ملخص
صحيح أن الفيلم الذي حققه ستيفن سبيلبرغ عن رواية البريطاني ج. ج. بالارد "إمبراطورية الشمس"، لم يحمل ذلك الخوف أو أية نظرة مستقبلية، لكن الفيلم الذي سيحققه دافيد كروننبرغ عن روايته التالية "اصطدام" أرعب المتفرجين
حتى وإن كانت روايته التي ستضحي الأكثر شهرة بين أعماله والمعنونة "إمبراطورية الشمس"، مكتوبة انطلاقاً من سيرته الذاتية وإن ضمن حدود، فإن أدب البريطاني ج. ج. بالارد يحسب دائماً في خانة أدب الخيال العلمي، حتى وإن كان زميله الذي كان حينها أوسع شهرة منه بكثير توماس ديتش، قد أفتى في مجال تعليقه في عام 1969 على روايته "معرض الفظائع" قائلاً إن "بالارد قد أوجد للخيال العلمي موضوعاً جديداً هو الحاضر في سمته المستقبلية".
صحيح أن هذا القول أتى يومها مزدحماً بقدر كبير من التناقض، لكن أهميته تنبع من أن أدب الخيال العلمي كان حتى ذلك الحين أدباً مستقبلياً لا علاقة له بالحاضر. وكان بالارد في توجهه يستبق بسنوات قليلة زميله ومواطنه أنطوني بارغيس الذي شاركه في توجهه، وكذلك في عمل السينمائيين باكراً على تحويل نصوصه إلى أفلام كان من سماتها الرئيسة أنها نقلت خوف البشر مما سيحدث في المستقبل إلى خشية مما يحدث الآن.
صحيح على أية حال أن الفيلم الذي حققه ستيفن سبيلبرغ عن "إمبراطورية الشمس"، لم يحمل لا ذلك الخوف ولا أية نظرة مستقبلية، لكن الفيلم الذي سيحققه دافيد كروننبرغ عن روايته التالية "اصطدام" أرعب المتفرجين، ولو عبر فكرته التي تجمع بين الأجساد البشرية وحديد السيارات المحطمة بفعل اصطدامات قاتلة وتترك لدى من لا تقتلهم أجساداً محطمة تعيش تالي أيامها منكبة على علاقات جنسية لها علاقة مباشرة بهياكل السيارات المهشمة.
بين الفظائع واللغة
وقد ضاعفت السينما، ولو بذينك الفيلمين وحدهما، شهرة بالارد مرات عديدة، غير أن بداية الإحساس العام لدى قرائه بالرعب أمام نصوصه، تواكب مع صدور كتابه "معرض الفظائع" تحديداً، وهو الكتاب الذي يعتبر حتى اليوم مرجعية أساسية في الإشارة الواضحة إلى أن كل "الفظاعات" التي نعيشها اليوم وتحديداً منذ بدايات الألفية الجديدة، إنما كانت بداياتها في العقد الستيني من القرن الـ20، العقد الذي ظل بالارد حتى آخر أيامه يتساءل عما إذا كان من الملائم حقاً الاحتفال به واعتباره بالفعل عصراً ذهبياً في تاريخ البشرية.
ولم يكن ذلك لأنه كان يكرهه، بل تحديداً، لأنه رأى أفضل مما فعل الآخرون، كيف أنه كان على رغم بعض ملامحه الزاهية يسير بنا إلى التفاهة الجماعية التي نعيشها اليوم.
ومع ذلك لا بد أن نتذكر أن بالارد المولود في عام 1930 رحل عن عالمنا في عام 2009، من دون أن يقيض له حقاً أن يدرك كثيراً مما يحدث اليوم على أية حال. بل إنه هو نفسه، حين سئل قبل رحيله بشهور عما حفزه على رسم تلك الصورة البائسة الفظيعة لما سموه "مستقبل الأيام الحاضرة"، مستخدماً تعبيراً مليئاً بالدلالة هو "قواعد اللغة التغييرية"، قال بكل بساطة إنه تعبير وجده في نص علمي لغوي لنعوم تشومسكي استعاره منه من دون أن يحاول أن يفهمه حقاً.
هل كان صادقاً أو مخادعاً في قوله هذا؟ لا يهم. المهم أن كتاب "معرض الفظائع" كان كتاباً من نوع شديد الخصوصية، بل إن مؤلفه نفسه وصفه بأنه "مجموعة روايات مكثفة في سياق واحد"، حتى وإن كان وافق ناشره الإنجليزي على تعريفه بأنه نص ينتمي إلى نوع الخيال العلمي من دون أن يكون كذلك.
فالحقيقة أن بالارد تعمد في هذه النصوص أن ينسف الحدود بين الأنواع، وهو أمر، إذا كان القراء الإنجليز قد استقبلوه بقدر كبير من الترحاب ولا سيما على المستوى اللغوي، فإن الناشرالأميركي المعروف "دابلداي" ارتعب حين قرأ محرروه النص وأخبروه ببعض محتوياته اللغوية، فأصر حتى بعدما كانت ألوف النسخ قد طبعت من الكتاب، على حظر توزيعه وإحراق النسخ!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لغة غير مقبولة
ففي أميركا في ذلك الحين لم يكن بعد من الممكن القبول بنص يحمل في ثناياه عبارات مثل "لماذا أتوق لأن أضاجع رونالد ريغان"، أو "لعل في إمكاننا النظر إلى جريمة اغتيال جون كنيدي نظرتنا إلى سباق سيارات يجري على الطريق الساحلي".
باختصار كانت "تجديدات" بالارد في هذا الكتاب صادمة حقاً، ولعل خير برهان على ذلك قبول الكاتب المشاكس المنتمي إلى جيل البيتنيكس ويليام بوروز كتابة تقديم تقريبي وترحيبي له في وقت كانت أميركا تحب أن تتجاهله. غير أن الذي حدث هو أن أميركا عادت بعد 30 سنة وحتى قبل أن يرحل بالارد بأكثر من 10 سنوات، تصدر الكتاب بطبعة جديدة، كما هو، بل تزيد عليه حلقتين جديدتين وكمية لا بأس بها من العبارات الأكثر استفزازية، ففي الحيز الزمني الذي مر بين صدور "معرض الفظائع" للمرة الأولى، وصدوره للمرة الثانية، كان كل شيء قد تبدل وتحديداً بالاتجاه الذي توقعه بالارد تماماً.
بل لنقل، استناداً إلى بالارد نفسه، بالاتجاه الذي ينسبه إلى نعوم تشومسكي، نافياً عن ذلك الاتجاه كونه خيالاً علمياً، واصفاً إياه بأنه "الواقع الحاضر الذي يرعبنا أن نصدق أننا نعيش فيه حقاً". (ولعل هذا يعيدنا اليوم، على سبيل المثال، لما يمكن رصده وقراءته من حوارات وتغريدات وآراء على شاشات هواتفنا المحمولة ليلاً نهاراً بصورة ستبدو معها اللغة التي أرعبت دار "دابلداي" لعبة أطفال، غير أن هذا موضوع آخر بالطبع).
المهم في الأمر هنا أن بالارد لم يكن يتنبأ ولا كان ينجم، كان يستشرف مستقبلاً يرتسم أمام ناظريه بكل وضوح، وها هي الأيام تثبت أنه كان على حق، ولكن من أين جاءته تلك القدرة على استشراف ذلك المستقبل؟
البداية مع اغتيال كينيدي
لعل أغرب ما في الأمر ما قاله بالارد حين طرح عليه هذا السؤال، فهو قال ببساطة إن سنوات الـ60 بدت بالنسبة إليه حاملة ثورة اجتماعية وسيكولوجية جوهرية، ثورة قد تبديه اليوم عصر إمكانات ضاعت تحت تأثير الإعلام، ولا سيما التلفزيون معطوف على الحمى الاستهلاكية التي أصابت من هم دون الـ30 من العمر من الذين كانوا وحدهم من خلق ثقافة جديدة: ثقافة الموسيقى البوب، والمخدرات والبسيكديلية، والأزياء بوصفها وسيلة لتسلق اجتماعي راديكالي. ولقد تواكب ذلك في نظره مع اندفاعة فنية شبابية موسيقية وسينمائية ثم تلفزيونية، نجمت عن صعود طبقة اجتماعية جديدة هي الطبقة العاملة الشبابية، وكل ذلك على خلفية حرب فيتنام والسباق إلى الفضاء. "أما بالنسبة إلي، استطرد بالارد قائلاً، لم يكن المحرك الأكبر في ذلك كله سوى اغتيال الرئيس جون كينيدي. كيف؟ لأنه كان قتلاً يبث تقريباً من شاشات التلفزة في العالم أجمع. بدا لنا كنيدي باغتياله وكأنه اختراع تلفزيوني، من اختراع الإعلام الذي قد يمكن أن يكون مسؤولاً عما آلى إليه مصيره. وكان بالتالي منطقياً أن يتمكن كل مشاهد من أن يرصد مقتله ثانية بثانية، إلى درجة أن صوراً كثيرة ترصد اغتياله باتت أشبه بأيقونات، وبات مقتله أشبه بأضاحي الاحتفالات الدينية: قربان إلكتروني يشارك فيها متفرجو التلفزة في العالم أجمع".