ملخص
على رغم التناقض الأيديولوجي بين الإسلام السياسي ممثلاً بـ"حماس" ومحور المقاومة برعاية إيران، وبين اليمين الصهيوني المتطرف، فإن الطرفين يلتقيان موضوعياً في تقويض فرص التسوية في فلسطين بحل الدولتين.
لم يحدث ذلك قريباً بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) أو حتى الـ11 من سبتمبر (سبتمبر)، وإنما منذ هزيمة 67 طور الإسلام السياسي وعموده الفقري "الإخوان المسلمين" نظرية مفادها أن الهزيمة تعود لرفع رايات قومية، في حين كانت رايات العرب عبر التاريخ "دينية"، فصارت الهزيمة أو النكسة رافعة للمد الذي صار "إسلاموياً وجهادياً وصحوياً ومقاومة" في سنوات لاحقة، بحسب المنطقة والفصيل الذي يتقدم المجاميع.
ومع أن رايات رفعت في أنحاء قريبة وبعيدة إلا أن فلسطين كانت دائماً العنوان و"الإسلام هو الحل" الشعار، حتى عندما كانت الرايات ترفرف في أفغانستان أو منهاتن الأميركية، كما يوثق أول خطاب لابن لادن الذي وجهه لأميركا بعد هجماته الانتحارية على نيويورك، عندما قال إن المهاجمين انتقموا "لإخوانهم وأخواتهم في فلسطين". وقبل ذلك اشتهرت خطب شيخه عبدالله عزام، الذي كثيراً ما أكد أن أفغانستان ما هي إلا ميدان تدريب وتأهيل للمعركة الأكبر لتحرير القدس.
لكن المفارقة أن استهلاك الشعارات وغياب الواقعية و"قصر النظر" الذي وقع في فخه عبدالناصر والزعماء العروبيين مثل صدام والأسد وانتهى بهم إلى هزيمة 67 المريرة، ظل نفسه ديدن التيارات الجهادية التي أرادت الثأر واستعادة الكرامة، وسط مزايدات وتخوين وتكفير للزعماء الذين "باعوا فلسطين وشرف الأمة للغرب" بزعمهم، يستوي في ذلك الشيعي والسني، منذ سقوط نظام الشاه في إيران 1979، يوم صار "الشيطان الأكبر" وفرعه في إسرائيل، عدواً مشتركاً، حتى بعد تحالف الشيطان و"أولياء الرحمن" في أفغانستان لردع الاتحاد السوفياتي.
أما كيف حدث ذلك حتى صارت معارك الجهاديين أينما رفعت راياتها تبيض ذهباً في السلة الأميركية والإسرائيلية، فتلك قصة يختلف المراقبون في تشخيصها، إذ على رغم خطاب التصعيد الممتد بين جماعات الإسلام السياسي، سواء السنية (مثل الإخوان المسلمين وحماس) أو الشيعية (مثل حزب الله والحشد الشعبي)، وإسرائيل، تكشف قراءة معمقة للأحداث عن تقاطعات مصلحية معقدة، قد تبدو متناقضة ظاهرياً، لكنها أسهمت بصورة غير مباشرة في تعزيز أهداف إسرائيل الاستراتيجية، من خلال تقديم ذرائع لتبرير التوسع، أو عبر مغامرات عسكرية خاسرة قدمت انتصارات سهلة لها، وربما أسهمت في إحياء فكرة "إسرائيل الكبرى"، التي ظلت حلماً توراتياً يلقي بظلاله على أحلام اليمين، مثل تحرير "بيت المقدس" تماماً بالنسبة إلى المسلمين.
السياق التاريخي من الداخل
تعود جذور العلاقة بين إسرائيل وجماعات الإسلام السياسي لسياقات تاريخية وسياسية متشابكة. في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، سمحت إسرائيل بصورة غير مباشرة بنمو جماعات إسلامية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مثل "الإخوان المسلمين"، كبديل عن منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، التي كانت تمثل تهديداً قومياً علمانياً. هذا السماح بنشاط الإخوان، خصوصاً في قطاع غزة، أسهم في تأسيس حركة "حماس" لاحقاً، التي تبنت الكفاح المسلح ضد إسرائيل، لكنها أيضاً أنتجت انقساماً فلسطينياً داخلياً أضعف الموقف التفاوضي الفلسطيني.
ويروي الخبير الأمني في مركز الأبحاث الفلسطيني اللواء محمد الجبريني وقائع المشهد من الداخل، قائلاً "منذ انطلاقتها في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، شكلت حركة ’حماس‘ ظاهرة محورية في المشهد الفلسطيني. فقد خرجت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، واستفادت في بداياتها من هامش سمحت به سلطات الاحتلال لموازنة نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية والتمدد في المساجد والمؤسسات التعليمية والجمعيات الخيرية. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى، انخرطت في المواجهة المسلحة، لكنها سعت في الوقت ذاته إلى تقديم نفسها بديلاً عن القيادة الوطنية الموحدة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، عبر صبغ الصراع بالبعد الديني في مقابل الطابع الوطني التحرري السائد آنذاك".
ولفت إلى أن الدوافع من جانب التيار الإسلامي هو خلق واقع جديد يكون فيه هو المستحوذ على القرار وليس منظمة التحرير وفصائل الكفاح المدنية أو العلمانية، مثل فتح وسواها، مما خلق نوعاً من تلاقي المصالح مع تل أبيب التي لا تخشى من "حماس" بالقدر الذي تخشى من جسم سياسي فلسطيني يضايقها في المنابر الدولية بخلق واقع على الأرض يجبرها على إقامة دولة فلسطينية.
وأضاف "رفض حماس لاتفاق أوسلو عام 1993 تقاطع عملياً مع مواقف اليمين الإسرائيلي الساعي إلى إفشاله، وأسهمت العمليات الانتحارية التي نفذتها الحركة، خصوصاً عشية الانسحابات الإسرائيلية أو صفقات تحرير الأسرى نتاج الاتفاق، في تغذية الرأي العام الإسرائيلي المناهض للتسوية".
يؤيد ذلك ما يوثقه السفير الأميركي السابق دنيس روس عن إسحاق رابين في حوار مع "اندبندنت عربية"، عندما أسر إليه بأن "قنبلتين لحماس ستحددان من هو رئيس الوزراء القادم، سيكون نتنياهو رئيس الوزراء"، وهذا ما حدث، حين اغتيل رابين.
ولم يكن من قبيل المصادفة، وفق تقدير الجبريني، أن يتزامن تحريض الحركة ضد الرئيس ياسر عرفات مع تحريض اليمين الإسرائيلي ضد إسحق رابين، وهو ما أفضى إلى اغتياله وصعود بنيامين نتنياهو على برنامج مناهض للسلام. واستمر هذا التوازي خلال الانتفاضة الثانية، حين رفضت "حماس" الالتزام بفترات التهدئة التي دعا إليها الرئيس عرفات برعاية دولية وصعدت من عملياتها الانتحارية، مما زاد عزلة القيادة الفلسطينية واغتيال الرئيس عرفات ومهد الطريق لانقسام داخلي حاد تجسد بانقلاب غزة عام 2007.
ويشير تقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش" عام 2021 بعنوان "عتبة تم تجاوزها: السلطات الإسرائيلية وجرائم الفصل العنصري والاضطهاد"، إلى أن إسرائيل استغلت هذه الانقسامات لتعزيز سيطرتها على الفلسطينيين، مما يعكس كيف أسهمت الاستراتيجيات الإسلامية السياسية في تمكين الهيمنة الإسرائيلية.
على الجانب الشيعي، دعمت إيران، منذ الثورة الإسلامية عام 1979، تشكيل جماعات مثل "حزب الله" في لبنان، و"الحشد الشعبي" في العراق، بهدف مواجهة النفوذ الأميركي والإسرائيلي. لكن هذه الجماعات، من خلال خطابها الديني المتشدد، قدمت لإسرائيل مبررات لتصوير نفسها ضحية لـ"الإرهاب الإسلامي"، مما عزز روايتها الدولية، كما يوضح تحليل لـ"معهد بروكينغز" عام 2024 يعتبر أن "الصراع بين إيران وإسرائيل وتداعياته الإقليمية"، أظهر أن التصعيدات العسكرية المحدودة من إيران وحلفائها تخدم إسرائيل استراتيجياً.
التوراة والقرآن وجهاً لوجه!
إحدى النقاط المحورية في هذا التواطؤ غير المباشر هي الخطابات الدينية المتوازية، فجماعات الإسلام السياسي، سواء السنية أم الشيعية، غالباً ما تصور الصراع مع إسرائيل كحرب دينية بين المسلمين واليهود، مما يعزز الرواية الصهيونية المتطرفة التي ترى في الصراع صراعاً وجودياً دينياً. على سبيل المثال، تصريحات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في نشرتها "النبأ" عام 2023، التي وصفت الصراع مع إسرائيل بأنه "حرب دينية". وقبل ذلك كرر بن لادن ملهم المتطرفين ذلك المعنى، فأكد في خطابه الذي بث في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001 أن الحروب الأميركية ما هي إلا امتداد للإسرائيلية، وكلاهما "صليبية دينية، تستهدف المسلمين". وهي استراتيجية يراد منها استقطاب أكبر شريحة من الأنصار، دفاعاً عن القرآن أو التوراة.
هذا الخطاب الديني المشترك، وإن كان متعارضاً في الأهداف، يخدم إسرائيل بطريقة غير مباشرة، إذ يبرر لليمين الإسرائيلي المتطرف سياساته التوسعية تحت شعار "الدفاع عن الوجود اليهودي"، وفق الباحث المصري هشام النجار، الذي يعتقد أن أداء جماعات الإسلام السياسي بات "في صلب إسرائيل الكبرى". وكمثال على ذلك قال إن الحالة السورية مثالاً حاضراً، فبعد أن كان التدخل الإسرائيلي فيها محدوداً، تنافس الطرفان السني والشيعي من الجماعات على كسر معادلتها الهشة، مما شرع الباب أمام التدخل الإسرائيلي.
ولفت إلى أن التقاء الطرفين الإسرائيلي والإسلاموي برعاية غربية لم يكن عفوياً، "فمنذ الربيع العربي حتى طوفان الأقصى، تحول تيار الإسلام السياسي من شعار ’مواجهة إسرائيل‘ إلى تقديم تنازلات تخدم مشروع ’إسرائيل الكبرى‘"، مشيراً إلى أن العصا والجزرة الأميركية - الإسرائيلية حولت هدف هذه الحركات الرئيس إلى "نيل الرضا الخارجي، في مقابل بقاء منحها السلطة في مناطق من الشرق الأوسط". ولم ير الحالة الفلسطينية التي انقلبت فيها "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر تنهي تلك الاستراتيجية الغربية، فهو ينظر إلى سيطرة تيار أحمد الشرع على دمشق استمراراً لذلك النهج!
أما الجزئية الأكثر أهمية في هذا السياق أن التركيز على الصراع الديني من هذه الجماعات يحرف الأنظار عن الطبيعة السياسية والاستعمارية للصراع، مما يسهل على إسرائيل كسب تعاطف دولي، ويطلق يد اليمين المتطرف فيها، الذي يحمل أفكاراً أكثر تشدداً، ولديه قدرات عسكرية وسياسية تجعله قادراً على تنفيذ أفكاره والترويج لأيدولوجيته عبر العالم، لدرجة دفعت وزير الدفاع الأميركي الحالي بيت هيغسيث إلى القول إن ردع التيارات الإسلاموية التي تهدد الغرب وإسرائيل يستدعي "حرباً صليبية جديدة".
وقال في كتابه الذي ألفه قبل انتخاب ترمب والحظوة بالمنصب الجديد "كما فعل إخوتنا المسيحيون قبل ألف عام، علينا ذلك. نحن بحاجة إلى حملة صليبية أميركية"، وأن المنطقة العربية "استولى عليها الإسلاميون بالكامل تقريباً، واستغلوها لسحق مؤسسات أمتنا اليهودية المسيحية"!
هكذا فإنه على رغم التناقض الأيديولوجي بين الإسلام السياسي ممثلاً بـ"حماس" ومحور المقاومة برعاية إيران، وبين اليمين الصهيوني المتطرف، فإن الطرفين يلتقيان موضوعياً في تقويض فرص التسوية، بحسب ما يكشف عنه الجبريني، "كلاهما يرفض حل الدولتين: الإسلام السياسي انطلاقاً من اعتبارات دينية وتاريخية، واليمين الإسرائيلي بدعوى ’الحق التوراتي‘ في الأرض. وكلاهما يعيد تأطير الصراع كصدام ديني وجودي، بما يغلق الباب أمام أي حلول سياسية عقلانية. وإلى جانب ذلك، يخدم خطاب حماس المتشدد سردية اليمين الإسرائيلي حول ’غياب شريك فلسطيني للسلام‘، ويضعف حضور القضية الفلسطينية في المحافل الدولية".
هدايا الانتصار لإسرائيل
في الجانب العسكري دأبت جماعات الإسلام السياسي من خلال مغامراتها العسكرية غير المحسوبة على تقديم انتصارات سهلة لإسرائيل، مما يعزز هيمنتها الإقليمية، على أنها كانت الناقم الرئيس على دول الطوق العربية التي زايدت عليها، حين هزمت مرات عدة أمام إسرائيل، ولم تقر لها حتى بالنصر الكبير الذي أحرزته مصر في 73 بما أعاد للعربي كرامته بعد الهزيمة المرة في 67، بل ذهب ضحية تلك الجماعات أنور السادات قائد معركة النصر تلك، بوصفه "خائناً" في نظرها حين عقد اتفاق سلام مع إسرائيل.
أما آخر تلك الانتصارات السهلة التي قدمتها تلك الجماعات لإسرائيل، فجاءت بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023، حين أطلقت جماعات "محور المقاومة"، بما في ذلك "حزب الله" و"الحوثيين"، عمليات عسكرية تحت عنوان "الإسناد" لدعم غزة، لكن هذه العمليات، مثل الهجمات الصاروخية الحوثية أو قصف "حزب الله" المتقطع، لم تحقق أهدافاً استراتيجية ملموسة، بل قدمت لإسرائيل مبررات لتصعيد عملياتها العسكرية في لبنان وسوريا، وتعزيز روايتها كدولة تواجه "الإرهاب". وتؤكد صحيفة "الغارديان" البريطانية أن هذه التصعيدات المحدودة من "حزب الله" وإيران "تستغل من إسرائيل لتبرير هجماتها العسكرية، مما يعزز صورتها كقوة تواجه تهديدات "إرهابية".
ولم تكن إيران الموجه الرئيس للمحور استثناء، إذ على رغم استثمارها طويل الأمد في الدعاية ضد تل أبيب، وتأسيسها في وقت مبكر من تاريخ نظامها الحالي جناحاً في الحرس الثوري سمته "فيلق القدس"، إلا أن أثر ذلك في الأرض لم يكن فعالاً لردع إسرائيل، بل أوجد لها الذرائع لإظهار نفسها كقوة لا تقهر في المنطقة، حين تجرأت على ضرب عمق طهران نفسها، هذا علاوة على تاريخ ذلك الفيلق الدموي في دول نفوذه في الإقليم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على رغم الدعم الإيراني لـ"حزب الله" و"حماس"، فإن التصعيد العسكري الإيراني، مثل القصف الصاروخي على إسرائيل، اقتصر على أهداف عسكرية محدودة، من دون التسبب بضرر كبير، يردع القوة الإسرائيلية. هذا النهج أتاح لإسرائيل فرصة تعزيز تفوقها، بينما استنزفت موارد "محور المقاومة". هذا ما لاحظه تحليل معهد بروكينغر، الذي رجح أن التصعيد بأي مستوى أصالة أو بالوكالة "يخدم إسرائيل المتفوقة عسكرياً من خلال تبرير ضرباتها في سوريا ولبنان (وأماكن أخرى)، مما يعزز نفوذها الإقليمي".
مجلة "أوريان 21" الفرنسية، تلتقط بعداً آخر في هذا السياق، إذ وجدت أن "العنف" تحتاج إليه إسرائيل أكثر من السلام، ليس فقط لتبرير التوسع وتحقيق أحلامها الكبرى، وإنما أيضاً من أجل تماسكها الداخلي، في مفارقة توضح أن ما تعده تنظيمات الإسلام السياسي مقاومة تردع تل أبيب وتنهي احتلالها، هو في العمق، حاجة إسرائيلية في صميم الاستراتيجية السائدة.
