ملخص
الأكثر إثارة في هذه الوثيقة إشارة القائم بالأعمال الكويتي إلى أن قبائل بكيل اليمنية، وهي أكبر اتحاد قبلي تاريخي في اليمن، عرضت عليه، بشكل غير رسمي، إرسال نحو ألفي مقاتل مسلح للدفاع عن الكويت في حال واجهت رداً عراقياً على عمليات التحالف.
بعد الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس (آب) 1990، تبنّى اليمن موقفاً مؤيداً للعراق، وهو ما ترتب عليه فرض مقاطعة خليجية واضحة عليها. وقد انعكس هذا الموقف مباشرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، إذ بدأت الجاليات اليمنية بالعودة من دول مجلس التعاون، خصوصاً من الكويت التي تكبّدت خسائر جسيمة نتيجة الاحتلال العراقي وتحريرها لاحقاً عام 1991. وأدت عودة المغتربين وتوقف الاستثمارات الخليجية إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية في اليمن، في وقت كانت البلاد تعيش خلافات سياسية متصاعدة بين شريكي الوحدة اليمنية، الشمال والجنوب بعد توحيدهما في مايو (أيار) 1990.
في ضوء ما كشفته وثائق وزارة الخارجية البريطانية التي رُفِع عنها الطابع السري أخيراً، يتضح أن مرحلة مبكرة من تسعينيات القرن الماضي شهدت تحركات دبلوماسية يمنية جادة لإعادة بناء جسور التواصل مع دول مجلس التعاون الخليجي، بدءاً بدولة الكويت.
اعتذار صريح ومأزق صنعاء
إحدى الوثائق هي برقية دبلوماسية بريطانية مؤرخة في 24 يناير (كانون الثاني) 1993 تقدم صورة دقيقة عن أجواء التوتر التي ظلت تهيمن على العلاقات اليمنية- الكويتية بعد حرب الخليج الثانية. فقد أجرى دبلوماسي بريطاني في صنعاء لقاءً مع القائم بالأعمال الكويتي، الذي أوضح بجلاء أن حكومته لا ترى مجالاً قريباً لتحسين العلاقات مع اليمن، وأن أي تقارب مرهون باعتذار يمني صريح عن الموقف الذي تبنته صنعاء إبان أزمة الخليج.
إذ إن شركات المقاولات الكويتية التي شرعت عام 1990 في بناء مبنى السفارة الكويتية الجديد في صنعاء، كانت قد باشرت أخيراً بإلغاء عقودها مع المقاولين المحليين، في إشارة واضحة إلى فتور العلاقات. أما الدبلوماسي البريطاني فعلق بأن الاعتذار أمر غير وارد بالنسبة للحكومة اليمنية، بل يكاد يكون "مستحيلاً" لأي إدارة لاحقة، لأن صنعاء لم ترَ في موقفها دعماً مباشراً للعراق بقدر ما كان محاولة لتجنب الانحياز العلني.
على إثر الغزو العراقي للكويت، عارض الرئيس الراحل علي عبدالله صالح "جلب قوات أجنبية لتحرير الكويت" في موقف جرت قراءته في سياق العلاقة الخاصة التي تجمعه بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين ترجع بعض المراجع أهداف هذا التحالف إلى سعي صالح لخلق توازن ثقل لمصلحته في العلاقة بدول الجوار وبالشركاء اليمنيين الجنوبيين تحديداً، من دون أن يضع اعتباراً لمصالح الشعب اليمني على رغم أن مناصريه يقولون إن صالح لا يحمل موقفاً ضد دولة الكويت، "فهو عارض الغزو العراقي ولكنه لم يوافق على جلب قوات أجنبية في الوقت نفسه"، ولكن دول الخليج رأت فيه تأييداً للغزو نتج منه إلغاء كافة الامتيازات التي كانت ممنوحة لملايين اليمنيين ما تسبب في عودتهم لبلادهم وإضافة عبء اقتصادي وآثار اجتماعية كبيرة.
عرض غير رسمي للقتال دفاعاً عن الكويت
تضيف البرقية أن وزارة الخارجية اليمنية، حين تسلمت من الجانب الكويتي أدلة على خروقات عراقية جديدة للحدود، اختارت التعبير عن "الأسف" لما وقع من دون أن تصل إلى مستوى الإدانة الصريحة لبغداد، مؤكدة أنها لن تكرر "أخطاء الدعاية" التي وقعت فيها في السابق.
الأكثر إثارة في هذه الوثيقة إشارة القائم بالأعمال الكويتي إلى أن قبائل بكيل اليمنية، وهي أكبر اتحاد قبلي تاريخي في اليمن، عرضت عليه، بشكل غير رسمي، إرسال نحو ألفي مقاتل مسلح للدفاع عن الكويت في حال واجهت رداً عراقياً على عمليات التحالف. وهو ما يعكس تبايناً بين الموقف الرسمي اليمني الحذر، والتحركات القبلية التي حاولت إظهار دعم مباشر للكويت.
