ملخص
التحول السريع في مواقف طهران لا يسقط احتمال أن يكون هذا التعاون والانفتاح على "الوكالة الدولية" ضمن آلية جديدة تهدف إلى إسقاط الذرائع والتحضير لخطوات مختلفة تضمن لإيران إحداث تغيير جدي في المعادلات القائمة، بخاصة في قطع الطريق على معضلة التفاوض حول قدراتها الصاروخية التي تشكل سلاحها الدفاعي والردعي الفعال أمام الأخطار العسكرية، أي محاولة إرساء معادلة التنازل في النووي مقابل إخراج القدرات الدفاعية الصاروخية والطيران المسير من التداول، وإبعاده من طاولة التفاوض.
يقول أستاذ العلوم السياسية والثقافة السياسية الطبيعة الإيرانية الدكتور محمود سريع القلم "إننا نحن الإيرانيين لا نقبل التغيير من طريق الاستدلال، بل نقبل هذا التغيير عندما نواجه الأزمات"، وقد يكون هذا الوصف هو الأقرب في التعبير عن الحال أو الوضع الذي تعيشه السلطة الإيرانية خلال هذه المرحلة، فهي من ناحية تعيش في ظل هاجس التعرض لمواجهة جديدة من الضربات الأميركية والإسرائيلية نتيجة التمسك بمواقفها على طاولة التفاوض حول برنامجها النووي، وقد تحولت هذه الهواجس إلى قلق مصيري ووجودي بعد التغييرات التي أدخلها الرئيس الأميركي دونالد ترمب على العقيدة القتالية الأميركية، وإعادة التركيز فيها على مفهوم الحروب الاستباقية بدلاً من مفهوم الدفاع، عندما قرر تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب لتكون أكثر انسجاماً مع إستراتيجية "السلام بالقوة" التي تبناها مع دخوله إلى البيت الأبيض مرة ثانية.
من ناحية أخرى باتت على قناعة تقارب اليقين بأن واشنطن ومعها إسرائيل والـ "ترويكا" الأوروبية، على استعداد للقيام بأي عمل من أجل حسم الجدل وما بقي من مسائل عالقة من البرنامج النووي بصورة نهائية من أجل الانتقال إلى الملفات الأخرى، بخاصة ملف القدرات الدفاعية التي يشكل البرنامج الصاروخي وسلاح المسيرات الحربية قمة الهرم فيها، وبخاصة أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سبق له أن تحدث بوضوح وصراحة عن ضرورة البحث في مستقبل البرنامج الصاروخي الإيراني بعد الانتهاء من أزمة الملف النووي، باعتباره يشكل تهديداً لاستقرار وأمن الشرق الأوسط وأوروبا، وأن العودة لمجلس الأمن تشكل مدخلاً سهلاً من أجل السيطرة على هذه القدرات، ولا سيما أن القرار المعلق رقم (1929) الصادر عام 2010 نص بوضوح على منع إيران من تطوير برنامجها النووي وتطوير صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية، وفرض قيود على مبيعات الأسلحة الثقيلة لإيران، فضلاً عن تزايد المخاوف من تصاعد الأزمة الاقتصادية الداخلية في حال أعاد مجلس الأمن تفعيل العقوبات التي سبق أن عطلها قراره رقم (2231) بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع السداسية الدولية عام 2015، وأن تفاقم الوضع الاقتصادي الذي بلغ ذروته خلال الأشهر الأخيرة وموجة الغلاء الكبيرة والفاحشة في الأسعار بمختلف أنواعها، بخاصة المعيشية واليومية التي تمس الطبقات الفقيرة التي زادت فقراً، والمتوسطة التي تنحدر سريعاً نحو الفقر، وبات الوضع الاقتصادي يهدد استقرار النظام وينذر بإمكان حصول انفجار داخلي، قد يغني عن أي عمل عسكري من الخارج.
وقد يضاف إلى هذه المعطيات أن طهران لمست بوضوح عدم رغبة شركائها الشرقيين في الاقتصاد والاتفاق النووي، الصين وروسيا، في التورط بمواقف تصعيدية تحمل أخطار نشوب حرب مفتوحة في الشرق الأوسط أو غرب آسيا، وأنهما يدفعان باتجاه التوصل إلى تسوية بين إيران والاتحاد الأوروبي من خلال الاقتراح الذي قدمته موسكو ودعمته بكين بتمديد الاتفاق النووي ستة أشهر، وقطع الطريق على إعادة تفعيل العقوبات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هنا، وأمام هذه المعطيات والتحديات فقد لا يكون الإعلان عن توقيع تفاهم للتعاون بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية برعاية مصرية أمراً مفاجئاً، باعتبار أن كلا الطرفين سبق وأكد العمل على صياغة آلية للتعاون جديدة تأخذ بالاعتبار المستجدات التي نتجت من الضربة العسكرية الأميركية - الإسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية، وتراعي الخطوط التي استحدثها البرلمان في القانون الذي أقره حول تعليق التعاون مع الوكالة، والذي بات من صلاحيات المجلس الأعلى للأمن القومي.
لكن المفاجئ في التوقيع على هذا التفاهم أنه جاء بتوقيت عواصم الـ "ترويكا" الأوروبية الشريكة في مجموعة السداسية الدولية والراعية اتفاق عام 2015، والتي أطلقت مطلع سبتمبر (أيلول) الجاري جهود إعادة تفعيل عقوبات مجلس الأمن التي علقت بالقرار (2231)، بما فيها إعادة إدراج إيران تحت المادة الـ 41 من البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ويبدو أن الفريق الإيراني المفاوض ممثلاً في وزارة الخارجية قد سمع خلال اللقاء الثالث الذي عقد في جنيف قبل أيام موقفاً واضحاً من ممثلي الـ "ترويكا" الأوروبية يتعلق بالشروط التي سبق أن وضعتها هذه العواصم لوقف مسار الانتقال إلى مجلس الأمن، وفي مقدمها عودة التعاون مع "الوكالة الدولية" لاستئناف نشاط مفتشيها في المنشآت النووية، والاطلاع على حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت التي تعرضت للضربات الأميركية، والكشف عن مصير مخزون اليورانيوم المخصب بدرجة 60 في المئة، والسماح لهم بزيارة الموقع الجديد غير الملعن الذي نقل إليه هذا المخزون، وتجري فيه أنشطة تخصيب بعيداً من أعين الوكالة.
فتح الجغرافيا الإيرانية أمام عودة أنشطة "الوكالة الدولية" واستئناف عمليات التفتيش لكل المنشآت، حتى وإن كان مشروطاً بموافقة وتقدير المجلس الأعلى للأمن القومي، يكشف بوضوح عن وجود قناعة إيرانية بضرورة العودة للحوار والتعاون مع المجتمع الدولي وتفكيك عقد الأزمات التي تهدد بالأسوأ، وتكرس ظلال الحرب فوق إيران ونظامها، وقد يتوسع هذا التعاون باتجاه إعادة تفعيل آلية التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية الذي أدرجته عواصم الـ "ترويكا" على طاولة شروطها للتفاوض مع طهران، كعامل مساعد للتخلي عن جهودها لإعادة تفعيل آلية الزناد.
هذا التحول السريع في مواقف طهران لا يسقط احتمال أن يكون هذا التعاون والانفتاح على "الوكالة الدولية" ضمن آلية جديدة تهدف إلى إسقاط الذرائع والتحضير لخطوات مختلفة تضمن لإيران إحداث تغيير جدي في المعادلات القائمة، بخاصة في قطع الطريق على معضلة التفاوض حول قدراتها الصاروخية التي تشكل سلاحها الدفاعي والردعي الفعال أمام الأخطار العسكرية، أي محاولة إرساء معادلة التنازل في النووي مقابل إخراج القدرات الدفاعية الصاروخية والطيران المسير من التداول، وإبعاده من طاولة التفاوض.