ملخص
عندما أراد الموسيقي الإيطالي جواكومو بوتشيني تلحين "الكوميديا الإلهية" لمواطنه النهضوي الكبير دانتي اليغيري، خشي الفشل في تحقيق رغبته، فقرر التنازل عن مستواه كي يحقق هذه المرة "ثلاثية" أبقى فيها من دانتي نصاً بعنوان "جياني شيشي" بالكاد سيمكن للمرء أن يربطه بدانتي، ولا سيما بجزء "الجحيم"، لفرط ما فيه من هزل
إثر النجاح الاستثنائي الذي حققته أوبرا ماسكانيي "الفارسة الريفية" واكتشاف عدد كبير من مواطنيه الموسيقيين الآخرين، ولا سيما من بينهم من ورثة فيردي، أن الزمن بات ملائماً للأعمال الأوبرالية القصيرة، ولا سيما منها ذوات الفصل الواحد، قرر الموسيقي الإيطالي جواكومو بوتشيني أن عليه بدوره أن يخوض ذلك المجال بعدما أنفق زمناً طويلاً في الاشتغال على عملين طويلين هما "فتاة الغرب الأقصى" و"لا روندينا" أتعباه حقاً من دون أن ينصفاه جماهيرياً.
وهو لأنه لم يرد في الوقت نفسه أن يتخلى عن مستواه الرفيع رأى أن أنسب ما يناسبه هو الاشتغال انطلاقاً من أجزاء "الكوميديا الإلهية" الثلاثة لمواطنه النهضوي الكبير دانتي اليغيري، غير أنه إذ أدرك صعوبة ذلك العمل، وخشي أن يسفر عن فشل أكثر قسوة، عاد وقرر التنازل عن مستواه كي يحقق هذه المرة "ثلاثية" أبقى فيها من دانتي نصاً بعنوان "جياني شيشي" بالكاد سيمكن للمرء أن يربطه بدانتي، ولا سيما بجزء "الجحيم"، لفرط ما فيه من هزل، وسينتمي على الخشبة إلى الكوميديا ديل أرتي، بينما سيكون العملان الأولان مختلفين، أولهما "العباءة" تهريجاً خالصاً، والثاني "الأخت أنجلينا" ميلودرامياً مدراً للدموع، مقابل كوميدية "جياني شيشي" المطلقة.
في النهاية ستكون تلك الثلاثية كما شاء لها بوتشيني أن تكون، لكنها لن تقدم بوصفها كذلك سوى مرات قليلة، وكان ذلك في متروبوليتان نيويورك أواخر عام 1918 لتنفرد "جياني شيشي" بعد ذلك مستقلة محققة نجاحاً كبيراً ستحسدها عليه أختاها في "الثلاثية" اللتان لولا ارتباطهما بها لغابتا معاً في النسيان.
نجاح التهريج الدانتي
والحقيقة أن كثراً من المؤرخين، حتى وإن عزوا تميز "جياني شيشي" إلى طابعها المنتمي إلى الكوميديا ديل أرتي في أنجح تجلياتها، وإلى كون بوتشيني قد خصها بألحان سيعيش كل لحن منها متفرداً، سيرون أن وجود اسم دانتي قد لعب الدور الأكبر في نجاحها، حتى وإن كان المتفرجون ما إن يغوصوا في العمل حتى ينسوا دانتي تماماً ويدخلوا في الجانب الترفيهي الذي تؤمنه بموسيقاها الحية والمعاصرة، مما حقق للعمل نجاحاً ميزه عن العملين الآخرين.
ولئن كانت أوبرا "العباءة" التي تفتتح الثلاثية، تدور بالنسبة إلى أحداثها وأجوائها في باريس الزمن الراهن وفي أجواء مراكبية نهر السين، فيما تدور أحداث "الأخت أنجليكا" في أجواء عائلية تنتمي إلى طبقة النبلاء في فلورنسا الإيطالية في أزمنة سابقة، ومن حول الحسناء أنجليكا التي تتسبب في فضيحة لأسرتها تسفر عن إنجابها ولداً من دون زواج، مما يدخلها إلى الدير مترهبة تاركة الولد لتربيه العائلة، ها نحن في "جياني شيشي" في خضم موضوع عائلي بدوره، لكنه مأخوذ من النشيد الـ30 في "الجحيم" لدانتي، إنما من دون أن تكون له أية أجواء دانتية حقيقية.
فالحقيقة هنا، حتى وإن كانت حكاية تلك الشخصية التي يموضعها صاحب "الكوميديا الإلهية" في الجحيم بصحبة من يسميهم المزيفين، حكاية تليق بالمناخ الدانتي، فإن العالم الذي يتجلى في الأوبرا عالم اجتماعي يمكن أن يتجلى في أي زمان ومكان. عالم الأسر المختلفة على الميراث، والتي يخوض أفرادها فيما بينهم صراعات تتعلق بمحاولة كل فرد الحصول على نصيب ما من ثروة قريب فارق الحياة لتوه، دون أن يرضى أي من ورثته بما نقلته إليهم وصيته.
مسرح للعبث الضاحك
هو إذاً في "جياني شيشي" موضوع شديد العادية إلى درجة أنه لم يكن في حاجة إلى أن يقتبس من سيد الأدب النهضوي، ومع ذلك سيتبين أن بوتشيني لم يكن على خطأ في اختياره، ولو من باب الترويج في الأقل.
أما الحكاية فهي حكاية الثري بوزو دوناتي الذي فارق الحياة لتوه وانطلق ورثته الأقربون والأبعدون يتنازعون على ميراثه. وإذ يصل النزاع إلى أقصاه لا يكون مفر من استدعاء المدعو جياني شيشي لتسوية الأمور. وشيشي هذا لا يرضى بالتدخل في أمر عائلي كهذا إلا لسبب واحد لا يبدو واضحاً للحاضرين، فهو يتطلع وقد اصطحب معه ابنته الشابة لوريتا، إلى الحصول على جزء من "الغنيمة" يمكن ابنته من الاقتران بحبيبها رينوتشيو. فكيف سيتمكن جياني من إيجاد تسوية تعدل بين أفراد العائلة ويمكنه من الحصول على نصيب الأسد من الميراث؟ بالتزوير الذي سيتيح لدانتي إرساله إلى الجحيم مع المزورين المزيفين. لماذا؟ لأن الحيلة التي يتبعها جياني شديدة البساطة قد لا تليق "بالكوميديا الإلهية"، لكنها بالتأكيد تليق بالكوميديا ديل أرتي. فهو يتمكن من إبعاد جثمان الميت إلى مكان خفي ثم يرقد مكانه في سرير الاحتضار، حيث يملي على الكاتب العدل وبقية الحضور بصوته المحتضر، وصية جديدة فحواها، "إنني أنا بوسو دوناتي وبكامل عقلي ووعيي أترك الأساس من أملاكي ومقتنياتي لقريبي جياني شيشي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا ينتهي الأمر بصوت المحتضر نفسه، وفي حضور الورثة وسط غضب هؤلاء إزاء ما يسمعون واحتجاجهم، لكن الكاتب العدل والشهود حاضرون هنا ليشهدوا على صحة ما يجري أمام أعينهم، وتحديداً على إلغاء دوناتي "بنفسه" وصيته القديمة وإبدال وصية جديدة بها. وهكذا إذ يبارح الكاتب العدل وغيره من الرسميين المكان ينفرد الورثة بجياني ليحاصروه متهمين إياه بالغدر والخيانة.
وفي الوقت الذي يتصارعون فيه فيما بينهم بشكل فوضوي يحمل جياني عصاه ويروح يضربهم بها يميناً ويساراً على طريقة الكوميديا ديل أرتي على وقع موسيقى رائعة لا شك أنها ستكون من عوامل النجاح الكبير الذي ستحققه هذه الأوبرا القصيرة في كل عروض قدمت فيها هي التي نادراً على أية حال ما قدمت مع شقيقتيها اللتين لم تُضاهياها أبداً ولو في جزء يسير من نجاحها.
في النهاية، حققت هذه الأوبرا القصيرة وبمفردها عادةً لجياكومو بوتشيني (1858 -1924) ليس فقط نجاحاً كان يتطلع إليه ويتمناه وسط عالم جديد لم يكن له به عهد من قبل، بل حقق له ما راح هو يسميه استراحة المحارب وسط انشغاله تلك المرحلة المتقدمة من حياته بأعمال شاءها كبيرة وكلاسيكية تؤمن له مكانته التي كانت قد راحت تتضح بوصفه الوريث الشرعي لسلفه الكبير جوزيبي فيردي، إذ ها هو هنا يحلق في بناء كوميدي، بل تهريجي، ولكن من دون أن ينسى في طريقه جانباً رومانسياً كان يصر على دمجه في هذا العمل، وهو الجانب الذي أمنته له مشاهد الحب المغرقة في العاطفية بين لوليتا ورينوتشيو، وهي المشاهد التي أعطت ذواقة الغناء العاطفي الإيطالي بعض أجمل الألحان التي انصرفوا إلى التغني بها، وهو ما مهد في مسيرة بوتشيني نفسه لما تبقى من إنتاجاته الأوبرالية التي ربما تكون ختمت العصر الذهبي الرومانطيقي في الفن الأوبرالي الإيطالي.