Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الـ "كوميكس" العربي... تربوي فقط وخجول للغاية

التعامل التقليدي مع ذلك الفن يجد ترجمته في غياب المؤسسات الفنية المتخصصة بالقصص المصورة

الـ "كوميكس" في حقيقته أكبر من اعتقاله في الوظيفة التعليمية والتربوية (مواقع التواصل)

ملخص

نظراً إلى الإمكانات الجمالية المذهلة التي يتمتع بها الـ "كوميكس" على مستوى التأمل واستدعاء الخيال، فإن ذلك يلعب دوراً على مستوى التربية الجمالية ويدفع الأطفال إلى شحذ طاقاتهم التخيلية اللامتناهية ومحاولة بلورتها داخل برامجهم الدراسية.

ينتمي الـ "كوميكس" إلى الوسائل التعبيرية الأكثر تأثيراً في العالم، ذلك أن قيمته الجمالية اليوم تبدو بارزة في مجال النشر، وعلى رغم أنه لا يوجد تاريخ محدد ومضبوط لظهور هذا الشكل الفني التعبيري في العالم العربي، والذي يرجعه بعض المهتمين بالفنون البصرية إلى خمسينيات القرن الماضي، فإن حدود تأثير هذا الفن تبدو واضحة وجلية في العالم الآن، إذ يدخل ضمن البرامج التي تعوّل عليها مؤسسات النشر لتحقيق الأرباح، بحكم أن القصص المصورة لا ترتبط بشريحة مثقفة من المجتمع بقدر ما تكون موجهة بصورة أساس إلى الأطفال الذين يجدون فيها وسيلة للتفكير، وأفقاً لتدريب عقولهم على الخيال.

ونظراً إلى ارتكاز الـ "كوميكس" على عنصر الصورة، أي أنه في مجمله عبارة عن وسيلة تعبيرية تتخذ من البصري منهجاً لها، فإن ذلك جعله يغدو من الأشكال الفنية التي تترك أثراً كبيراً في ذاكرة الناس ووجدانهم.

إيقاع بصري

يستند الـ "كوميكس" في مفاهيمه الجمالية إلى نمط من التصوير الميكانيكي المولّد للإيقاع البصري وفق طريقة سردية رتيبة تدخل في سلسلة من المتواليات البصرية التي تصنع مفهوم الحدث، وبهذه الطريقة يعطي الفنان لرسوماته شكلاً يستمد قيمته الفنية من الحكاية التي يسعى الفنان إلى بلورتها بصرياً، إذ إن هذا النموذج من الحكي البصري ولّد داخل المؤسسات الغربية فناً قائماً بذاته، وأصبح يؤسس عليه كثير من التقاليد الثقافية التي تجعل دور النشر تصبح متخصصة في إنتاج ونشر وتوزيع أعمال الـ "كوميكس" في العالم ككل.

 

ونظراً إلى الإقبال الجماهيري على كتب الـ "كوميكس" بحكم أن العائلات تجد فيها وسيلة لتربية أبنائها وحثهم على الإبداع والتحليق خارج مدارات الواقع، فقد سعت بعض المؤسسات الأميركية مثل "دي سي كوميكس" إلى جعل القصص المصورة وسيلة لتحقيق عائدات خيالية، نظراً إلى قيمتها الجمالية في خلق محتوى بصري مغاير، إذ تضم كثيراً من شخصيات الأبطال الخارقين مثل "باتمان" و"سوبرمان" و"فلاش" و"المرأة العجوز" و"الجوكر"، وهي شخصيات قامت بصناعتها على الورق قبل أن يجري تحويلها إلى الأفلام، ونظراً إلى النجاح الذي رافق مسار هذه الشخصيات في عالم الفن السابع، فإن هذا النجاح تستفيد منه القصص المصورة المطبوعة في الكتب والتي تصدر بشكل شهري أو دوري، ويجري من خلالها اجتراح أفق بصري لقصص مختلفة وحكايات جديدة تستمد مواضيعها من الواقع والخيال على حد سواء.

طفرة نوعية

لقد نجحت "دي سي كوميكس" منذ ثلاثينيات القرن الـ 20 في استقطاب أهم الفنانين العاملين في مجال الـ "كوميكس"، وجعلتهم يحققون لها شهرة واسعة أصبحت معها اليوم تستحوذ على مجمل السوق الأميركية وتمارس عليها سلطتها، وذلك لما تتوافر عليه من قصص مصورة أصبحت ذات شعبية في العالم، ولا سيما أن الأطفال يعرفون جيداً هذه الشخصيات وينسجون معها علاقة خاصة في حياتهم اليومية، مما يجعلهم يقبلون على قصص هذه الشخصيات وحكاياتها ومغامراتها وحواراتها، سواء في الـ "كوميكس" أو الرسوم المتحركة أو الأفلام السينمائية التي تنتج سنوياً وتدفع بعجلة الاقتصاد الأميركي إلى الأمام.

غير أن المثير للدهشة أن النجاح الذي تحققه الشركة لا يقتصر على الـ "كوميكس" بل يمشي بخطى وئيدة مع عالم الصناعة السينمائية، ففي الوقت الذي يكون فريق الفيلم مشغولاً بنحت الشخصيات وتجويد الحوارات والتفكير في الخلطات البصرية وطرق التصوير والفضاءات وغيرها، يعود الناس للقصص المصورة التي تصدر في كتيبات صغيرة ومجلات مزركشة تحقق لنفسها شهرة كبيرة وواسعة داخل المجتمع الأميركي.

