ملخص
تعاني سوق لندن المالية تراجعاً في استثماراتها وتداولاتها نتيجة أسباب بعضها يرتبط بالقوانين والآليات، وأخرى يتسبب بها الواقع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه البلاد عموماً، مما صعد المطالبات بتدخل حكومي ينقذ السوق التي يعود تاريخها لـ300 عام.
قبل أكثر من 100 عام قال رئيس "بنك لندن الاتحادي" جون لبوك إن الجميع يعترف بالمملكة المتحدة مركزاً مالياً للعالم، حينها كانت العاصمة البريطانية بمثابة مصرف الكوكب، وسوقها المالية تعادل في قيمتها سوقي نيويورك وباريس معاً، لكن واقع الحال اليوم مختلف والأسوأ يخيم على توقعات الأشخاص والمؤسسات.
سوق الأسهم في لندن اليوم تنكمش بأسرع وتيرة منذ عام 2010، والشركات المدرجة تتخلى عنها نحو أوطان جديدة في أوروبا والولايات المتحدة، وحتى صناديق التقاعد البريطانية التي كانت توظف 53 في المئة من أصولها في هذه السوق عام 1997، باتت قيمة استثماراتها فيها لا تتجاوز ستة في المئة عام 2025.
ووفقاً للأرقام الرسمية المنشورة، فإن 35 في المئة من الشركات المدرجة دولية الطابع، وعام 2024 انضمت إلى السوق تسعة إدراجات جديدة، كما جمعت 274 شركة 25 مليار جنيه استرليني من رأس مال الأسهم في السوق عبر تنفيذ 344 صفقة، وصعدت كميات التداول اليومية على أساس سنوي بنسبة 15 في المئة في الأقل.
يقول الأكاديمي في كلية "لندن" للأعمال راما براساد كانونغو إن قبل عقدين من الزمن كانت الأسهم المدرجة في بريطانيا تمثل 11 في المئة من مؤشر "MSCI" للأسهم العالمية، أما الآن فلا تمثل سوى أربعة في المئة فقط. وأضاف أنه منذ عام 2020، أي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، انتقلت شركات مدرجة عدة في بورصة لندن بينها "أبكم" و"فيرغسون" ومجموعة "سمورفيت كابا"، إلى الولايات المتحدة.
ووفق كانونغو أيضاً، فإن أكثر من 30 شركة تتجاوز قيمتها السوقية 100 مليون جنيه تغادر أسواق الأسهم العامة في لندن، 13 منها جرى الاستحواذ عليها، بينما شُطبت 17 أخرى من البورصة، كما لفت إلى أن إجمال القيمة السوقية للأسهم المدرجة في لندن انخفض إلى 3 تريليونات دولار عام 2024 مقارنة بـ4.3 تريليون خلال عام 2007، بينما نمت السوق الأميركية ثلاثة أضعاف إلى 53 تريليوناً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المنافسة الشرسة
من وجهة نظر الرئيس التنفيذي لشركة "مزايا الغاف" الاستثمارية محمد علي ياسين، تواجه سوق لندن المالية منافسة شرسة في القارة العجوز وخارجها، فمنذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بدأت عواصم عدة في أوروبا تحاول فرض نفسها كبديل لها تخدم المنطقة والعالم على نحو لم تعُد المملكة المتحدة توفره.
ويلفت ياسين في حديث إلى "اندبندنت عربية" إلى أن ضعف الثقة بالاقتصاد والسياسة المالية للحكومات المتعاقبة بعد "بريكست" سبب نفوراً من سوق المال وقاد إلى انحسار الاستثمارات والاكتتابات فيها، مما ساهم بتراجع أحجام التداولات، إضافة إلى تقلص قدرة المستثمر المحلي على توسيع نشاطه الفردي في هذا الصدد.
ويرى ياسين أن كلفة المعيشة أتت على مدخرات البريطانيين الأفراد التي كان يمكن أن تستثمر في سوق لندن المالية، كما أن كلفة الاقتراض من البنوك بغرض الاستثمار في الأسهم مرتفعة، مقارنة بعائد ضعيف وغير مضمون لأن الاقتصاد عموماً لا يظهر مؤشرات تعافٍ ومشكلاته لن تعالج خلال فترة قصيرة أو متوسطة.
وتشير تقارير صحافية إلى خطط حكومية لتشجيع الاستثمار المحلي في السوق من خلال تقديم إعفاءات ضريبية للمستثمرين في الأسهم وتشجيعهم على إدارة محافظهم بأنفسهم، كما تقدم أيضاً "اتحاد الصناعة" البريطاني بمقترحات إلى الحكومة تصب في السياق ذاته، ومن بينها إعادة النظر في قوانين التوزيعات والأرباح.
الدعم والاقتصاد
وطالب "الاتحاد" وزيرة الخزانة راشيل ريفز بحثّ صناديق التقاعد على توسيع استثماراتها في سوق الأسهم، لكن يخشى من تقلص أصول تلك الصناديق مع استمرار تراجع الاقتصاد عموماً، لذا من الجيد بحسب الصندوق، أن تساهم البنوك الإقليمية المدعومة من الحكومة في تنشيط سوق لندن المالية من خلال إقراض الشركات الناشئة للاستثمار فيها، إضافة إلى جملة إجراءات أخرى يمكن أن تقوم بها الوزيرة.
وتبدو هذه التصورات جيدة نظرياً ولكنها تحتاج إلى تشريعات حكومية ما زالت تدرس، بينما يهاجر أصحاب الثروات والأعمال خشية من تراجع عائداتهم سواء لناحية الحركة الاقتصادية من جهة، أو بسبب التشريعات التي تعدها الحكومة لزيادة موارد الخزانة عبر ضرائب أكثر على الاستثمارات "غير المقيمة" في البلاد.
ويقول المستشار المالي صالح طربيه إن مشكلة سوق المال في لندن هي ملمح من ملامح أزمة كبيرة يعيشها الاقتصاد البريطاني عموماً، بدأت مع اعتماد نظام مساعدات يكلف خزانة الدولة عشرات مليارات الجنيهات الاسترلينية سنوياً من دون أن يقابلها كم مماثل من الموارد المالية، ومن هنا بدأت قصة تباطؤ عجلة النمو.
ويوضح طربيه في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن بريطانيا تدفع أكثر من 110 مليارات جنيه في الوقت الراهن على خدمة الدين العام الذي بات يناظر قيمة الناتج الإجمالي المحلي، والحكومة "العمالية" تعجز عن ردم فجوة في الموازنة ورثتها من سابقتها "المحافظة" تزيد قيمتها على 50 ملياراً وفق بعض التقارير.
والواقع الصعب للاقتصاد البريطاني ينعكس على سوق المال في لندن، فيجعلها أقل جاذبية في أعين الاستثمار المحلي والأجنبي، لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن السوق بحد ذاتها باتت تقليدية الطابع، وتحتاج برأي المستشار المالي إلى تجديد في القوانين والضرائب ونوعية الشركات المدرجة والآلية التي تدار عبرها التداولات.
حتى تقييم أصول الشركات المدرجة في السوق تحتاج إلى إعادة نظر من وجهة نظر طربيه، وإذا ما وجدت الشركات الحالية تقييماً أفضل في أماكن أخرى، فإنها ستنسحب من لندن باتجاه أماكن أخرى حول العالم، وهذا ينطبق أيضاً على المؤسسات التي ترغب في التحول إلى الاكتتاب العام وتبحث عن السوق المناسبة لفعل ذلك.
الاستثمار المحلي
وفق صحيفة "ذا غارديان" تنمو الشركات المدرجة في سوق لندن بصعوبة كبيرة، وعلى رغم ذلك يصر أصحاب الأسهم على توزيع الأرباح سنوياً، والأفراد وصناديق التقاعد يعتمدون على تلك العوائد التي تتآكل أصلاً بفعل التضخم وارتفاع كلفة المعيشة، والشركات لا تتمتع بالملاءة الكافية أو التفاؤل لضخ مزيد من الاستثمارات.
وتوزيعات الأرباح نمت أسرع من الرواتب في المملكة المتحدة بست مرات بين عام 2000 وعام 2019، فشركات سوق لندن تنفق أقل بكثير من نظيرتها الأوروبية في الأبحاث والتطوير وعلى رغم ذلك يعتبر عائد الاستثمار فيها أعلى بمرتين من الأسهم الأميركية، أي إن الاقتصاد البريطاني يتفوق بالعائد ولكن ليس بالإنتاجية.
والشركات المدرجة في لندن معرضة لعمليات استحواذ أجنبية، بينما تتجه مؤسسات اقتصادية ناجحة إلى الخارج لجمع الأموال. شركة أشباه الموصلات البريطانية "آرم" مثال واضح جداً على ذلك، فقد بلغت قيمتها عندما اشترتها شركة "سوفت بنك" اليابانية قبل نحو عقد من الزمن 24 مليار جنيه، وعلى رغم الضغوط السياسية المكثفة لم تتمكن "آرم" من طرح أسهمها للاكتتاب العام في لندن وأدرجت الشركة التي تتخذ من المملكة المتحدة مقراً لها، أسهمها في بورصة "ناسداك" الأميركية، فصعدت بقيمتها السوقية إلى ما يزيد على 85 مليار جنيه، وذهبت معظم عائداتها إلى مستثمرين في الخارج.
وبورصة لندن هي واحدة من أقدم البورصات حول العالم ويمكن تتبع تاريخها إلى أكثر من 300 عام وفق مصادر مختلفة، إذ إنها تأسست رسمياً في الـ30 من ديسمبر (كانون الأول) 1801، لكن تعاملاتها تعود لعام 1698، أما مقرها فبقي حتى 2004 قرب بنك إنجلترا المركزي، ثم انتقل إلى ساحة "باتيرنوستر" في العاصمة.