنظمة الذكية...] من الحياة السياسية. ورباه، ستكون كارثية".

بعد تسع سنوات، نملك الآن أمثلة واقعية على كيفية هيمنة خبراء التكنولوجيا على المشهد السياسي اليوم. والغريب أنهم من أقل الناس فهماً لطبيعة السياسة، إذ يظنون أن فرض التغيير على البشر يتحقق بنوبات غضب أو قرارات انفعالية، بينما الواقع يقول إن السياسة في جوهرها فن تحويل صراعات السياسات العامة إلى تقدم ملموس ببراعة تكاد تبدو سحرية.

بطبيعة الحال، يفضل خبراء التكنولوجيا الحلول المنظمة والمرتبة، وليس الفوضى المعقدة والمتشابكة للديمقراطية. وفي كتابه الصادر عام 2013 بعنوان "لإنقاذ كل شيء، اضغط هنا" To Save Everything, Click Here، صاغ فيلسوف التكنولوجيا يفغيني موروزوف مصطلح "الحلولية" أو "السوليوشونيزم"solutionism  لوصف الاعتقاد بأن التكنولوجيا قادرة على إيجاد حلول لجميع المشكلات. ويقول موروزوف: "مع امتلاك وادي السيليكون مطارق رقمية [أدوات رقمية]، تبدو كل المشكلات كما لو أنها مسامير، وكل الحلول كتطبيقات رقمية". قد يبدو الأمر هزلياً، لكن بعض العاملين في هذا القطاع طرحوا فكرة "الواقع المنقوص" diminished reality - عبر نظارات ذكية تخفي المشاهد غير المرغوب فيها، مثل الفقراء أو المساكن المتداعية.

صحيح أن الفكرة السابقة ربما تبدو مجرد مزحة طريفة، بيد أن التأثير اليومي الذي يمارسه عمالقة التكنولوجيا هؤلاء في صياغة واقعنا وحياتنا ينطوي على جانب جاد ومهم. ويتمثل أحد أبرز أساليبهم في تشكيل مجرى النقاشات على الإنترنت والتحكم في المعلومات المتداولة، وعلى رغم ندرة البيانات الدقيقة حول نشاط الروبوتات على وسائل التواصل الاجتماعي في بريطانيا، تشير أبحاث حديثة واتجاهات عالمية إلى أن هذه الروبوتات المدعومة بالذكاء الاصطناعي تؤدي دوراً فاعلاً في توجيه النقاشات الرقمية، خصوصاً في ما يتعلق بالتأثير السياسي وانتشار المعلومات المضللة.

بغية قياس مدى انتشار الروبوتات خلال فترة الانتخابات في المملكة المتحدة، تقصت المنظمة الدولية غير الحكومية "غلوبال ويتنس" Global Witness في 10 حسابات رقمية يشتبه بأنها آلية على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، ووجدت أنها نشرت أكثر من 60 ألف منشور، بمعدل يتراوح بين 200 إلى أكثر من 500 منشور يومياً، وقدرت المنظمة أن هذه المنشورات قد حظيت بعدد مهول من المشاهدات يصل حتى 150 مليون مرة.

في بيئة تسيطر عليها الخوارزميات، يمكن للمعلومات المضللة أن تنتشر بسهولة وتزداد قوة وتأثيراً بفعل قادة التكنولوجيا المتحكمين في مقاليد هذه الأدوات. وهذا قبل أن نأخذ في الاعتبار عالم الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق، إذ من العسير التمييز بين الحقيقة والزيف في عالم تتراجع فيه قيمة الحقيقة تدريجاً، أو حيث يعتمد تصديق المعلومات على هوية الجهة أو المصدر الذي ينقلها.

وتجاهر صناعة التكنولوجيا بمعارضتها الحاسمة لصياغة قوانين تنظيمية صارمة تسهم في الحد من انتشار هذه المعلومات المضللة، وغالباً ما يسوق لهذا الموقف تحت شعار الدفاع عن حرية التعبير، غير أن بعض المبادئ الأساسية التي تتبناها هذه الصناعة تتعارض بصورة مباشرة مع المبادئ الديمقراطية.

وكي نفهم السبب الذي دفع ماسك إلى إلقاء خطاب في تجمع "وحدة المملكة" الذي نظمه الناشط البريطاني اليميني المتطرف تومي روبنسون من أسبوعين، ربما علينا أن نلقي نظرة على عائلة والدته. تحولت ماي ماسك من مؤيدة للحزب الديمقراطي إلى مناصرة متحمسة لترمب، بينما كان والدها الكندي أي جد إيلون ماسك مؤيداً متحمساً للفصل العنصري ولحركة "التكنوقراطية"، التي تدعو إلى حكم يقتصر على نخبة من خبراء تقنيين غير منتخبين.

كان التكنوقراطيون يرتدون زياً رمادياً ويحيون بعضهم بعضاً بتحية عسكرية صارمة، وقد تفسر معتقدات جد ماسك جزئياً توجهات ماسك، الذي لم يكتف بريادة صناعة السيارات الكهربائية، بل خاطب أنصار روبنسون داعياً إلى "حل البرلمان" و"تغيير الحكومة" في بريطانيا.

وعلى رغم أن ماسك لم يصرح مباشرة بأن الديمقراطية منهارة أو أن الناس سيكونون أفضل حالاً تحت حكم تكنوقراطي، بيد أن كثيراً من تصريحاته الأخيرة المثيرة للجدل تكشف عن ميول واضحة نحو نماذج حكم تضع الكفاءة والخبرة التكنولوجية في المقام الأول.

في وقت سابق من العام الحالي، تناول باحثان من "جامعة دورهام" مثل هذه التساؤلات من منظور تحليل نفسي في مقالة علمية بعنوان "المؤسس كضحية، المؤسس كإله" Founder as Victim, Founder as God، إذ ركزا على كل من ثيل وماسك.

قال الباحثان إن رواد التكنولوجيا، من أمثال ثيل وماسك، يرون أنفسهم مؤسسين أبطالاً ورؤيويين يسعون إلى إنقاذ المجتمع، وفي الوقت نفسه ضحايا مضطهدين مهددين من النظام القائم الذي يسعون إلى تغييره.

أخشى حقاً أن يصبح مهووسو الكمبيوتر الطامعون في السلطة بعد 20 أو 30 عاماً أقوياء وخطرين إلى حد يجعل دونالد ترمب يبدو في المستقبل وكأنه شخصية بريئة ومحبوبة، مقارنة بهم.

 

جوناثان مارغوليس مؤلف كتاب "تاريخ موجز للمستقبل" A Brief History of Tomorrow الصادر عام 2000

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات