ملخص
تروي جيهان الكيخيا أنها مذ كانت في السادسة، أخبرتها والدتها بالحقيقة، وعلى رغم أن ذلك خفف من صدمة الفقدان، فما زالت تعيش بشعور دائم من السوريالية. على رغم ذاكرتها المجتزأة ومخاوفها والقيود الثقافية في المجتمع الليبي، تحاول أن تتجاوز هذا الشعور، لتستعيد علاقتها بوالدها وبليبيا على طريقتها الخاصة.
في فيلمها الوثائقي الجميل، "بابا والقذافي"، الذي يشارك في مهرجان البندقية (27 أغسطس/ آب - 7 سبتمبر/ أيلول) كأول عمل سينمائي من ليبيا، لا تبحث جيهان الكيخيا عن بطل، ولا تنصب تمثالاً لأب غيّبه الاستبداد بقدر ما تغوص في الحطام الشخصي والسياسي لتستخرج من بين الركام صورة رجل ضاع بين حلم الوحدة العربية وكوابيس الديكتاتورية. ومن خلال محاولة فهم مصير والدها، تحرر نفسها من أشباحه.
منصور الكيخيا (1931 - 1993)، الناشط الحقوقي والسياسي الليبي الذي اشتهر بنزاهة مواقفه وصلابة مبادئه، كان أحد الأصوات الحرة التي لم ترق للطاغية معمر القذافي.
خلال مشاركته في مؤتمر لحقوق الإنسان بالقاهرة في مطلع التسعينيات، تعرض للاختطاف على يد أجهزة النظام الليبي، ليختفي بعدها في السجون، ولا يُعرف أي شيء عن مصيره إلا بعد اندلاع الثورة وسقوط النظام. كان استهدافاً لصوت معارض، كما حدث مع العديد من الذين دفعوا حياتهم ثمناً لرفضهم الاستبداد الذي استمر لعقود في عدد من الدول العربية، من مصر إلى سوريا مروراً بتونس وغيرها.
لماذا اختفى أبي؟
الفيلم يحفر عميقاً في تيمة الغياب. غياب رجل كان وزيراً ثم منفياً، ثم مفقوداً، ثم جثة وُضعت في ثلاجة لسنوات، فيما عائلته تبحث عن نقطة نهاية. الجسد المدفون ضرورة للحزن المشروع والحداد، الأمر الذي حُرمت منه عائلة الكيخيا، فاستمر الألم في التراكم بلا مخرج. جيهان، التي لم تحفظ عن والدها سوى لمحات، تحاول في الفيلم برفقة أمها أن تفهم ماذا يعني أن تنشأ في ظل أب غائب، وأن تكبر على سؤال لا إجابة له: لماذا اختفى أبي؟ ولماذا صمت كل من صمتوا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأجوبة ستأتي من مقابلات مع سياسيين متقاعدين ومعارف سابقة ومن أم أنهكها الانتظار لكنها لم تتراجع. الأم هنا أكثر من مجرد شاهدة، إنها الحاملة الحقيقية للذاكرة. والفيلم لا يتعامل مع القذافي كعدو شخصي، إنما كظاهرة اختزلت كل أمراض النظام العربي: الاستبداد، الزبائنية، التلاعب بالبسطاء والمحتاجين، وتفكيك المجتمع حتى يتحول الناس إلى أدوات في يد السلطة. الديكتاتور ليس محور الفيلم، لكنه الخلفية الداكنة التي تبرز ملامح كل ما فُقد.
صناعة الحضور بالغياب
بينما يتوارى المخرج عادةً خلف الكاميرا، تذوب جيهان في عملها، تاركةً لغيرها (أمها، أخيها، وحتى رجال السلطة الذين كانوا جزءاً من النظام) أن يسردوا قصتها. ستصنع حضورها بالغياب، كما حال والدها. لا تسعى إلى تجميل الماضي إنما إلى تفكيكه، من خلال مناقشة سرديات البطولة والمبادئ والوطن.
وبين صورة أرشيفية مهزوزة، وتسجيل صوتي مشوش، ومشهد عائلي باهت على شريط قديم، يتحقق نوع من العدالة: عدالة التوثيق. حتى إن لم تُسترجع الحقوق، فإن سرد القصة بصدق كافٍ أحياناً كي يمنح الحياة معنى جديداً.
"قبل أن يختفي"
تروي جيهان الكيخيا أنها مذ كانت في السادسة، أخبرتها والدتها بالحقيقة، وعلى رغم أن ذلك خفف من صدمة الفقدان، فما زالت تعيش بشعور دائم من السوريالية. على رغم ذاكرتها المجتزأة ومخاوفها والقيود الثقافية في المجتمع الليبي، تحاول أن تتجاوز هذا الشعور، لتستعيد علاقتها بوالدها وبليبيا على طريقتها الخاصة. هذا أحد الحلول التي تجعلها تتمسك بوالدها، "قبل أن يختفي تماماً من ذاكرتي ومن ذاكرة ليبيا"، كما تقول. وتضيف: "لا أريد أن يختفي والدي مرة ثانية. أشعر بإلحاح لسد هذا الفراغ وسط الفوضى وعدم الاستقرار المستمرين في ليبيا، واللذين أخشى أن يؤديا في النهاية إلى دفن هويتي الليبية. لذلك، أبحث في ذاكرة الآخرين محاولةً تكوين صورة أوضح عن والدي الذي لا أتذكره. إنجاز هذا الفيلم الوثائقي ساعدني على فهم أهمية وجود الأب في حياة الإنسان، وتأثير غيابه على الأسرة والمجتمع، بل وحتى على الوطن بأكمله. لو كان والدي على قيد الحياة اليوم، لكان عمره 94 سنة. مشاركة قصته غير المروية هي مشاركة لقصة ليبيا غير المروية، تلك التي تمتد عبر ما يقارب مئة عام من التاريخ والسياسة الليبية. إرثه يمنحني نافذة فريدة على جيل والدي، وعلى مسؤولين سابقين في الحكومة الليبية وأعضاء في المعارضة، هؤلاء الرجال الذين ينتهزون الفرصة للتأمل بصدق في ليبيا الضائعة وفي مستقبلها. كم أتمنى لو كان في إمكاني أن أسأله: كيف وصلنا إلى ما نحن عليه؟ وكيف ستتحرر ليبيا من هذه الدوامة؟".