Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الوظيفة الثانية حل لزيادة الدخل أم مأزق للأسر المصرية؟

يغيب الآلاف عن ذويهم معظم ساعات اليوم في ماراثون الركض بين عملين وسط قرارات اقتصادية صعبة وتضخم لا يرحم

دفتر الحياة اليومية في مصر مليء بنضال من يلاحقون "لقمة العيش" عبر أعمال إضافية (اندبندنت عربية)

ملخص

"اندبندنت عربية" تحدثت إلى نماذج من شباب في مهام وظيفية إضافية، بين من يرون في زيادة الدخل حلاً للأزمة ومن يلخصون المعضلة في بقاء التضخم مرتفعاً

في شوارع القاهرة المكتظة لا تنتهي ساعات العمل مع دقات الثالثة ظهراً، بل تبدأ وردية جديدة لعشرات الآلاف من المصريين الذين يخلعون عباءة الوظيفة الصباحية ليرتدوا أخرى تدر عليهم دخلاً إضافياً، فثمة من يقود سيارة أجرة عبر التطبيقات الذكية بعد انقضاء ساعات عمله الأساس، وآخرون يعملون في التجارة الإلكترونية مساءً، ومن شاب في شركة خاصة يقضي أمسياته في خدمة التوصيل، وآخر من وردية صباحاً إلى أخرى ليلاً.

ومع نهاية كل يوم، يعود آلاف الموظفين والعمال إلى بيوتهم بعد رحلة مزدوجة بين وظيفة صباحية وأخرى مسائية، يحملون تعب الساعات الطويلة وقلق الفواتير المؤجلة، وعلى رغم أن "الأعمال الثانية" صارت صمام أمان لكثر، فإنها تسرق في المقابل لحظات الراحة ودفء الجلسات العائلية.

هكذا تبدلت الحال، فالظاهرة التي كانت استثناءً قبل عقدين، تحولت اليوم إلى قاعدة يفرضها التضخم والغلاء وتآكل الأجور، لتصبح "الوظيفة الثانية" مساراً إجبارياً لا خياراً ولا رفاهية، وركيزة أساسية لتوازن موازنة الأسر المصرية في مواجهة غول غلاء المعيشة المتصاعد.

توصيل طلبات إلى المنازل

محمد خليفة، شاب في منتصف العقد الثالث من العمر، ويعمل عامل توصيل طلبات إلى المنازل مستقلاً دراجته النارية التي اشتراها قبل أعوام، لبضع ساعات إضافية مساء كل يوم بعد انتهاء عمله الأساس في الرابعة عصراً بإحدى شركات القطاع الخاص، قبل أن يبدأ في السابعة مساره الآخر.

في حديثه إلى "اندبندنت عربية" يقول خليفة إن ساعات المساء قبل أعوام كانت ميقاتاً للترفيه والاسترخاء وصحبة الأهل والأصدقاء والمعارف قبل أن يدهمه قطار التضخم الذي فرض على الزوج ووالد الطفلين مسؤوليات كبيرة: "لست وحدي، عشرات ممن أعرفهم يباشرون أعمالاً إضافية... المعيشة نار (تعبير مصري عن الغلاء)، والأموال صارت بلا بركة ولا تكفي للقليل".

يقطع الشاب بدراجته النارية شوارع القاهرة في مهمة توصيل الطلبات عبر أحد التطبيقات الإلكترونية ذات الصلة، يسرع المسير أملاً في إنجاز أكبر عدد ممكن من أعمال التوصيل، إذ تزداد العمولة بعدد الرحلات المنفذة والمهارة هنا في عاملي السرعة ومعرفة الجغرافيا، ويقول "أتلقى 25 جنيهاً (0.52 دولار) في المتوسط عن المشوار... يمكن عمل 10 مشاوير بإجمال 250 جنيهاً (5.21 دولار) في اليوم الواحد".

تعويم الجنيه والقرارات الصعبة

في بلد الـ108 ملايين موظف، بلغ إجمال قوة العمل في مصر عام 2024 نحو 32.041 مليون فرد، بزيادة قدرها 2.9 في المئة على عام 2023، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، موزعين على القطاعين الحكومي والخاص، ولا يقتصر توجه البعض منهم لممارسة أعمال إضافية على قطاع من دون الآخر.

ومنذ أعوام يعاني المصريون إجراءات صعبة من الإصلاح الاقتصادي الذي تتبناه القاهرة بموجب اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، إذ واصلت أسعار الوقود والكهرباء والمياه الصعود، مع تعويم الجنيه المصري خمس مرات، مخلفة أوضاعاً اجتماعية مؤلمة، مما دفع الحكومة إلى زيادة الحد الأدنى للأجور في البلاد وضخ مزيد من حزم الرعاية الاجتماعية.

ويبلغ الحد الأدنى للأجور في البلاد 7 آلاف جنيه (145.79 دولار) لموظفي الجهاز الإداري للدولة على الدرجة السادسة، و13500 جنيه (281.17 دولار) لكبار وقدامى الموظفين من الدرجة الممتازة، بحسب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2594 لسنة 2025، قبل أن ينضم موظفو القطاع الخاص إلى الحد الأدنى ذي الـ7 آلاف جنيه في مارس (آذار) الماضي.

تقديرات بارتفاع التضخم في مصر

وأظهرت بيانات رسمية حديثة أن معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية تباطأ للشهر الثالث على التوالي، إلى مستوى 12 في المئة خلال أغسطس (آب) الماضي، مقارنة بنحو 13.9 في المئة خلال يوليو (تموز) الماضي، متراجعاً من ذروة بلغت 38 في المئة سجلها في سبتمبر (أيلول) 2023، بدفعة من حزمة مساعدات مالية بقيمة 8 مليارات دولار وقعتها الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي في مارس 2024.

وفي موازنة العام المالي الحالي رفعت الحكومة المصرية تقديراتها لمعدل التضخم إلى 13.6 في المئة بدلاً من 13 في المئة، مع توقع مبدئي بتراجع التضخم إلى 10.5 في المئة عام 2027.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع اشتداد الأوضاع الاقتصادية صعوبة، اضطر محمد المصري معلم اللغة الإنجليزية إلى زيادة كلفة الدروس الخصوصية في ساعات المساء بعد انقضاء اليوم الدراسي، فيما هو في سباق مع الزمن من ناحية زيادة وتيرة الحصص الإضافية، ويقول لـ"اندبندنت عربية" إنه يباشر مساء مهام التدريس في أحد المراكز الخاصة.

"من المستحيل أن يقضي المرء حياته بوظيفة واحدة"

تشكو أسرته هجرانه المنزل غالب ساعات اليوم، فيما هو منهمك في الخارج منذ الظهيرة حتى المساء، ويضيف "أبنائي يرونني بالكاد، لكن أنا في مهمة من أجلهم وهم يقدرون ذلك، ليس خياراً بل اضطراراً في ظل ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات يستحيل معها أن يكفينا راتب الوظيفة".

ويعتقد المتحدث أن من المستحيل أن يقضي المرء حياته بوظيفة واحدة، إلا إذا كان الدخل مجزياً بصورة تفي بالطلب وتفيض، وثمة من هم من زملائه من ليسوا في حاجة إلى ممارسة أعمال إضافية، في وجود الزوجة التي تعمل، أو بعض الأصول المولدة للدخل كإيجار عقار أو أرض أو حتى مشروع تجاري إلى جانب الوظيفة.

ويشاركه في الرأي محمد سالم، وهو فني إنتاج بأحد مصانع الملابس الخاصة، وهو من بين آلاف من المصريين يباشر عملاً إضافياً وسط غلاء يلتهم أجر الوظيفة الأولى، كما يقر، موضحاً أنه اضطر إلى العمل على سيارته الخاصة ضمن تطبيقات النقل الذكي.

سيارتي لخدمات النقل الذكي

سالم وهو والد لثلاثة أطفال وزوجته لا تعمل، يرى أن العمل على سيارته الخاصة يمنحه شعوراً ما بالاستقلالية، فليس مضطراً إلى أن يعمل تحت إمرة موظف آخر وما يعنيه الأمر من ضغوط ومهام، إذ يستقل سياراته لبضع ساعات في نقل الركاب، والاختيار له في طلبات النقل، أكانت مناسبة أم لا، ثم يفرغ حين يشاء ويغادر إلى منزله.

وينظر سالم إلى المشكلة من زاوية مختلفة، فزيادة أجور الوظائف في البلاد ليست حلاً بقدر ما يكمن الحل في ممارسة رقابة حكومية أكبر على الأسواق، والعمل على عدم انفلات الأسعار وبقاء التضخم قيد السيطرة، وإلا ستطارد الأجور على كثرتها الاسمية بضائع وخدمات أعلى كلفة، فلا معنى لأن تمنح الموظف أجراً أكبر فيما الأسعار منفلتة من دون ضابط، كما يختم.

وليس هناك حصر رسمي أو شبه رسمي في مصر بأعداد العاملين في وظائف إضافية، فقوانين العمل في البلاد، خصوصاً المنظمة للعمل داخل الجهاز الإداري للدولة تحظر ذلك، خصوصاً للموظفين في الحكومة والقطاع العام، إذ إن المادة 77 من قانون العاملين بالدولة الملغى، وقانون الخدمة المدنية الجديد رقم 81 لسنة 2016، يمنعان الجمع بين الوظيفة العامة وأي عمل آخر قد يضر بواجبات الوظيفة أو يتعارض مع مقتضياتها، بينما في القطاع الخاص، قد يكون الجمع ممكناً ما دام لم يتعارض مع عقد العمل الأصلي، ولا يؤثر في أداء واجبات الوظيفة.

حد أدنى للأجور لا يشمل الجميع

من جانبه يرى المتخصص الاقتصادي زهدي الشامي أن العمل الإضافي أو ما يعرف بـ"الوظائف الثانية" شائع بقوة في مصر، في وجود معدلات تضخم مرتفعة وقرارات اقتصادية صعبة الأثر على الأسر، وهو ما يتعين معه باستمرار مراجعة الأجور، والعمل على ضبط الأسواق عبر فرض رقابة صارمة تحول دون تغول جشع التجار.

في حديثه إلى "اندبندنت عربية" يقول الشامي إنه يتعين مراجعة أسباب التضخم والعمل على علاج العوامل التي تؤدي إليه، ومنها رفع أسعار الوقود وخفض مخصصات دعمه، فمثل هذه الأمور غير مبررة، كونها تأتي في وقت تتراجع خلاله أسعار النفط العالمية، وهو ما من شأنه أن يدفع بزيادة الكلفة على كاهل الأسر، واستمرار الضغوط التضخمية.

وبتقدير المتخصص الاقتصادي، لا يشمل الحد الأدنى للأجور في مصر الجميع، فثمة عمال في القطاع الخاص لا يتحصلون على هذا الحد الذي تراجع في قيمته إذا ما احتسب على سعر صرف الدولار، مما يعني أن الحد الأدنى يتراجع في ذاته ولا يرتفع، بحسب ما يشير.

وبينما يواصل عشرات الآلاف من المصريين الركض بين وظيفتين أو أكثر، تبدو الظاهرة مرشحة للتفاقم ما لم تتوازن الأجور مع كلفة المعيشة، فالأعمال الإضافية قد توفر حلاً موقتاً أمام التضخم، لكنها تطرح في الوقت ذاته أسئلة أعمق عن مستقبل سوق العمل والإنتاجية وجودة الحياة، فهل تبقى "الوظيفة الثانية" مجرد وسيلة اضطرارية لسد الفجوة المعيشية، أم تتحول إلى نمط اقتصادي راسخ يعيد تشكيل ملامح الطبقة الوسطى في مصر؟

اقرأ المزيد