تُبرز هذه البرقية بوضوح أن جدار الشكوك وانعدام الثقة بين الكويت واليمن في تلك المرحلة كان لا يزال عالياً، وأن مطلب "الاعتذار" ظل بمثابة العقبة الأكبر أمام أي تقارب. كذلك تكشف كيف حاولت صنعاء الموازنة بين الحفاظ على استقلال موقفها وعدم خسارة علاقتها التاريخية مع العراق، وفي الوقت ذاته السعي ـ تدريجاً ـ نحو تحسين صلاتها مع دول الخليج، في مسار صعب ومعقد.
زيارة "البيض" إلى عُمان وفتور إماراتي
تكشف برقية دبلوماسية بريطانية مؤرخة في 18 أبريل (نيسان) 1993، صادرة من صنعاء إلى وزارة الخارجية في لندن، عن محاولات القيادة اليمنية إعادة بناء الثقة مع جيرانها الخليجيين. فقد روى جاسم العقربي، أحد أعضاء الوفد اليمني المرافق للأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني ونائب الرئيس آنذاك علي سالم البيض خلال زيارته إلى سلطنة عُمان، أن الزيارة كانت ناجحة للغاية. وأكد أن اللقاء مع السلطان قابوس أسهم في إعادة ترسيخ مصداقية اليمن لدى مسقط وفتح آفاقاً جديدة للتعاون بين البلدين.
غير أن العقبة الأبرز تمثلت في اعتذار الشيخ زايد آل نهيان عن استقبال البيض في أبو ظبي مباشرة بعد الزيارة العمانية، مبرراً ذلك بأن التوقيت غير مناسب، لا سيما بعد زيارة سابقة قام بها عبد الكريم الإرياني. ووفق ما نقله العقربي، فقد كان الشيخ زايد من أكثر الزعماء الخليجيين غضباً من موقف اليمن إبان حرب الخليج الثانية".
تبرز هذه الوثيقة أن جهود اليمن لإعادة بناء جسور الثقة مع الخليج لم تكن موحّدة النتائج، ففي الوقت الذي لقيت فيه صنعاء تجاوباً إيجابياً من سلطنة عُمان، ظلّت علاقاتها مع الإمارات في تلك المرحلة أسيرة التوتر والإحباط الناجمين عن موقفها خلال أزمة الخليج.
تجدر الإشارة إلى أن نائب الرئيس اليمني علي البيض كان له موقف مخالف لما انتهجه الرئيس علي عبدالله صالح بشأن حرب الخليج وأعلن في مناسبات عدة وقوفه ومعه الحزب الاشتراكي إلى جانب دولة الكويت ضد الغزو.
بداية ذوبان الجليد بين صنعاء والكويت
توضح برقية دبلوماسية بريطانية مرسلة من الكويت إلى وزارة الخارجية في لندن بتاريخ 8 يونيو (حزيران) 1993 أن هناك مؤشرات على تحسن العلاقات بين اليمن والكويت، بل واحتمال حدوث تقارب مع بعض الدول العربية الأخرى التي كانت تُوصف آنذاك بـ "المعارضة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البرقية تنقل مضمون مقابلة أجراها وزير الخارجية اليمني محمد سالم باسندوة مع صحيفة "Arab Times" الناطقة بالإنجليزية في 3 يونيو. في تلك المقابلة، أكد باسندوة أن اليمن يسعى إلى إصلاح علاقاته مع الكويت ودول مجلس التعاون، وأنه مستعد للمصالحة. كذلك شدد على أن موقف اليمن خلال حرب الخليج "أُسيء فهمه"، نافياً أن تكون بلاده قد دعمت العراق أو وقفت ضد الكويت. وأوضح أن اختياره وزيراً للخارجية جاء لقدرته على الاستفادة من علاقاته الوثيقة مع "المثقفين والساسة الكويتيين"، ولا سيما وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد.
الرد الكويتي جاء سريعاً وإيجابياً. فقد صرّح الشيخ صباح للصحافة عند مغادرته لحضور اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون في 7 يونيو بأنه مسرور بتصريحات الشيخباسندوة، واصفاً إياه بـ"الصديق"، ومؤكداً أنه سعيد لسماع أن اليمن يعيد النظر في موقفه. وأشار إلى أن مجلس الوزراء الكويتي ناقش تلك التصريحات، وأن الحكومة رحّبت رسمياً بها. ونقلت مصادر حكومية أن الكويت بصدد اعتماد سياسة أكثر إيجابية تجاه بعض الدول العربية التي كانت قد وقفت إلى جانب العراق خلال الأزمة.
وفي تعليقها، تؤكد البرقية أن الكويت لطالما أصرت على أن ما يسمى "دول المعارضة" يجب أن تقدم اعتذاراً علنياً عن مواقفها إبان الاحتلال العراقي. لكنها تضيف أن شخصية باسندوة وتصريحاته قد تفتح الباب فعلياً أمام تطبيع العلاقات بين البلدين.
بين مطرقة العراق وسندان الخليج
وثيقة أخرى، صادرة من صنعاء بتاريخ 10 يونيو من عام 1993، تكشف عن بعد مكمّل للصورة التي رسمتها برقية الكويت. ففي برقية دبلوماسية بريطانية أُرسلت من العاصمة اليمنية، جرى التطرق إلى مقابلة وزير الخارجية محمد سالم باسندوة مع صحيفة "السياسة" الكويتية، إذ أكد أن مستقبل اليمن لن يكون مستقراً ولا مزدهراً ما لم يُبنَ على أساس علاقات متينة مع دول مجلس التعاون الخليجي، مضيفاً أن مرحلة حرب الخليج وما رافقها من خلافات "ينبغي اعتبارها قد انتهت".
غير أن ردود الفعل اليمنية الداخلية عكست هشاشة المشهد السياسي والإعلامي في صنعاء. فالصحف المستقلة تعاملت مع المقابلة بقراءات متباينة؛ بعضها رأى في تصريحات باسندوة خطوة جريئة تمهّد لإعادة إدماج اليمن في محيطه الخليجي، بينما اعتبرتها صحف أخرى "تنازلاً غير مبرر" قد يُفقد اليمن ما تبقى من أوراقه الإقليمية. وفي المقابل، امتنعت الصحافة الرسمية، التي تعكس عادة موقف السلطة، عن أي ذكر للمقابلة، وهو ما يشي بوجود حسابات دقيقة وحساسية بالغة تجاه الموضوع.
وتلفت الرسالة إلى أن هذا التجاهل الرسمي لم يكن مجرد صدفة، بل مؤشر على مأزق حقيقي يواجه القيادة اليمنية آنذاك. فمن جهة، كانت الحكومة تسعى بجدية إلى استعادة الدعم المالي والتنموي الخليجي الذي تضاءل بشدة بعد أزمة الخليج، ومن جهة أخرى لم يكن بوسعها التفريط بعلاقتها مع العراق، التي ظلت تمثل ثقلاً سياسياً وإقليمياً لا يمكن تجاوزه بسهولة. هذا التردد وضع صنعاء في موقف معقد، أشبه بالسير على حبل مشدود بين ضغوط الخارج وحساسيات الداخل.
ومع ذلك، اعتبرت الوثيقة أن في بروز باسندوة على هذا النحو المبكر– بعد أسابيع فقط من توليه منصبه– إشارة إلى وجود تيار يمني جديد يسعى للانفتاح على الخليج، وربما إعادة صياغة السياسة الخارجية اليمنية بما يخفف من إرث حرب الخليج ويؤسس لمرحلة أكثر توافقاً مع بيئة الجوار.
رد فعل اليمن على الهجوم الأميركي
في 28 يونيو 1993، أبلغت السفارة البريطانية في صنعاء وزارة الخارجية البريطانية وواشنطن بموقف اليمن تجاه الهجوم الأميركي على مقر المخابرات العراقية.
أوضحت المذكرة أن لا توجد تصريحات شعبية أو تظاهرات عامة تدين الهجوم الأميركي على العراق، بينما كانت التعليقات في وسائل الإعلام الرسمية اليمنية متحيزة نسبياً.
في بيان أصدرته وزارة الخارجية اليمنية بتاريخ 27 يونيو، أعربت الحكومة عن أسفها واستنكارها لما وصفته بـ"التطور السلبي الذي يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة وأسفر عن وفاة وإصابة مدنيين عزل وبريئين". وأكدت الوزارة أن اليمن ترى أن النزاعات بين الدول يجب أن تُحل بوسائل سلمية غير استخدام القوة، وأن مثل هذا التصرف لا يسهم في الحفاظ على الاستقرار والأمن الإقليمي.
أضافت المذكرة أن التغطية الإعلامية الرسمية، سواء عبر التلفزيون أو الإذاعة أو الصحف، استندت إلى مصادر دولية وكانت متوازنة نسبياً. ولم يكن الحادث الموضوع الأبرز في الإعلام الرسمي، ولم تُكتب أي مقالات افتتاحية حوله.
كذلك أشارت المذكرة إلى عدم وجود تظاهرات عامة مؤيدة للعراق، وأن السكان اليمنيين أبدوا تعباً من القضايا المتعلقة بالعراق. ومع ذلك، نصحت السفارة البريطانية موظفيها وأسرهم وموظفي المجلس الثقافي البريطاني والمنظمات غير الحكومية بالبقاء في حالة تيقظ إضافي، لكنها لم تعتمد إجراءات وقائية واسعة النطاق مشابهة لتلك التي اتبعتها الولايات المتحدة. وتمت مشاركة المعلومات مع نظراء السفارات الأوروبية، الذين تبنوا نفس نهج التحذير من دون إصدار إشعارات قنصلية رسمية.
تعليق المذكرة أشار إلى أن تصريح وزارة الخارجية اليمنية كان متحفظاً إلى أقصى حد ممكن، نظراً لعلاقات اليمن مع العراق، وأن التعليقات التحريرية تعكس محاولة اليمن الموازنة بين الاهتمام الدولي ومتطلبات الرأي العام المحلي.