Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نورمان ميلر وسر المجرم الذي فضل الإعدام على السجن

"أنشودة الجلاد" نص من ألف صفحة ينتمي إلى الصحافة الجديدة

نورمان ميلر (1923 – 2007) (غيتي)

ملخص

في كتابه "أشودة الجلاد" اتتن الكاتب الأميركي نورمان ميلر بالمجرم المدان غاري غيلمور الذي رفض استئناف حكم إعدامه، لأنه فضل الموت على حياة السجن

اشتهر الاثنان بالمشاكسة وبسلاطة اللسان (وسلاطة القلم أيضاً)، ولكن كان هناك بينهما في أحيان كثيرة نوع من "اتفاق الجنتلمان"، إذ على رغم أن كلاً منهما خاض معارك عدة وشرسة ضد الزملاء الآخرين، فإن أية معركة حقيقية لم تندلع بينهما. ومع هذا سمع كثر ترومان كابوتي (وهو أولهما)، يقول مرة إن نورمان ميلر (وهو ثانيهما)، ما كان سيكتب عمله الأساس غير الروائي، "أنشودة الجلاد" لو لم يشأ أن يقلد كتابه أي كتاب كابوتي الأشهر "بدم بارد".

وهذان الكاتبان اللذان نتحدث عنهما هنا، كانا من أشهر كتاب الأدب الأميركي الجديد، لكنهما كانا أيضاً، بين كتاب كثر في عالمنا المعاصر، من الذين افتتنوا بالجرائم وأصحابها، كما أضافوا إلى الأدب، بشكل عام، لمسة توثيقية استقت من الواقع ولكن ليس من أجل تحويل هذا الواقع إلى روايات، بل من أجل استخدام أسلوب الأدب الروائي لوصف أحداث واقعية. وهذا ما قرب بين أدبهما وبين ما يطلق عليه في الحياة الثقافية الأميركية اسم "الصحافة الجديدة" (نيوجورناليزم).

تمايز في كتابة الواقع

في حال ميلر (الراحل عام 2007 عن 84 سنة)، وكما في حال كابوتي، ثمة تمايز على أي حال بين كتابة الرواية المستندة إلى واقع حقيقي، والكتابة عن واقع ما بأسلوب روائي. وهذا التمايز يمكن أن يظهر من خلال المقارنة، مثلاً، بين أول أعمال ميلر الكبرى، رواية "العرايا والموتى" التي يحكي الكاتب في نصها الروائي عن حياته كجندي خلال الحرب العالمية الثانية، محولاً ذاته ورفاقه في الحرب إلى شخصيات روائية، وبين الكتاب الذي نحن في صدده هنا "أنشودة الجلاد".

ولعل في إمكاننا القول إن ميلر قسم متن عمله إلى خانتين رئيستين. ومن هنا، صحيح أن كتابه الأخير، الذي صدر قبل أشهر من موته في عنوانه "الحصن في الغابة" يروي فصولاً من حياة الطفل الذي كانه أدولف هتلر، وفي شكل موثق وتاريخي، لكن هذا الكتاب يدخل في خانة الرواية. أما "أنشودة الجلاد" فأشبه بتحقيق صحافي في نحو ألف صفحة أرخ من خلاله ميلر، لحياة وموت المجرم الأميركي غيلمور الذي أعدم رمياً بالرصاص عام 1977، بعدما خير بين السجن مؤبداً والإعدام، فاختار الإعدام لأن "وطأته أخف من السجن المؤبد" وفق قول ميلر.

والحقيقة أن ميلر إنما انطلق في كتابه هذا من ذلك الاختيار، ليضع نصاً طويلاً مدهشاً، يصعب تصنيفه أدبياً أو فكرياً، حتى وإن كان ينتمي منطقياً إلى الخانة نفسها التي ينتمي إليها "بدم بارد" لترومان كابوتي. فهذا الأخير إذ كان أرسل موفداً من مجلة "نيويوركر" لكتابة تحقيق عن إعدام المجرمين اللذين قتلا "بدم بارد"، أسرة من المزارعين، انتهى به الأمر إلى أن يفتتن بالمجرمين، أو بواحد منهما، فقرر أن يحول التحقيق إلى نص طويل، يتسلل من خلاله، ليس فقط إلى نفسية المجرم ودوافعه وما فعل وتأثير ذلك في الناس، بل كذلك إلى ذلك السر الغامض الذي يجعلنا أحياناً مفتونين بالمجرم، وبالجريمة بوصفها "نوعاً من الفنون الجميلة"، وفق تعبير قاسٍ، إنما موفق، للإنجليزي دي كوينسي.

افتتان مشترك بالقتلة

إذاً، كان واضحاً أن لافتتان كابوتي بمجرمي "بدم بارد" فضلاً في ولادة "بدم بارد". وكذلك فإن افتتان نورمان ميلر بغاري غيلمور كان بدوره ذا فضل أساس في ولادة "أنشودة الجلاد". ومن الواضح أن غيلمور إنما دخل سجل الخلود، بفضل هذا الكتاب، الذي يعد من أقوى ما كتب نورمان ميلر. فغيلمور في الأصل ليس أكثر من مجرم عادي اقترف جريمتين أول عام 1977... ثم حوكم وحكم عليه بالإعدام، وإذ طلب منه أن يستأنف الحكم على اعتبار أنه يمكن أن يخفف إلى سجن مؤبد، رفض مفضلاً الموت كما قلنا.

وإذ ظل هذا التفضيل غامضاً، أتى كتاب نورمان ليوضح الأمر: قال لنا أن غيلمور ربي يتيماً، ضمن بيئة طائفة المورمون، التي تؤمن بالحياة بعد الموت (بأسلوب يراوح ما بين التقمص وخلود الروح). والمرجح أن نورمان ميلر، قرر أن يكتب ذلك النص الطويل انطلاقاً من هذه الفكرة التوضيحية، خصوصاً أن الكاتب كان مهموماً خلال تلك المرحلة من حياته بكتابة رواية عن العصر الفرعوني عنوانها "مساءات قديمة"، سينجزها بعد "أنشودة الجلاد" بأربع سنوات... وقد لا نكون هنا في حاجة إلى الإسهاب في الحديث عن أن فكرة الخلود هي التي تسيطر أيضاً على "مساءات قديمة"، ما يفسر الرابط - في فكر ميلر - بين العملين.

الإعدام الأول

لقد كان إعدام غاري غيلمور أول إعدام يتم في ولاية أميركية (هي يوتاه) منذ أعيد العمل بالإعدام عام 1976. وواضح أن هذا الأمر أضاف عنصراً جديداً أعطى "أنشودة الجلاد" أهميتها، وجعل تبنيها ممكناً ممن كانوا يحاولون دفع السلطات إلى إلغاء الإعدام كحكم قضائي من ناحية، ومن كانوا يرون حكم الإعدام مفضلاً على السجن المؤبد، من ناحية ثانية. فالحجج التي يمكن أن تستقى في الحالين قوية. وعلى أي حال، فإن ميلر سيقول لاحقاً، إنه لم يؤلف هذا الكتاب انطلاقاً من هم أيديولوجي أو لرغبة في أن يدلي برأي قاطع في المسألة، بل ألفه بهم جمالي وإنساني.

ومن هنا، بدلاً من أن يلجأ إلى صيغة سردية، ركب معظم صفحات الكتاب من حوارات صاغها كما هي، أجراها مع أفراد من عائلة المجرم ومع أصدقائه كما مع أناس عرفوه من دون أن يرتبطوا به. ولقد جعل ميلر الكتاب في قسمين، مركزاً أول الأمر على الأحداث التي أدت تباعاً، إلى ارتكاب غيلمور جريمته المزدوجة، ثم إلى القبض عليه فمحاكمته وصولاً إلى إعدامه... بما في ذلك نشر الوثائق المتعلقة بالمحاكمة، وخصوصاً المرافعات التي أكد فيها غيلمور أنه يفضل الإعدام على السجن.

تربية فاسدة

في القسم الأول من الكتاب يحدثنا نورمان ميلر عن طفولة غيلمور و"تربيته الفاسدة"، وصولاً إلى إدخاله إصلاحية الأحداث، ثم السجن مرات، بسبب جنح ومفاسد ارتكبها. ويركز هذا القسم خصوصاً على الأشهر الكثيرة التي مرت بين خروج المجرم الشاب آخر مرة من السجن وارتكابه جريمته المزدوجة الأخيرة التي سرعان ما سجن وحوكم عليها.

أما في القسم الثاني، فإن ميلر يركز على المحاكمة نفسها، لا سيما على مراحلها الأخيرة حين صدر حكم غير مبرم بالإعدام، وبدأ المحامون، وحتى النائب العام، يقنعون غيلمور بأن يستأنف الحكم، إذ قام صراع عنيف بين المجرم والمدافعين عنه، من حول هذه القضية: هو يرفض ويصر على أن يعدم، من دون أن يجد مبرراً مقنعاً لموقفه، وهم يصرون، ليس رأفة به فحسب، بل لعدم رغبتهم في أن تسوء سمعة ولايتهم بصفتها أول ولاية تنفذ، في ذلك الحين، حكماً بالإعدام.

في هذا المعنى يمكن قراءة هذه الصفحات الرائعة من كتاب نورمان ميلر، لكونها صفحات تصور "هذا الانتقام" الموارب الذي مارسه غيلمور إزاء ولاية يوتاه، وسط سجال حاد كان يدور على المستوى القومي في ذلك الحين من حول قضيته، وأيضاً كما أشرنا من حول قضية الإعدام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تفسير مغاير تماماً

غير أن نورمان ميلر (1923 - 2007) قدم في هذا المستوى بالذات تفسيراً كان جديداً ولافتاً: مسألة انتماء غيلمور إلى الفكر المورموني، وهي مسألة لم تكن واضحة تماماً للرأي العام.

مهما يكن، قدم نورمان ميلر، في هذا الكتاب إسهاماً جديداً في لون كتابي أميركي كان في ذلك الحين بلغ ذروة نجاحه، ليقلد لاحقاً في بلدان عدة وفي آداب، وجدت على أي حال سلفاً كبيراً لهذا اللون في إميل زولا ونزعته الطبيعية في الأدب. وهذا الإسهام الذي قدمه ميلر، أعاد إليه اعتباره ككاتب كبير، بعدما كانت كتب عدة له، فشلت طوال أكثر من عقدين من الزمن في أن تعيد إليه مجداً كان تحقق في أول رواية له ("العرايا والموتى").

وسيظل هذا دأبه: يصدر عملاً كبيراً يحدث ضجة وسجالاً... ثم يغيب في النسيان فيضطر إلى إشعال معارك أدبية أو سياسية حتى يعود ليصدر بعد سنوات كتاباً كبيراً جديداً، يحدث ضجة أول الأمر، قبل أن يصبح كلاسيكياً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة