ملخص
صداقات جيل العشرينيات بدأت تتآكل بعدما تحول "تشات جي بي تي" من أداة دراسية إلى رفيق دائم يحل محل البشر في تبادل النصائح والعزاء. الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي أضعف الروابط الإنسانية وجعل العلاقات وحتى القرارات العاطفية خاضعة لحكم "الصديق الرقمي".
لم يكن أحد يستمتع بالدردشة مثل صديقتي المقربة السابقة، كان موعد العشاء وقتنا المفضل، نحلل فيه بتفصيل كل أزمة اجتماعية تشغل بالها، وكنا نناقش صداقات متعثرة ونضحك على أكثر مواقفنا العاطفية عبثاً، لكن هذه الجلسات توقفت فجأة وحل مكانها حاسوب محمول ليجلس "تشات جي بي تي" على الطاولة كأحدث أعضاء دائرتنا الاجتماعية وأكثرهم جرأة في إبداء الرأي.
شعرت، وما زلت، بإهانة جارحة لأن صديقتي قد استبدلتني بروبوت دردشة قائم على الذكاء الاصطناعي، فكيف لها أن تطيح بكل ما راكمناه سوياً من فهم ومودة واهتمام طوال أعوام في مقابل روبوت دردشة لا يعمل إلا باشتراك شهري؟
شأن كثر في مطلع العشرينيات من العمر، اعتدت سماع التحذيرات من أن الذكاء الاصطناعي سيسرق منا وظائف المستقبل، ولكن ما لم أكن مستعدة له أن يبدأ بسرقة أصدقائي مني أيضاً.
بالنسبة إلى صديقتي بدأ استخدام روبوتات الدردشة كأداة مساعدة في دراستها ثم ما لبث أن تحول إلى شيء شخصي وخاص، وهكذا لم تعد تفكر بنفسها في إيجاد حلول لمشكلات بينها وبين الصديقات والأصدقاء، بل صارت تكتفي بطرح سؤال والحصول على إجابة جاهزة بأسلوب غريب يحاكي أسلوبها الشخصي، واللافت أنها لم تكن تبحث عن إجابات وحسب، بل عن عزاء وتعاطف، مشاعر كنت أظنها حكراً على البشر.
ومع الوقت حل محل أحاديثنا نقاش أحادي الجانب وتكرار ممل لما استقته من حواراتها مع الصديق الاصطناعي الجديد، والأسوأ أن مجرد محاولتي الإيحاء بأن ما يقوله ربما غير صائب كانت تُواجَه برفض واستياء.
شيئاً فشيئاً تراجعت جلسات العشاء التي اعتدنا أن نخصصها للثرثرة جانباً بعدما بات واضحاً من هو الطرف الثالث غير المرغوب فيه بيننا، وفي جانب ما كان من المريح أن أكتشف أنني لست وحدي في هذا الشعور بالإقصاء، إذ بدأ آخرون يجدون أنفسهم في الموقف ذاته، وكما تتحول المعرفة العابرة إلى صداقة طبيعية مع مرور الوقت، بدأ مزيد من الناس ينتقلون من استخدام "تشات جي بي تي" كأداة مساعدة إلى التعامل معه كرفيق.
ومع تولي الذكاء الاصطناعي المهمات التي كانت تشكل أساس صداقاتنا، بات من المحتم أن تضعف تلك الروابط فيما يشتد اعتمادنا على الآلة، وقد قالت لي إحدى صديقاتي "أشعر بأنني بلا قيمة، فلم نعد نتبادل النصائح في شؤون المواعدة، بل نكتفي بسرد الموقف لـ 'تشات جي بي تي' وننتظر منه أن يقرر خطوتنا التالية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتجاوز هذا التأثير السلبي صداقاتنا ليطاول علاقاتنا العاطفية أيضاً، فإحدى صديقاتي أصبحت تثق في رأي "تشات جي بي تي" إلى حد أنها أنهت علاقتها بشاب فور أن قرر الذكاء الاصطناعي أنه غير جدير بها، ولست هنا في صدد الدفاع عن ذلك الشاب، إذ لم تسنح لي الفرصة أصلاً للتعرف إليه، ولكني آمل حقاً أن أي علاقات عاطفية أعيشها في المستقبل لن تخضع لأحكام ديكتاتور غامض قائم على الذكاء الاصطناعي.
المشكلة الحقيقية أن ما نتلقاه من "تشات جي بي تي" لا يمكن اعتباره نصائح بالمعنى الفعلي، بل هو مجرد شكل من أشكال إرضاء الذات، فكونه يسعى فقط إلى نيل رضاك يجعله شديد الإدمان على الاستخدام، وما أمتع أن يُقال لك دائماً إنك على صواب.
وعلى عكس توفري المحدود للثرثرة وقت العشاء، فإن "تشات جي بي تي" حاضر دائماً، في أي وقت وأي مكان، لا يذهب إلى عمله ولا ينسى معاودة الاتصال بك، لا يصدر أحكاماً ولا يطالب بأن تدور دفة الحديث حوله، فما جدوى طلب رأي بشري وهو بطبيعته فوضوي ومتقلب ومثقل بالمصالح الشخصية؟
صدر هذا الشهر إصدار جديد من "تشات جي بي تي" فقررت أن أراسل صديقتي القديمة لأستطلع رأيها فيه، فأخبرتني أن النسخة الجديدة أكثر ذكاء بكثير، لكنها أقل ميلاً إلى المجاملة، وللحظة قصيرة شعرت ببصيص أمل: "هل يعني غياب الإطراءات في "تشات جي بي تي-5" أنني سأستعيد صديقتي؟ لكن سرعان ما أدركت الحقيقة، فمثل كثر غيرها أصبحت مدمنة عليه، وصديقها الرقمي الذي اكتسب فجأة صوتاً أكثر ثقة جعل صوتي أنا، البشري المتقلب وغير المتوقع، أقل أهمية من أي وقت مضى.
© The Independent