Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فرانك أباغنيل من أكبر محتال إلى مستشار أمني عالمي

عبقرية الجريمة التي صارت مدرسة للأمن

فرانك أباغنيل (أ ف ب)

ملخص

أباغنيل لم يبدأ قصته كخبير بل كصبي يبحث عن مخرج من حياة أسرية مضطربة، وفكرته الأولى كانت بسيطة: تزوير رخصة ليبدو أكبر سناً، لكن سرعان ما اكتشف أن العالم يفتح لك أبوابه إذا ارتديت الزي المناسب.

في عالم يزدحم بالمحتالين والمخادعين والنصابين، نادراً ما يتحول اسم من لائحة المحتالين والمطلوبين إلى لائحة المستشارين الأمنيين، وفرانك أباغنيل الذي اشتهر كأخطر محتال في القرن الـ 20 عاش حياة تبدو وكأنها رواية من الخيال، فمن تزوير رخصة قيادة وهو مراهق إلى انتحال شخصية طيار ومحام وطبيب، وصولاً إلى بناء أسطورة خيالية التقطتها هوليوود في فيلم المخرج العالمي المشهور ستيفن سبيلبيرغ Catch Me If You Can.

لكن خلف الزي الرسمي الذي فتح له الأبواب وخلف الأرقام المليونية التي تباهى بها تكمن قصة أعمق عن ثغرات الثقة البشرية، وعن كيف يستطيع الذكاء المنحرف أن يتحول في النهاية إلى مصدر معرفة يحمي الآخرين من الاحتيال نفسه، وفي مقابلة له على برنامج "60 دقيقة" قال إن "أعظم درس تعلمته: التقنية لا ترتكب الجريمة البشر هم من يفعلون ذلك"، وبهذه العبارة يلخص فرانك أباغنيل المفارقة الكبرى بأن التقنية أداة أما الخطر الحقيقي فهو الإنسان حين يستغل الثقة كسلاح.

البداية: مراهق يرتدي زي الطيار

أباغنيل لم يبدأ قصته كخبير بل كصبي يبحث عن مخرج من حياة أسرية مضطربة، وفكرته الأولى كانت بسيطة وهي تزوير رخصة ليبدو أكبر سناً، لكن سرعان ما اكتشف أن العالم يفتح لك أبوابه إذا ارتديت الزي المناسب، فارتدى زي الطيار وتجول بين المطارات وحجز فنادق فاخرة وتناول وجبات مجانية، وكل ذلك على حساب شركات الطيران التي اعتقدت أنه واحد من موظفيها، ولكن كيف لشاب لم يتجاوز الـ 20 أن يطير حول العالم كطيار مزيف ويدخل قاعات المحاكم كمحام ويحاضر اليوم في الأمن والاحتيال؟ ربما الجواب لا يكمن في ذكاء أباغنيل وحده بل في ضعفنا نحن أمام المظاهر، وفي استعدادنا الدائم لتصديق القصة الأكثر بريقاً.

من السجن إلى مكتب التحقيقات

بعد مطاردة دولية ألقي القبض عليه في فرنسا، فقد أمضى أعواماً في السجون الأوروبية والأميركية، لكن لحظة التحول الكبرى كانت عندما بدأ مكتب التحقيقات الفيدرالي بالاستفادة من خبراته، وبدلاً من أن يبقى سجيناً للأبد تحول إلى خبير في كشف التزوير وحماية البنوك، وأسس شركته الخاصة وأصبح يلقي المحاضرات في الأمن السيبراني وأنظمة الدفع، وانتقل من خانة الخطر إلى خانة الحماية.

ألهمت تجربته أجهزة الأمن حول العالم لتأسيس وحدات متخصصة في مكافحة الاحتيال المالي والتزوير، واليوم نرى في البنوك العالمية، بل وحتى في وزارات الداخلية، فرقاً تضم خبراء سابقين في التزوير أو الاختراق تُستغل خبراتهم بطريقة منظمة لكشف الثغرات.