مكانة اعتبارية

وما ينبغي تأكيده أن القصص المصورة في أوروبا وأميركا تعد اليوم بمثابة تقاليد فنية يستحيل التخلي عنها، إيماناً من تلك المؤسسات الثقافية والفنية بقيمة المجلات المصورة، وما أصبحت تلعبه من دور تربوي داخل المجتمع، فلم يعد للأمر علاقة بأي بعد تجاري تجنيه الشركات العالمية الحاضنة للـ "كوميكس"، وإنما يعود بصورة أساس لكونه أصبح يشكل عنصراً فنياً قائماً داخل المنظومة الفنية الغربية، فلقد أسهم الـ "كوميكس" في صناعة مجد الرسوم المتحركة وما بعد عالم السينما.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم أن القصص المصورة بدت في بداياتها وكأنها تحاكي الوقائع السياسية والاجتماعية فإنها تحولت في ما بعد إلى نمط من الإبداع البصري المفرط في التخييل، والذي لا ينطلق أحياناً من الواقع بقدر ما يجد في الخيال أفقاً بصرياً له، فنحن هنا أمام فن ليس تربوياً كما تظهر ملامحه الجمالية في الـ "كوميكس" العربي، وإنما أمام عملية فكرية تسعى إلى بناء أفق تخييلي مغاير، ولقد أصبح الـ "كوميكس" في أميركا بمثابة مشروع بصري وطني موجه للتلاميذ يهدف إلى إخراجهم من مآزق الواقع وتصدعاته اليومية، صوب عوالم متخيلة تربي فيهم ملكة الخيال والإبداع، وتدفعهم إلى ابتكار شخصيات جديدة متخيلة.

لكن في الوقت نفسه أصبحت القصص المصورة تدخل ضمن الوسائل التعليمية التي تزود التلاميذ في مراحلهم التعليمية بأدوات مغايرة لاستيعاب العملية التعليمية، ونظراً إلى الإمكانات الجمالية المذهلة التي يتمتع بها الـ "كوميكس" على مستوى التأمل واستدعاء الخيال، فإن ذلك يلعب دوراً على مستوى التربية الجمالية ويدفع الأطفال إلى شحذ طاقاتهم التخيلية اللامتناهية ومحاولة بلورتها داخل برامجهم الدراسية، كما أن انتشار الـ "كوميكس" في صفوف الطلبة أسهم إلى حد كبير في رفع منسوب الثقافة البصرية وجعلها مألوفة داخل الثقافة الغربية، ولا سيما في وقت تزداد أهمية الخطابات البصرية بسبب الطفرة النوعية وتحققاتها الجمالية في الثقافة المعاصرة، والتي تجعل من فن الـ "كوميكس" وباقي الوسائل التعبيرية البصرية الأخرى ثورة فنية مذهلة في تاريخها البصري.

حضور خجول

وفي وقت تحظى القصص المصورة بأصالتها الجمالية ومكانتها الاعتبارية في الثقافة الغربية، لا تزال الثقافة العربية غارقة في التقليد والاجترار، إذ لا نعثر على نماذج كثيرة ومشهورة في فن الـ "كوميكس"، باستثناء بعض المؤسسات في كل من السعودية والإمارات وقطر والكويت واليمن ومصر ولبنان، والتي جعلت من الـ "كوميكس" مختبراً للتداول داخل أنظمتها الثقافية، وعلى رغم البعد التربوي الذي يطبع سيرة هذه القصص المصورة فإنه يبدو من العوامل التي أسهمت في الحد من انتشار هذا الشكل التعبيري داخل العالم العربي، لأنه يضع الـ "كوميكس" أمام وظيفة واحدة تتمثل في التربية والتكوين.

 

غير أن الـ "كوميكس" في حقيقته أكبر من اعتقاله في الوظيفة التعليمية التربوية صوب البحث عن مواضيع سياسية وقضايا اجتماعية، فقد بدأ الاهتمام به منذ نهاية الخمسينيات، وعملت بعض المؤسسات المصرية على ترجمة نماذج مشهورة مثل "تان تان" و"ميكي" وتحويلها إلى العربية، ومنها حاولت التجارب العربية التي ظهرت بعد ذلك أن تستمد منها صناعتها الفنية، فحاولت اجتراح "كوميكس" عربي داخل عدد من المجلات، لكن من دون أي تأثير واضح داخل المنظومة الفنية العربية، وليس سابقاً فقط بل إلى حدود اليوم.

إن هذا التعامل التقليدي مع الـ "كوميكس" يجد امتداده في غياب المؤسسات الفنية المتخصصة بالقصص المصورة، والتي بإمكانها أن تلعب دورها المميز في ضح دماء جديدة في عالم المجلات، وجعلها تنفتح على كل ما هو بصري تجديدي ومجدد لثقافة عربية يغلب عليها التقليد، ونحن هنا أمام عجز لم تستطع الثقافة العربية التغلب عليه، وتحاول عبر ما تتوافر عليه من خزان رمزي وعلامات بصرية اجتراح أفق فني لقصص مصورة تكون مستمدة في الأقل من الواقع، وتسعى في ما بعد إلى أن تبني لها أفقاً كونياً مع قضايا أخرى عالمية، ‘ذ إن ارتكاز الـ "كوميكس" على لغة بصرية على مستوى خطابه الفكري يمكّن الفنان من تدبيج رسائل سياسية تخدم القضايا الوطنية، وتجعله مثل باقي الفنون البصرية كالسينما والكاريكاتور واللوحة، ليلعب دوره الكبير في مقاربة إشكالات واقعية وإنتاج خطاب فكري ينتقد فداحة الواقع، ويعيد صياغة السرديات الفكرية ذات الصلة بالمجتمع والسياسة والثقافة.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات