ملخص
يتسارع تأثير الذكاء الاصطناعي في سوق العمل والمهارات البشرية، مهدداً الوظائف التقليدية وحتى الإبداع الإنساني، مما يثير تساؤلات فلسفية حول معنى الوجود، ويستدعي تحولاً ثقافياً يعيد تعريف القيم الإنسانية خلال عصر تتفوق فيه الآلات على البشر.
قبل 25 عاماً، نشرت المجلة العلمية البريطانية "نيتشر" Nature مقالة خيالية عن ظهور ذكاء فائق يتجاوز قدرات البشر. حملت المقالة عنوان "التقاط الفتات من على المائدة" Catching crumbs from the table، وتخيلت مستقبلاً انتقلت فيه حدود البحث العلمي إلى آفاق تعجز العقول البشرية عن فهمها.
تناولت المقالة تصوراً بأن شكلاً متقدماً من الذكاء الاصطناعي سيتولى مسؤولية جميع الاكتشافات العلمية المستقبلية، مما يترك الباحثين البشر أمام حقيقة محبطة تتمثل في أنهم لن يسهموا مجدداً بأي إبداع أصيل في العلم. من المتوقع تحقيق إنجازات عظيمة يستفيد منها البشر وتصب في صالحهم، ولكن تفاصيل تلك الاكتشافات ستظل غامضة وعسيرة على الفهم، حتى على ألمع العقول البشرية.
في هذا السيناريو المستقبلي المتخيل، والذي يصدف حدوثه عام 2025، يتخلى بعض الباحثين عن العلم تماماً، بينما يوجه آخرون اهتمامهم إلى محاولة فهم الاكتشافات التي توصل إليها الذكاء الاصطناعي. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كما ورد ضمن المقالة "هل من المجدي حقاً بالنسبة إلى العلماء أن يكرسوا وقتهم وجهدهم لهذه المساعي؟".
ربما لم نبلغ بعد هذه المرحلة في المجال العلمي، على رغم أننا نقترب منها شيئاً فشيئاً، بيد أن الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل في دفع مهن ووظائف كثيرة إلى مواجهة مصيرية مع واقع جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كشفت دراسة نشرت الأسبوع الماضي، تولاها خبراء اقتصاد في "جامعة ستانفورد" الأميركية، أن الارتفاع في معدل التوظيف بين صفوف الشباب تراجع بنسبة ستة في المئة منذ أطلقت شركة "أوبن أي آي" روبوت الدردشة الشهير "تشات جي بي تي" عام 2022، إذ بات بإمكان الجيل الجديد من تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي التوليدي [المصممة لتوليد محتوى جديد على هيئة نص مكتوب أو صوت أو صور أو مقاطع فيديو] محاكاة نوعية المعرفة النظرية التقليدية التي يتلقاها طلاب الجامعات عادة قبل دخولهم سوق العمل.
وفق دراسة مستقلة أجراها موقع البحث عن الوظائف "أدزونا" Adzuna، تراجع عدد وظائف المبتدئين داخل المملكة المتحدة بنحو الثلث خلال الفترة الزمنية نفسها. وضمن استطلاع آخر نهضت به شركة "يوغو" Yugo، المتخصصة في تشغيل مساكن الطلاب، وشمل 7 آلاف طالب في تسع دول، أعرب أربعة من كل خمسة طلاب عن خشيتهم من أن يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى استبعاد العاملين البشر من سوق العمل.
مخاوف الطلاب هذه تجد صداها في اتجاهات البحث الأخيرة على الإنترنت، إذ كشفت بيانات محرك البحث "غوغل" ارتفاعاً هائلاً بنسبة 5 آلاف في المئة خلال الـ30 يوماً الماضية في عمليات البحث المتعلقة باستبدال الذكاء الاصطناعي بوظائف الناس.
"يغير الذكاء الاصطناعي كل شيء، ليس طريقة دراستنا فحسب، بل حتى نوع الوظائف التي سنتقدم لها بعد التخرج. أحاول أن أسبق هذا التحول من طريق تطوير مهاراتي التكنولوجية والإبداعية معاً. وأعتقد أن التميز في هذه المهارات يمثل الفارق الذي سيحدد مكانتي ضمن سوق عمل تستطيع فيه الآلات أداء كل المهام الأساس"، قالت سنجايا فيليبس، طالبة في مجال التسويق والاتصالات في "جامعة أكسفورد بروكس" تبلغ من العمر 22 سنة، في حديثها إلى "اندبندنت".
ويكمن الخوف في أن برامج إعادة التأهيل والتدريب لا تواكب وتيرة تطور الذكاء الاصطناعي، ما يضع كثراً في سباق محموم للحاق بركب التغيير، سباق قد ينتهي بضياع فرصهم خلال وقت قريب. وتشير دراسة صدرت عن "مايكروسوفت" خلال يوليو (تموز) الماضي إلى أن الوظائف الأكثر عرضة للخطر تشمل علماء البيانات وخبراء الاقتصاد، وصولاً إلى المؤرخين والمؤلفين.
الكتابة الإبداعية التي كانت تعد حتى وقت قريب حكراً على البشر وحدهم، خضعت لاختبار الشهر الماضي على يد الكاتب مارك لورانس المعروف بأعماله الفانتازية، فضمن تجربة عمياء [بمعنى أن القراء أو المشاركين في الاختبار لم يعرفوا من كاتب كل قصة]، وضع كتابات مولدة بالذكاء الاصطناعي في مواجهة مع قصص قصيرة من تأليفه وتأليف كتاب آخرين حائزين جوائز. وشعر بالتواضع أمام حقيقة أن غالبية القراء فضلوا القصص التي أنتجها الذكاء الاصطناعي.
علق مارك لورانس بالقول "إنها صورة قاتمة بالفعل، لا سيما بالنسبة إلى المؤلفين الجدد ومن يطمحون إلى خوض غمار الكتابة مستقبلاً. فهي، في الظاهر، تقوض كثيراً مما نعتز به كجزء من إنسانيتنا".
ويبدو أن عالم الموسيقى بدوره يشهد الظاهرة نفسها، فخلال أغسطس (آب) الماضي، أصبح البريطاني أوليفر ماكان، البالغ من العمر 37 سنة، المنتج الموسيقي الأول الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تأليف الأغاني ويوقع عقداً مع شركة تسجيل، بعدما تجاوزت أغانيه حاجز الـ3 ملايين استماع على منصة "سبوتيفاي".
"لا أملك أية موهبة موسيقية على الإطلاق"، اعترف أوليفر ماكان، المعروف فنياً بالاسم "أيم أوليفر" [أنا أوليفر] imoliver، في تصريح أدلى به إلى وكالة "أسوشيتد برس"، مضيفاً: "لا أستطيع الغناء، ولا أعزف أية آلة موسيقية، وليست لدي أية خلفية في الموسيقى من الأساس".
في الحقيقة، ليس نجاح ماكان حالة فريدة من نوعها، فقد حصدت "ذا فيلفيت سانداون" The Velvet Sundown، الفرقة الموسيقية المستقلة المولدة بالذكاء الاصطناعي، مئات الآلاف من الاستماعات، فيما تقدر "ديزر" Deezer للبث الموسيقي أن نحو 18 في المئة من المحتوى الموسيقي الذي يحمل يومياً على منصتها مولد بواسطة الذكاء الاصطناعي.
قائمة "مايكروسوفت" للوظائف المهددة بالذكاء الاصطناعي ضمت في المقام الأول الوظائف المكتبية والصناعات الإبداعية، بينما بقيت المهام الجسدية بعيدة من تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي، أقله في المدى القصير. ولكن من الوارد أن تتغير هذه الحال تماماً في القريب العاجل مع الإطلاق الأخير للشريحة الإلكترونية الذكية الجديدة "دماغ الروبوت" robot brain من شركة "إنفيديا".
الشريحة الإلكترونية "جيتسون أي جي أكس ثور" (Jetson AGX Thor) مصممة لجيل جديد من الآلات الشبيهة بالبشر العالية الكفاءة، إذ تستطيع تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي من قبيل "تشات جي بي تي" للتفاعل مع البشر. وبفضل النماذج البصرية المدمجة، تستطيع الروبوتات فهم محيطها وتعديل سلوكها وطريقة أدائها المهام بناءً على ملاحظاتها في المحيط حيث تعمل. ووصف المدير التنفيذي لشركة "إنفيديا" جنسن هوانغ هذه الشريحة بأنها "أقوى حاسوب فائق يمثل القوة الدافعة لعصر الذكاء الاصطناعي الفيزيائي والروبوتات العامة".
إذا نجحت هذه التكنولوجيا في الوفاء بالتوقعات، واستمرت الاتجاهات في المجالات الأخرى على هذا المنوال، فقد يصل الإنسان إلى النقطة التي طالما توقعها كثر، إذ يصبح الجهد البشري غير ضروري. ووصف المنظر في شؤون التكنولوجيا والابتكار جون نوستا هذه التطورات بأنها "مبهجة، وإن لم تكن ساحرة"، لكنه حذر ضمن مقالة حديثة من أنها قد تكشف عن حقيقة إنسانية أعمق.
وكتب نوستا قائلاً "إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على القيام بذلك أيضاً، فما الذي يبقى حقاً لنا؟ ربما الأمور التي اعتقدنا أنها تحدد هويتنا لم تكن لنا منذ البداية... كانت لنا لأن لا أحد آخر، ولا شيء آخر، كان قادراً على إنجازها".
وأشار نوستا إلى أن تقليد الذكاء الاصطناعي ليس مماثلاً للفعل البشري، إذ يفتقر إلى النية والتجربة الحياتية والوعي بالموت. ولكنه أوضح أن هذه الحقيقة لا تعني عجزه عن أداء المهام. وكتب أن "الهدية غير المعلنة والمقلقة التي يمنحنا إياها الذكاء الاصطناعي أنه سيدفعنا إلى استعادة جوهر إنسانيتنا. فعندما يسرق الذكاء الاصطناعي الفعل، تبقى لنا الذات الحقيقية للإنسان".
تساءل عدد من الفلاسفة عما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيأخذ منا أكثر من مجرد وظائفنا، بل ربما يسلبنا أيضاً إحساسنا بالهدف والمعنى في الحياة. ومن بين هؤلاء نيك بوستروم الذي قدم في كتابه عام 2014 "الذكاء الفائق" Superintelligence رؤية تشاؤمية لمستقبل يتفوق فيه الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري، يتناول هذا الاحتمال في كتابه اللاحق العام الماضي "يوتوبيا عميقة" Deep Utopia.
وفي حديثه إلى "اندبندنت" قبيل صدور كتابه، قال البروفيسور في "جامعة أكسفورد" البريطانية إن ما يعوزنا في النهاية تحول ثقافي، يركز على "الاستمتاع والتقدير بدلاً من الفائدة والكفاءة". ومن أجل تحقيق هذا الهدف يدعو إلى إعادة هيكلة جذرية لمنهاج التعليم المدرسي كما نعرفه.
وفي غياب فرص العمل التقليدية، سيتعلم التلاميذ بدلاً من ذلك "تقدير الفنون والأدب والرياضة والطبيعة والألعاب والطعام والمحادثة، وغيرها من مجالات يمكن أن تكون فضاءات تغذي الروح، وتحرر إبداعنا الداخلي، وتسمح لنا بأن نستكشف بعضنا بعضاً، ونغوص في فهم أنفسنا والبيئة، مع الاستمتاع بأنفسنا وتنمية فضائلنا وإمكاناتنا"، أضاف بوستروم.
كل التوقعات المذكورة آنفاً [التي طرحها بوستروم] تفترض، بالطبع، أن يكون هذا الذكاء الاصطناعي الفائق المفترض خيراً وذا نيات صادقة. وقدمت خاتمة المقالة المنشورة في "نيتشر" عام 2000 عزاء متواضعاً، مفاده أن التقنيات التي سمحت بهذا التغيير الجذري كانت من صنع الإنسان أصلاً، وأننا، أقله، سنتمكن أخيراً من جني ثمار جهودنا والتمتع بها.
© The Independent