وتقول "تبدو العلاقة بين الداخل والخارج متشابكة بصورة كبيرة، فكلما زادت حدة الأزمة السياسية داخل إسرائيل، ازداد ميل الحكومة إلى التصعيد ضد الفلسطينيين، فيما يحول العنف إلى مورد اقتصادي وسياسي يوحد المجتمع حول مشروع استيطاني عنيف. بذلك يصبح الاحتلال، فضلاً عن كونه ممارسة استعمارية ضد شعب آخر، آلية دفاعية عن نظام داخلي مأزوم يفتقر إلى الإجماع ويعاني انقسامات عميقة".
الخبير الفلسطيني الجبريني يؤكد "أن حركة "حماس" من جهتها تلعب على الوتر نفسه، فقد أصبح التصعيد العسكري عندها "وسيلة لتعزيز شرعيتها هي وإسرائيل معاً داخلياً، إذ تكرس نفسها ’مقاومة‘، بينما يقدم اليمين الإسرائيلي نفسه كـ’درع أمني‘. وفي كلتا الحالتين، تستثمر معاناة المدنيين لترسيخ مواقع سياسية براغماتية، من دون تحقيق أي اختراق سياسي استراتيجي"!
التواطؤ أم خطأ ممتد في التقدير؟
بعض التحليلات، تدعي أن جماعات مثل الإخوان و"حماس" هي "أدوات مأجورة" لإسرائيل والغرب، تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة، طمعاً في الاستحواذ على الحكم. هذه الرواية، على رغم أنها تفتقر إلى أدلة مباشرة، تشير إلى أن الدعم الغربي لبعض الجماعات الإسلامية في سياقات مثل "الربيع العربي" قد يكون استخدم لإضعاف الأنظمة العربية القومية، مما يخدم مصالح إسرائيل بصورة غير مباشرة. ويشير تقرير صادر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، إلى أن اتفاقات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية مثل الإمارات والبحرين والمغرب أضعفت القضية الفلسطينية، مما يعزز فكرة أن الانقسامات التي تغذيها جماعات الإسلام السياسي تخدم أهداف إسرائيل.
السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن هذه الجماعات، من خلال استراتيجياتها المتشددة، قدمت لإسرائيل ذرائع لتعزيز هيمنتها من دون الحاجة إلى اتفاقات سرية. على سبيل المثال، فشل "الإخوان المسلمين" في إدارة الحكم في مصر (2012-2013) أضعف الموقف العربي، بينما أسهمت هجمات السابع من أكتوبر في تبرير العمليات العسكرية الإسرائيلية واسعة النطاق في غزة، مما أدى إلى دمار هائل من دون تحقيق مكاسب استراتيجية للفلسطينيين، مما دفع رئيس الوزراء الفلسطيني السابق محمد شتيه الذي كان في منصبه يوم الهجوم إلى القول إن "العملية كانت قفزة في الهواء من حماس، وخطأ في الحسابات أساءت فيه التقدير". لكنه قال إن استفراد الحركة بالقرار من دون الرجوع إلى السلطة، يعود في أصله لكون "الإخوان المسلمين خلقوا الحركة كبديل لمنظمة التحرير، لاعتقادهم أنها بعد الخروج من بيروت 82 انتهت، ونحن لم نقبل ذلك مطلقاً".
فكرة "إسرائيل الكبرى"، التي تروج لها بعض الأوساط الصهيونية المتطرفة، تتضمن توسيع النفوذ الإسرائيلي من النيل إلى الفرات. جماعات الإسلام السياسي، من خلال خطاباتها الدينية وأفعالها العسكرية غير المحسوبة، أسهمت بصورة غير مباشرة في تمكين هذا المشروع. على سبيل المثال، إضعاف سوريا عبر دعم جماعات متطرفة مثل "داعش" و"القاعدة"، إلى جانب تصعيد "حزب الله"، سمح لإسرائيل بالتوسع في الأراضي السورية، بما في ذلك ضم هضبة الجولان وتوسيع النفوذ نحو دمشق. كما أن انقسام الفلسطينيين بين فتح و"حماس"، المدعومة من إيران، أضعف القضية الفلسطينية، مما سمح لإسرائيل بفرض سياسة الأمر الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إلا أن الباحث الأردني محمد زغول، المختص في شؤون جماعات الإسلام السياسي، يدفع بأن إسرائيل كانت التي صنعت هذا الواقع الذي يراه يلقي بظلاله على فلسطين والمنطقة، قائلاً "إسرائيل أوكلت القيادة إلى اليمين المتطرف، مما منح ذلك قوة شعبية أكبر لليمين العربي نتيجة ارتكابات اليمين الإسرائيلي، بينما تمكنت الدول العربية المعتدلة من ضبط إيقاع المواجهة خلال مرحلة ما بعد الربيع العربي، في حين كان اليمين الإسلامي في أضعف حالاته ولم يستفد من الدفعة التي أعطاها له تصرف اليمين الإسرائيلي". أما صعود اليمين عالمياً، بما في ذلك في الغرب وأميركا، وكذلك إسرائيل التي تبقى مجتمعاً غربياً يعيش في الشرق، فله أسباب أعمق مرتبطة بارتدادات العولمة وعوامل دولية، بحسب قوله.
أما فكرة تواطؤ "حماس" و"الجهاد" مع إسرائيل ليكونا بديلاً عن السلطة الفلسطينية، فهي نظرية يراها "خيالية ومضحكة، فالاستفادة الإسرائيلية من أخطاء ’حماس‘ موجودة بلا شك، لكن القول بالتواطؤ الكامل يعد خروجاً عن المعقول". ويوضح أن هناك تقاطع مصالح شكلياً بين اليمين الإسلامي المتطرف في العالم العربي واليمين اليهودي المتطرف في إسرائيل، فكل منهما يرفض الحلول الوسطى وحل الدولتين، "مما قد يوهم بعضهم بأن هناك تعاوناً بينهما، بينما الواقع يظهر أن الأجندة متشابهة شكلاً، لكنها متناقضة مضموناً".
المقاومة كردع للانتهاكات الإسرائيلية
على رغم التحليلات التي ترى في جماعات الإسلام السياسي أدوات غير مباشرة للهيمنة الإسرائيلية، هناك رأي معاكس يؤكد أن هذه الجماعات، خصوصاً في شقيها السني (مثل حماس) والشيعي (مثل حزب الله)، تشكل ردعاً حقيقياً للانتهاكات الإسرائيلية، وأن غيابها كان سيؤدي إلى توسع أكبر لإسرائيل في الأراضي الفلسطينية والعربية. وفقاً لهذا الرأي، فإن المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل عامل أساس في منع "إسرائيل الكبرى" من خلال إجبار إسرائيل على إعادة حساباتها العسكرية والاستراتيجية.
ويؤكد تقرير صادر عن "مركز الدراسات العربي في واشنطن" عام 2024 بعنوان "الرأي العام العربي حول حرب إسرائيل على غزة" أن 82 في المئة من الاستطلاعات في 16 دولة عربية ترى في "حماس" حركة مقاومة مشروعة، لا تشبه "داعش"، وأن غياب مثل هذه الحركات كان سيسمح لإسرائيل بتصعيد انتهاكاتها من دون رادع، مما يعزز فكرة أن المقاومة تحمي الشعوب العربية من التوسع الإسرائيلي، كما يدافع "مجلس العلاقات الخارجية" عن فكرة أن قدرات "حزب الله" العسكرية أدت إلى ردع إسرائيل عن حرب شاملة، إذ أدى الخوف من خسائر كبيرة إلى إبقاء التوازن الاستراتيجي، وأن هذا الردع منع توسع إسرائيل في المنطقة، قبل أن ينهار على إثر هجمات السابع من أكتوبر، التي رأت فيها تل أبيب تهديداً وجودياً، تختفي معه كل المحاذير، وقررت بعدها استعادة حالة الردع بتصفية التهديدات المحيطة بها، لتعود آمنة لعقود مقبلة، بحسب منطقها.
ويؤصل أستاذ العلوم السياسية إياد الرفاعي نقطة الإشكال والخلاف في هذا الصدد، مؤكداً أن جوهر المشكلة في الفعل العنيف الذي تمارسه حركات الإسلام السياسي هو في خوضها المعارك من دون التنسيق مع مرجعية الدولة السياسية.
وقال "للإجابة عن سؤال ما إذا كانت حركات المقاومة في المنطقة العربية أسهمت في توسع إسرائيل سياسياً وعسكرياً، يجب مراجعة تاريخ هذه الحركات، أو ما يعرف بمنظمات التحرر الوطني، منذ انطلاق الدولة الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم".
وأضاف" أنه من المؤكد أن أي احتلال أو استعمار للأرض "يولد حركات مقاومة كرد فعل طبيعية وعضوية تجاه الاعتداءات السياسية، وخصوصاً ظاهرة الاحتلال، لكن هذه الحركات عادة ما تكون جزءاً من قرار سياسي أكبر، كما هو الحال في فيتنام أو الجزائر أو بعض دول أفريقيا وأميركا الجنوبية، إذ كانت حركات المقاومة ذراعاً عسكرياً لحركة سياسية أشمل، وهو ما تفتقده منطقة الشرق الأوسط، إذ غالباً ما تكون قرارات حركات المقاومة فيها غير مرتبطة بالمصلحة الوطنية الداخلية أو بتوجهاتها السياسية".
وضرب مثلاً بـ"حماس" أو "حزب الله" في عدم امتثال المصلحة الوطنية، بما جعل تحركاتها غالباً لا تحقق أهدافها بسبب غياب البوصلة والإرشاد السياسي، معيداً ذلك لأن "سياستها ترتبط بالمصالح الخارجية أكثر من الداخلية، نتيجة الأيديولوجيا التي لا تعتبر الدولة الهدف الأسمى".
وأضاف "لذلك هناك فرق بين حركات التحرر الوطني ذات الخلفية الوطنية، وبين تلك ذات الخلفية الدينية، التي ترى الأمة على أنها الأهم وقد تتبنى سياسات خارجية مثل السياسات الإيرانية، معتبرة أن تحقيق رسالة أيديولوجية أسمى من تحرير الوطن، إثر غياب البوصلة السياسية بما جعلها رهينة للأطماع الخارجية وأداة بيد جهات لا تضع الهم الوطني في مقدمة أولوياتها، وهو ما ينعكس بوضوح على القضية الفلسطينية".
مفهوم الحرب كوسيلة للبقاء
لكن مع استثمار إسرائيل في العنف، باعتباره فرصة لتجاوز الحدود الجغرافية والأدبيات السياسية، فإن أطرافاً متزايدة في الغرب تعتقد أنها بالتطرف الذي أظهرته في البطش بغزة، تأكل من رصيدها الدولي والإنساني، وتدفع بالضغينة ضدها أكثر، لتصبح منبوذة عالمياً وليس فقط عربياً.
علاوة على ذلك ترى المجلة الفرنسية التي سبقت الإشارة إليها أن "تحويل الحرب إلى أداة للتماسك الداخلي، والربط بين الاستيطان والاقتصاد، واستخدام العنف كوسيلة هوية، كلها عناصر قد تمنح إسرائيل صلابة آنية، لكنها تزرع بذور التآكل من الداخل. وفي النهاية، قد يصبح هذا العنف الذي جرى تصويره كشرط للبقاء، هو ذاته طريق الهاوية".
بينما في الجانب الفلسطيني يخلص اللواء الجبريني إلى التأكيد أن النقاش ليس في حق الشعب الفلسطيني الأصيل في مقاومة الاحتلال، "بل في الوسائل التي تجعل هذه المقاومة أداة لإنجاز وطني لا ورقة في لعبة إسرائيلية وإقليمية أوسع".
ويرجح أن ما سماه "التواطؤ الموضوعي بين الإسلام السياسي الفلسطيني واليمين الإسرائيلي المتطرف"، يفسر استمرار ديمومة ودموية الصراع، ويجعل التحدي الحقيقي في تفكيك خطابي التطرف المتقابلين، وفتح أفق سياسي عقلاني "يعيد الاعتبار لمشروع حل الدولتين وفقاً للقانون الدولي".