إنها صورة من صور العدالة التصالحية، حيث لا يعني العفو محو الجريمة بل تحويل الذكاء الإجرامي إلى خدمة عامة، وكما قال أباغنيل في إحدى مقابلاته "لم أخدع البنوك بقدر ما جعلتها تخدع نفسها، دوري الآن أن أمنع الآخرين من تكرار ذلك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الوهم الأكبر

القصة لا تتعلق فقط بفرانك بل بنا نحن، فكم مرة ننخدع بالمظاهر؟ وكم مرة نثق بالزي أو اللقب أو حساب خلف الشاشة من دون أن نسأل عن الجوهر؟ وفرانك علمنا أن الاحتيال ليس فقط في تزوير الأوراق بل في صناعة صورة وهمية تبدو مقنعة بما يكفي، وإذا كان القرن الـ 20 عرف بـ "احتيال الشيكات" فإن القرن الـ 21 يعيش "احتيال الشاشات"، حيث تنتشر الأخبار الكاذبة وتباع الخبرات المزيفة ويصنع النفوذ من مجرد حضور رقمي متقن، والدرس الأعمق ليس في حيل أباغنيل وحده بل في قابلية العالم لتصديق الوهم، وما كان بالأمس شيكات مزورة صار اليوم شاشات مزورة، وهذه أمثلة من الإعلام الجديد.

مؤثرون على منصات التواصل يبيعون للناس صورة حياة مثالية بينما يعيشون خلف الكاميرا أزمات نفسية ومالية خفية، وحسابات مزيفة تروّج لمنتجات وهمية وربما مغشوشة تستنزف أموال البسطاء والسذج، وأخبار كاذبة تنتشر بقوة وحرفية عالية وأسرع من الحقيقة لتوجه الرأي العام بلحظة ومن دون أن يشعروا، وهنا يصبح الاحتيال أكثر خطورة لأنه لا يسرق المال فقط بل يسرق الوعي ويعيد تشكيل العقول.

السؤال الأخلاقي: هل نغفر للمحتال؟

وهنا نجد أنفسنا أمام أسئلة فلسفية مهمة: هل يجوز أن نغفر للمحتال إذا صار نافعاً للمجتمع؟ وهل يتحول الخطأ إلى فضيلة إذا كان الدرس الذي يقدمه لاحقاً يمنع غيره من الوقوع فيه؟

في الثقافة العربية نجد دائماً هذا التوتر بين "الصفح عند المقدرة" و"عدم الثقة بمن خان الأمانة"، وربما الجواب ليس مطلقاً لكن المؤكد أن الغفران لا يجب أن يعني النسيان، وأن الاستفادة من خبرة المحتال لا تعني تقديسه.

الحكمة من الحكاية

حكاية فرانك أباغنيل ليست مجرد سيرة شاب جريء ولا قصة فيلم مشوق بل درس طويل عن هشاشة الثقة الإنسانية حين تبنى على المظاهر، فنعم يمكن أن يتحول المحتال إلى مستشار ويمكن للذئب أن يرتدي ثوب الراعي، لكن يبقى التحدي الأكبر هو وعينا نحن وأن نتعلم كيف نميز الحقيقة من الوهم، وأن نفهم أن أعظم الاحتيالات ليست في البنوك ولا في المطارات ولا خلف الشاشات، بل في العقول التي تُستدرج لتصديق أية رواية مصاغة بإتقان.

وإذا كان فرانك قد علم المؤسسات كيف تحمي أموالها فإن قصته يجب أن تعلمنا نحن كيف نحمي عقولنا من الاحتيال الأكبر وهو الخداع، والمعنى أن كل عصر ينتج "فرانكه" الخاص، فبالأمس كانت الشيكات واليوم NFT والغد ربما عقول رقمية تسرق وعينا لا أموالنا فقط.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير