ملخص
على رغم الظروف الأمنية التي شهدتها المدينة أخيراً في حيي الشيخ مقصود والأشرفية، أصر فنانو عاصمة الشمال السوري على إطلاق دورة جديدة من مهرجان حلب المسرحي (مديرية المسارح والموسيقى).
كان لمدينة حلب إرث عريق في هذا المجال يمتد في الزمن لأكثر من قرن ونصف القرن، إذ يعود تاريخ أول عرض مسرحي في حلب إلى عام 1872، حمل العرض وقتها عنوان "بريجيت"، وجاء بتوقيع الفنان الرائد يوسف نعمة الله جاد (1942-1903)، كما كان للفِرق المسرحية الوافدة الأثر الأكبر في تأسيس الريبرتوار الحلبي، ففي عام 1954 قدمت الفرقة الفرنسية للكوميديا عروضها الثلاثة: "بشارة مريم" و"كروم الرب" و"جيجي" على خشبة النادي الكاثوليكي.
وبدا الخوف تيمة رئيسة في معظم عروض المهرجان الذي افتتح برنامجه بمسرحية "فوبوس"- (اسم لأحد قمرين يدوران حول كوكب المريخ ويعني "الخوف")، مخرج العرض عبدالهادي البُني اعتمد على توليف عناصر الرقص والتمثيل والإيماء ضمن صيغة المسرح الشامل، واتكأ في ذلك على محاكاة أصداء الجريمة الأولى لقتل قابيل أخاه هابيل، فيما انتصر للمرأة ككائن ما ورائي تجسد الخير والشر في آنٍ معاً، وذلك تبعاً لما حاول "فوبوس" شرحه حول الطبيعة الإنسانية وتوق الرجال والنساء القديم إلى الانعتاق معاً من قيودهم الاجتماعية والنفسية.
سعى "فوبوس" عبر (48 دقيقة) وهو زمن العرض، إلى طرح سؤال الخوف كنظام وبنية اجتماعية أكثر منه شعوراً فردياً عابراً. معالجة فنية جريئة لموضوعات كالثروة والجنس والسلطة تجسدت عبر لعبة تبادل أقنعة بين الضحية والجلاد. أتى ذلك عبر تمهيد درامي بسيط باللهجة العامية، ثم انتقل إلى حوار الشخصيات بلغة أقرب إلى المسرح الشعري، لعل "فوبوس" كان أكثر انتماء إلى صيغة أداء جماعي رافقته مختارات موسيقية صاخبة، إلا أنه اقتصد في ديكوراته (اعتمد على مجموعة من الكراسي)، جاعلاً من الجسد حواراً مستمراً مع ثنائية الضوء والموسيقى.
عميان "الجزيرة"
بدوره جسد عرض "الجزيرة" لمخرجه محمد مروان إدلبي مفهوم الخوف الجماعي من المجهول، فالعرض المقتبس عن نص "العميان" للكاتب البلجيكي موريس ميترلنك (1862-1949) تجلى فيه الأداء الجماعي لمجموعة من شبان وفتيات فقدوا الوجهة بعدما اقتادهم الدليل إلى غابة مهجورة، هناك بدا الحلم بمخلِّص نوعاً من العبث، جسّد الممثلون من خلال أداء حركي ونفسي صعوبة تنقّل ستة من العميان في غابة تقع ضمن جزيرة معزولة، فلقد تاه هؤلاء بعد فقدانهم أثر الكاهن الذي خرج بهم من الملجأ إلى أحضان الطبيعة، وذلك كي يستمتعوا بنور الشمس قبل حلول فصل الشتاء. يكتشف العميان في ما بعد أن دليلهم الوحيد قد فارق الحياة قربهم، وذلك بعد عودة كلبه نحو أحد العميان، ونباحه على جثة صاحبه الطاعن في السن.
اعتمد مخرج "الجزيرة" تقنية عكست أجواء الغابة الموحشة عبر تقنية الشاشات وخيال الظل، منهياً العرض بولادة طفل فقد صوت بكائه. خاتمة تلاقت مع نهاية مسرحية "طفل زائد عن الحاجة" لكاتبها عبدالفتاح قلعجي ومخرجها محمد ملقي. تدور أحداث هذا العرض حول زوجين (أحمد عزيزي، ميرا مازن) يعيشان داخل كهف رطب ومعتم، ويكابدان صعوبة الظروف، مما يمنعهما من قبول فكرة ولادة طفلهما المرتقب. سيرتب هذا الخوف أعباء إضافية لا قِبل لهما بتحملها، فيحاول الزوجان جاهدين تأخير خروج الطفل الوليد إلى الحياة، فلقد شهد كل من الرجل والمرأة أحداثاً دموية مرعبة، الأمر الذي يحيل اقتراب لحظة المخاض أشبه بكابوس يقض مضجعهما. هنا تحتشد صور من ذاكرة الشريكين عن آباء وأمهات مروا في هذا الامتحان في بلاد تنتقل من حرب إلى حرب، ويدهم شبح العوَز والفاقة حياة الصغار قبل الكبار. الخوف هنا أيضاً من مستقبل غامض للطفل القادم كان تيمة مسرحية "طفل زائد عن الحاجة"، لكنه خوف استبد بالشخصيتين، وجعل منه خطراً على حياة وليدهما القادم، فكل دقيقة يتأخران فيها عن اتخاذ القرار تصبح بمثابة قرار إعدام للطفل المرتقب.
مخرج وممثلة
ولم يبتعد عرض "لوكيشن" لمخرجه الفنان حكمت نادر العقاد عن تيمة الخوف، لكن هذه المرة عبر قصة مخرج سينمائي يخفق مرات ومرات في العثور على ممثلة تقوم بدور بطولة فيلمه، إذ يجري جو (محمد السقا) تجارب أداء لعدد من الممثلات الشابات، وعندما يفقد الأمل بإيجاد ضالته تحضر جوليا (منيسا ماردنلي) إلى الاستوديو متأخرة، وتصر هذه على أن يخضعها المخرج لتجربة أداء، وتحت إلحاح الفتاة يجري المخرج تجربته معها، فيكتشف موهبتها وقدرتها على التماهي مع الفرضيات التي يطالبها بأدائها. تنقلب بعدها الأدوار، ويدخل المخرج في أداء فرضيات تقترحها الممثلة الشابة ليقوم المخرج الأربعيني بأدائها، لكن ما هي سوى لحظات حتى تحضر ناديا (نجاة كاتبي) زوجة المخرج، فنكتشف أن ليس هناك من تجربة أداء، بل هي أوهام يعيشها رجل دخل في نوبة فصام بعدما رفضت الرقابة إجازة النص الذي كتبه عن قصة رسّام وفتاة عمياء اشتغلت لديه كموديل للوحاته.
حرص مخرج "لوكيشن" على أجواء حالمة للسينوغرافيا التي صممها بنفسه، وهي عبارة عن ستائر بيضاء حفّت بالفضاء، فامتصت منابع الضوء الجانبية لصالح لعبة يتماهى فيها اللعب المسرحي مع شريط سينمائي متخيل، وعكس بذلك أجواء تجارب الأداء وما يكتنفها من مكاشفة نفسية بين المخرج والممثلين الجدد، وما يتبع ذلك من اعترافات وبوح يلتبس فيه الشخصي بالشأن العام. الخوف هو تجلٍّ آخر لحوارية لاهثة ومواقف أبرمها العقاد مع ثلاث شخصيات أحالها الجزع من المواجهة والاعتراف بالهزيمة الشخصية إلى نكوص نحو ما يشبه أحلام اليقظة، فالمخرج الذي عجز عن تحقيق فيلمه الموعود يتحول إلى تحقيق شريطه السينمائي بالوهم ويحيل بيته إلى استوديو للتصوير، مستسلماً لواقع يزداد حلكة وسواداً من حوله، أما الزوجة فتذعن لرغبات زوجها المريض، فتحاول عبثاً إعادته إلى الواقع، لكنها تفشل في كل مرة أمام إصرار المخرج على مطاردة حلمه السينمائي.
وفي عرض "كلمات بلا معنى" حضرت أسئلة الوجود عبر حكاية مهندس فاسد (عبدالباري شهابي) لجأ إلى قرية نائية فأوهم سكانها أنه جاء لتشييد مشاريع حيوية تنعش بلدتهم، لكن هذا المهندس سيخضع لما يشبه جلسات استجواب أمام نحات (أحمد حاج علي) وحفّارة قبور (شهد دبّاس). لعبة استعادة كل جرائم الرجل الذي هجر زوجته وأبناءه ستكشف ماضي المهندس، وأنه كان شخصاً انتهازياً اختلس المال العام. العرض المأخوذ عن نص للكاتب المصري محمد حلمي حققه للخشبة الفنان سامي درويش، الذي دمج بين الأداء الواقعي والرقص والإيماء عبر شخصيات أخذت هيئة تماثيل ومنحوتات بشرية. محاولة كان لافتاً فيها حضور السينوغرافيا (صممتها بتول عبدالغني). جسدت المصممة الشابة من خلالها رسوماً لساعات بأرقام رومانية على خلفية سوداء، وجاءت جميعها مع توليف الجسد الملفوف بالشاش الطبي ورفقة قناديل وأقنعة عكست مناخاً من الترقب الدرامي للعرض.
مسرحية "الجلاد"
"القتل ليس الإعدام، فالأول يقترفه المجرمون، أما الثاني فوظيفة لإحلال العدالة وتنفيذ الأوامر"، العبارة السابقة تبدو وكأنها تختصر حكاية عرض "الجلاد" لمؤلفه الكاتب العراقي أحمد الماجد ومخرجه ثائر جلجوقة. المناخ المرسوم لمسرحية "الجلاد" جاء موازياً لمضمونه الشائك، فالجلاد (محمد قصاب) هو ابن الجلاد وحفيده وجدّه، إنها سلالة ترصف طريقها بجماجم المفقودين واستغاثات الضحايا. تاريخ من عذابات لا تنتهي شهدها الجلاد وحمل إرثها الدموي الثقيل كابر عن كابر، ومع هذه التركة الثقيلة يصبح من الصعب الاستمرار في الحياة، فأطياف ضحايا أبيه يخرجون عليه من غرفة نومه ومن جسده وسرير الزوجة (وعد الرزوق) التي لا تفتأ تذكِّره بصيحات المقهورين، وبآباء الضحايا وهم يرنون إلى ساحة الإعدام، المكان الذي جسده مخرج "الجلاد" مرةً إثر مرة عبر تنويعات الإضاءة وقطع ديكور بسيطة، فاستطاع جلجوقة من خلالها استحضار شهقات المحكومين بالإعدام، وأجسادهم المنتفخة على مقاصل العقاب الجماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويبدو من خلال المناخ النفسي لشخصيتي العرض أننا أمام محاكمة علنية لتاريخ من القتل الذي يتوارثه الجلاد عن أبيه، ومعه نسمع أصداء صرخات التعذيب وصوت زرد السلاسل والأقدام المثقلة بالقيود وهي تجر أجسامها المتهالكة إلى أعواد المشانق. مع هذه الحشود اللامرئية يزداد اختناق ابن الجلاد، وتمتد غابات من أيدي القتلى إلى عنقه، فالزوجة تخاف من أن تلد حفيداً يصبح جلاداً كأبيه وجده، وابن الجلاد يبدو محاصراً بضحايا عائلته الدموية، خوف ورعب من بعث الضحايا لمحاكمة الرجل الذي ورث تركة ثقيلة، سكرات الموت في أقبية المعتقلات تردد ثنائية الجلاد والضحية في متتالية لا نهائية.
وحضر نص "بعيداً عن السيطرة" للكاتب السعودي فهد ردة الحارثي كختام لعروض مهرجان حلب، وجاء بتوقيع المخرج فادي محمد سعيد. يروي العرض هروب أربع شخصيات من عالم الأدب إلى عالم الواقع بحثاً عن حريتها خارج النص المكتوب، لكن تغييرات جوهرية ستطرأ على حياتها المتخيلة، فحفّار القبور (محمد سبّاغ) يتحول إلى بهلوان، والشاعر الرومانسي (جهاد خربوطلي) يفقد إلهامه بعد أن يفاجأ بقسوة الحياة الواقعية، فيما تستحيل الحياة خارج دفتي كتاب تصطدم بطلة الرواية (ثناء صقر) ومعها الراوي (عبد حمّال) بتحديات تطاول الهوية، فيقرر الجميع العودة إلى الرواية التي خرجوا منها، لكن هيهات، فلقد تكالبت الظروف على الشخصيات فتورطت في واقع لا فكاك منه. جسّد "بعيداً عن السيطرة" مستوى رمزياً من الصراع الدرامي عبر أداء لافت أدت فيه الإضاءة دوراً محورياً في الانتقال من ذروة إلى ذروة، من دون الإخلال بتوجه الأداء للممثلين الأربعة.
وتوزعت عروض المهرجان السبعة بين مسرحي "دار الكتب الوطنية" و"خشبة نقابة الفنانين"، وتشكلت لجنة تحكيم المهرجان برئاسة الفنان الفلسطيني زيناتي قدسية، وعضوية كل من الفنانين حازم حداد وحسين العرب وهاشم غزال ورغداء جديد. أعقب كل عرض ندوة نقاش مفتوحة مع الجمهور والنقاد والمهتمين، وذهبت جائزة أفضل عرض لمسرحية "الجزيرة" لمخرجها محمد مروان إدلبي، بينما فاز عرض "بعيداً عن السيطرة" بجائزة أفضل إخراج لفادي محمد سعيد، في حين نالت الفنانة منيسا ماردنلي جائزة أفضل ممثلة عن دورها في مسرحية "لوكيشن" للمخرج حكمت نادر العقاد، وتقاسم كل من الفنانين محمد السقا "مسرحية لوكيشن" وأحمد عزيزة "طفل زائد عن الحاجة" جائزة أفضل ممثل.