ملخص
على رغم الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها إيران، فإن التطورات السياسية والأمنية خلال الأعوام الأخيرة أدت إلى تقليص جزء من سوق السياحة الطبية في البلاد، فخلال السابق، كانت إيران تستقطب مرضى من أوروبا والولايات المتحدة وكندا، لكن مع تصاعد التوترات الإقليمية واتباع سياسات مثل اعتقال بعض السياح الأجانب، باتت الحصة الكبرى من هذه السوق تقتصر على مواطني بعض دول الجوار، مما أدى إلى تراجع العائدات بالعملات الأجنبية كالدولار واليورو
تحولت السياحة الطبية خلال الأعوام الأخيرة إلى أحد الفروع المتنامية في قطاع السياحة الإيراني، إذ أسهم وجود أطباء متخصصين وسهولة الوصول إلى الخدمات الطبية وانخفاض كلف العلاج مقارنة ببعض الدول المجاورة، ولا سيما في مجال جراحات التجميل، في جعل إيران وجهة مفضلة للمرضى الأجانب.
غير أن تفشي ظاهرة الوسطاء ونشاط السماسرة غير الرسميين بات يشكل تهديداً جدياً لسمعة الطب الإيراني، إذ يعمل هؤلاء الوسطاء على ربط المرضى الأجانب مباشرة بالمراكز الطبية الخاصة، أحياناً عبر مسارات غير قانونية وغياب الإشراف، مما أدى إلى تراجع الثقة في هذا القطاع.
وبحسب خبراء، فإن وسطاء السياحة الطبية لا يقتصر دورهم على الوساطة البسيطة، بل يؤدون دوراً محورياً في سلسلة الخدمات الطبية، بدءاً من استقطاب المرضى وصولاً إلى تنسيق عمليات إدخال المريض إلى المستشفى والعلاج، وتقدر حصة هؤلاء من إجمال كلف العلاج التي يدفعها المرضى بما يراوح بين 20 و30 في المئة، وهي نسبة تخرج جزءاً كبيراً من سوق السياحة الطبية عن الإطار الرسمي للاقتصاد.
سوق بمليارات الدولارات بينما حصة الحكومة مفقودة
تشير إحصاءات وزارة الصحة الإيرانية إلى أن البلاد تستقبل سنوياً أكثر من مليون و200 ألف مريض أجنبي من دول مثل العراق وأفغانستان وباكستان وسلطنة عمان، إضافة إلى البحرين وأرمينيا وطاجيكستان.
وكان وزير الصحة السابق أعلن خلال عام 2023 أن هذا القطاع حقق ما لا يقل عن مليار دولار من العائدات بالعملة الصعبة، في حين تستهدف الحكومة الوصول إلى دخل سنوي يبلغ 6 مليارات دولار، وهو رقم ترى الحكومة أنه لا يمكن تحقيقه دون تنظيم دور الوسطاء.
وفي هذا السياق، أعلنت دائرة العلاج ضمن وزارة الصحة في حكومة الرئيس مسعود بزشكيان عن إطلاق منصة رقمية للسياحة العلاجية، وقال سجاد رضوي خلال الـ11 من سبتمبر (أيلول) الجاري إن "جميع المرضى الأجانب، سواء كانوا يحملون تأشيرات أم لا، ملزمون بتسجيل معلوماتهم في هذه المنصة"، كما أن المراكز العلاجية والسياحية لن يسمح لها بتقديم الخدمات إلا بعد التسجيل والحصول على التراخيص اللازمة من خلال النظام.
وعلى رغم ذلك، يحذر المنتقدون من أن غياب الشفافية قد يحول هذه الآلية إلى ساحة جديدة للنفوذ والمحسوبية والفساد، مما لا يشكل فقط عائقاً أمام تطوير قطاع السياحة الطبية، بل قد يلحق أيضاً ضرراً أكبر بثقة العامة في القدرات الطبية الإيرانية.
وتصف حكومة مسعود بزشكيان إطلاق المنصة الجديدة لوزارة الصحة لتنظيم السياحة الطبية بأنه خطوة نحو تعزيز الشفافية، إلا أن خبراء ومتخصصين في قطاع الصحة لا يرون هذا الإجراء خالياً من الغموض. وتشير التجارب السابقة في مجالات مثل استيراد الأدوية وتوزيع السلع الأساس إلى أنه كلما أنيطت عملية إصدار التراخيص وتصنيف الجهات إلى مجموعات حكومية أو لجان محدودة، تهيأت الأرضية لظهور المحسوبية، النفوذ والفساد.
سهم ضئيل للمراكز الطبية الحكومية وتوجه الوسطاء نحو القطاع الخاص
تشير الإحصاءات إلى أن حصة المستشفيات الحكومية وحتى الخاصة من السياحة الطبية لا تتجاوز نسبة ضئيلة، إذ يقوم السماسرة والوسطاء بتحويل المرضى الأجانب إلى المراكز الخاصة للحصول على عمولات أكبر، نظراً إلى ما توفره هذه المراكز من أرباح أعلى بسبب كلفها المرتفعة، وهذا الوضع أدى إلى تقليل حصة الدولة إلى أدنى حد، مما يجعل دورة أرباح السياحة الطبية تصب في مصلحة الشبكات العلاجية غير الرسمية.
ويشير الخبراء إلى أنه ما دامت الحوافز الاقتصادية للوسطاء ترتبط مباشرة بزيادة الكلف وتركيز المرضى على المراكز الخاصة وغير الشفافة، فإن الإصلاح الهيكلي في هذا القطاع سيظل أمراً بعيد المنال، وضمن هذه الظروف لا بد أن توجه الحكومة سياساتها نحو تعزيز جاذبية المراكز الحكومية، وإلا فإن الفجوة بين القدرة الحقيقية للنظام الصحي داخل البلاد وحصته الاقتصادية من السياحة الطبية ستتسع بصورة أكبر.
ويعد أحد التحديات الجدية في هذا المجال سوء استغلال نظام التأمينات الصحية. وتشير التقارير إلى أن بعض المرضى الأجانب يدخلون المستشفيات الحكومية مستخدمين بطاقات هوية المؤمنين الإيرانيين، وفي هذه الطريقة، يُخصم جزء من كلفة العلاج من التأمين، ويعد المبلغ المخصوم ربحاً مباشراً يحصده الوسطاء والسماسرة.
وقال أحد المواطنين الإيرانيين ضمن حديث له مع مراسل صحيفة "اندبندنت فارسية" عن تجربته الشخصية إن "أحد الموظفين الإداريين في مستشفى حكومي اقترح على ابنة أخي، التي تتزوج من غير إيراني، أن يحصل زوجها على خدمات علاجية باستخدام تأمين أخيها، مع دفع الفرق في الكلفة"، وتعكس هذه الرواية وجود مخالفات ليست فقط خارج النظام الصحي، بل داخل الهياكل الإدارية والتنفيذية للمستشفيات.
أُبلغ عن حالات مماثلة خصوصاً في المحافظات الجنوبية للبلاد، تلك المناطق التي تتميز بقربها الجغرافي من الدول المجاورة وارتفاع أعداد السياح الذين يأتون للعلاج، مما يجعلها أكثر عرضة لمثل هذه الانتهاكات، ويحذر الخبراء من أن استمرار هذا الوضع يهدد الموارد المالية للتأمينات المحلية، ويضع نظام الصحة الإيراني أمام تحديات كبيرة في صدقيته.
ضرورة الإصلاح البنيوي بدلاً من الرقابة السطحية
واستناداً إلى هذه الأدلة، يرى عدد من المتخصصين في مجال الصحة أن تركيز الحكومة على أنظمة الرقابة وتسجيل بيانات المرضى الأجانب وحده لن يكون كافياً، فهم يؤكدون أنه قبل أية خطوة جديدة، يجب التصدي لجذور الفساد والتجاوزات داخل النظام الصحي، إذ إن جزءاً كبيراً من وساطة السياحة الطبية لا تحدث خارج المستشفيات، بل داخلها وفي الشبكات الرسمية للرعاية الصحية داخل البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشدد هذه الرؤية على ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في نظام الرقابة والشفافية المالية بالمستشفيات، بما في ذلك المراقبة الدقيقة للتكاليف، والكشف عن مخالفات الموظفين الإداريين، وقطع الثغرات التي تتيح الاستغلال السيئ للتأمينات الداخلية، وإلا قد تتحول حتى أفضل وأدق الأنظمة إلى بيئة خصبة للريع واللوبيات والفساد.
ويبدو أن الحكومة أمام خيارين خلال الوقت الراهن، إما الاستمرار في سياسات الرقابة المعتمدة على أنظمة تسجيل البيانات، أو المضي قدماً نحو إصلاحات حقيقية في هيكل النظام الصحي، وسيكون لكل خيار من هذين الخيارين تأثير مباشر على مستقبل سياحة الطبية في إيران وثقة الجمهور في النظام الطبي.
تبعات وأضرار الوسطاء في السياحة الطبية
توسع نشاط الوسطاء والسماسرة في مجال السياحة الطبية يثير مخاوف جديدة، وهؤلاء الأشخاص لا يحيلون المرضى الأجانب إلى المراكز المعتمدة والرسمية، بل يوجهونهم إلى مراكز تفتقر إلى المعايير الطبية، وأحياناً يقدمون أفراداً غير متخصصين كأطباء وطاقم طبي.
وتتجلى هذه الظاهرة بصورة أكبر في قطاع خدمات التجميل، الذي يشهد طلباً مرتفعاً من المرضى الأجانب على عمليات التجميل، مما يوفر أرضية خصبة لنشاط الوسطاء، ونتيجة لذلك تزايدت الشكاوى واستياء بعض المرضى الأجانب من جودة الخدمات، وهو ما أثر سلباً على سمعة الطب الإيراني إقليمياً وعالمياً.
من جهة أخرى، أدى غياب نظام رسمي للتسويق وتسعير الخدمات إلى سيطرة الوسطاء على جزء كبير من سوق سياحة العلاج، وتشير التقارير إلى أن حصة هؤلاء الوسيطين تصل إلى 40 في المئة من حجم التداول المالي داخل هذا القطاع، هذا النفوذ لا يهدر الموارد الاقتصادية فحسب، بل يسبب أيضاً توزيعاً غير متوازن للمرضى في المراكز العلاجية، ويخلق منافسة غير صحية بين مختلف القطاعات.
ما الخدمات التي يأتي السياح من أجلها إلى إيران؟
تقدم إيران مجموعة متنوعة من خدمات السياحة الطبية، تشمل عمليات التجميل والعلاجات الطبية التخصصية، وتحتل طهران الصدارة في جذب السياح نظراً إلى وجود أكبر عدد من الأطباء المتخصصين والمراكز الطبية المجهزة، بينما تستقبل المحافظات الحدودية والجنوبية، نظراً إلى قربها الجغرافي وسهولة وصول المواطنين العراقيين والباكستانيين والأفغان، خدمات طبية بسيطة ومنخفضة الكلفة.
تحظى محافظات خراسان رضوي وقم ويزد ومازندران وفارس بحصة مهمة في مجالات مثل علاج العقم وعمليات التجميل وطب الأسنان وطب العيون، ووفقاً للإحصاءات الرسمية، فقد سافر نحو 750 ألف مريض أجنبي إلى إيران خلال النصف الأول من عام 2025، إذ توجه نحو 30 في المئة منهم لإجراء عمليات تجميل، ونحو 25 في المئة للعلاجات المتعلقة بالعظام أو العقم.
تتمتع خدمات التجميل بمكانة خاصة، فعمليات التجميل لا سيما عمليات تجميل الأنف جعلت إيران من أبرز الوجهات للسياحة الطبية، الفارق الكبير في سعر الريال مقارنة بالعملات الأجنبية يجعل كلفة هذه الخدمات في إيران أقل بكثير من دول أخرى. على سبيل المثال، كلفة شد الوجه في إيران تراوح ما بين 2000 و3000 دولار، في حين تصل إلى نحو 10 آلاف دولار في الولايات المتحدة ونحو 4000 دولار داخل تركيا.
ويشكل علاج العقم أيضاً جزءاً مهماً من هذه الصناعة، إذ تراوح كلفة عمليات التلقيح الصناعي (IVF) في إيران ما بين 1500 و2500 دولار، مقارنة بـ5000 دولار في تركيا و9000 دولار داخل الولايات المتحدة، وتحظى عمليات جراحة العيون مثل الليزك وزراعة الأسنان، إضافة إلى عمليات العظام وزراعة الكلى والكبد وعلاجات السرطان، بطلب مرتفع من المرضى الأجانب الذين يزورون البلاد.
هذا وعلى رغم الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها إيران، فإن التطورات السياسية والأمنية خلال الأعوام الأخيرة أدت إلى تقليص جزء من سوق السياحة الطبية داخل البلاد. ففي السابق، كانت إيران تستقطب مرضى من أوروبا والولايات المتحدة وكندا، لكن مع تصاعد التوترات الإقليمية واتباع سياسات مثل اعتقال بعض السياح الأجانب، باتت الحصة الكبرى من هذه السوق تقتصر على مواطني دول الجوار مثل العراق وسوريا وأفغانستان وباكستان، مما أدى إلى تراجع العائدات بالعملات الأجنبية كالدولار واليورو.
في المقابل، يشكل نزوح الأطباء والممرضين الإيرانيين إلى دول الخليج العربي تهديداً حقيقياً لمكانة إيران كمركز إقليمي للسياحة الطبية، وتسعى دول مثل الإمارات وسلطنة عمان إلى استقطاب الكوادر الطبية الإيرانية، بهدف سد الفراغ وجذب المرضى الأوروبيين والأميركيين، وهو ما يهدد بتغيير موازين المنافسة في هذا القطاع على مستوى المنطقة.