ملخص
أرباح "إنفيديا" القياسية كشفت هشاشة طفرة الذكاء الاصطناعي، إذ تراجع سهمها رغم القفزات المالية وسط شكوك متزايدة في جدوى الاستثمارات الضخمة، وعودة الحديث عن فقاعة شبيهة بالـNFTs. خيبة "جي بي تي-5" وتذمر المستخدمين من برود ردوده أبرزت أن الضجيج والوعود يتفوقان على الواقع، وأن نجاح الاستثمار في الذكاء الاصطناعي مرهون ببرهنة قيمته الحقيقية بعيداً عن الضجيج الدعائي للسوق.
بلغت الأرقام التي أعلنتها "إنفيديا" Nvidia، شركة التكنولوجيا الأميركية المتخصصة في تصنيع شرائح الحوسبة المتقدمة، في نتائجها الفصلية مستوى مرتفعاً إلى حد يكاد يصعب استيعابه، ففي الربع الثاني من العام الحالي حققت الشركة إيرادات بلغت 47 مليار دولار (34.7 مليار جنيه إسترليني) بزيادة مقدارها 56 في المئة عن العام السابق، ومع ذلك لم يكن هذا الرقم مرتفعاً بما يكفي، فتراجع سعر سهمها فور إعلان النتائج، وكانت إيرادات مراكز البيانات مثار قلق خاص، إذ ارتفعت 56 في المئة لتصل إلى 41 مليار دولار، لكنها جاءت أقل من توقعات المحللين.
وبما أن "إنفيديا" تصنع الشرائح التي تشغل عدداً من أكبر شركات الذكاء الاصطناعي في العالم، فقد أصبح سهمها بمثابة مؤشر بديل لازدهار هذا القطاع، ونظراً إلى أن معظم شركات التكنولوجيا الأكثر إثارة لا تزال غير مدرجة في البورصات، فإن الاستثمار في الشرائح التي تغذي برمجياتها يعد وسيلة جيدة لوضع الأموال خلف الرهان القائل إن الذكاء الاصطناعي سيغير كل شيء.
ومع ذلك فإن الانخفاض الأخير في أسهم "إنفيديا" يقدم صورة واضحة عن الأخطار الكامنة خلف موجة الذكاء الاصطناعي نفسها، فعندما تبلغ التوقعات سقفاً غير واقعي، وتنقطع عن الواقع الفعلي للتكنولوجيا المطروحة حتى النجاحات الكبرى غير المسبوقة قد لا تكون كافية لإرضاء السوق.
وجاءت نتائج "إنفيديا" لتشكل اختباراً لاستدامة موجة الذكاء الاصطناعي ولا سيما أنها صدرت في أعقاب أيام اتسمت بالتقلب، فخلال الأسابيع الأخيرة شهدت أسهم شركات التكنولوجيا الكبرى بعض التراجع، مع تصاعد الشكوك حول جدوى الاستثمارات الضخمة في هذا القطاع وإمكان ألا تؤتي ثمارها.
وتزامن ذلك مع تصريحات من أشد المتحمسين لهذه التكنولوجيا، من بينهم الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن أي آي" OpenAI المطورة لـ "تشات جي بي تي" سام ألتمان، الذي قال إن بعض المستثمرين ربما يبالغون في تفاؤلهم، وحتى ألتمان نفسه اضطر إلى سحب تحديث طال انتظاره لروبوت الدردشة الشهير، كان يعتقد أنه سيحدث نقلة ثورية في هذه التكنولوجيا بعدما قوبل الإصدار بردود فعل غاضبة من المستخدمين.
هذه الحماسة المفرطة تعني، كما اكتشفت "إنفيديا"، أنه لم يعد كافياً أن تسهم في تطوير تكنولوجيا رائدة قادرة على تحقيق مكاسب كبيرة في مختلف الصناعات، ولقد أطلقت شركات الذكاء الاصطناعي وعوداً بتحقيق ثورة سحرية، وقد صدّق الناس تلك الوعود، لذا لا بد من أن تتماشى النتائج مع هذه التوقعات، فالازدهار الحالي ليس قائماً على التكنولوجيا وحدها، بل على مجموعة أوسع من الظروف التي جعلت أسعار أسهم شركات التكنولوجيا وسمعتها تنفصل عن واقع ما تنتجه فعلياً.
وقد حدث ذلك من قبل، فإذا تصفحت منتدى "ريديت" المخصص لـ "الرموز غير القابلة للاستبدال" NFTs، ستجد بعض المستخدمين لا يزالون يحاولون الترويج لها كتقنية ثورية، لكنهم في الغالب يفشلون.
وعلى رغم أن المنتدى يضم 2.7 مليون عضو، مما يضعه في فئة أكبر واحد في المئة من مجتمعات المنصة، فإن المنشور الأكثر شعبية خلال العام الماضي لم يحصد سوى 130 تصويتاً، وكان يروج لسلسلة صور يظهر فيها إيلون ماسك في هيئة امرأة تحت اسم "إيلونا مارس"، ويبدو أن شهرتها لم تأت من الإعجاب بها بل من كراهية الناس لها.
لا شك في أن كثيرين من المروجين لـ NFTs انتقلوا اليوم إلى موجة الذكاء الاصطناعي، وأمضوا العامين الماضيين يفعلون الشيء نفسه تقريباً، وساعدتهم في ذلك قدرتهم على إعادة استخدام الصيغ ذاتها: وعود كبرى بتغيير شامل، وتحذيرات ضمنية من أن من يتأخر عن اللحاق بالركب سيخسر، وكل ذلك عبر منشورات صُممت لجذب الخوارزميات، والآن بدأنا نلحظ فتوراً مماثلاً، مع تراجع أسهم شركات الذكاء الاصطناعي وتزايد الأصوات المشككة في جدوى تلك الرهانات الضخمة.
المشكلة أن الذكاء الاصطناعي، بخلاف NFTs، يقوم على أساس حقيقي، فقد تحولت الرموز غير القابلة للاستبدال سريعاً إلى مادة للسخرية لأنها افتقرت إلى مضمون فعلي، وأصبح واضحاً أن من واصل الترويج لها بحماسة إنما فعل ذلك لمصلحة شخصية، أما الذكاء الاصطناعي فكان شيئاً مختلفاً: إنه واقع قائم بالفعل لا مجرد وعود مستقبلية، ولهذا من الصعب التعامل معه بالقدر نفسه من التشكيك أو السخرية.
في مرحلة ما سيكون على قادة شركات الذكاء الاصطناعي ذات التقييمات الفلكية تقديم حجج مقنعة لا تكتفي بإثبات أن هذه التكنولوجيا مثيرة للاهتمام، بل ذات قيمة حقيقية أيضاً
ولكن كل هذا الترويج الإعلامي المفرط والوعود الكبرى جعلا من العسير، إن لم يكن من المستحيل، التمييز بين الحقيقة والخداع، فالأمر ليس بهذه البساطة، إذ إن حتى كبار المسؤولين التنفيذيين في شركات الذكاء الاصطناعي المرموقة اعتادوا إطلاق ادعاءات ضخمة تجمع بين التنبؤ بالمستقبل والدعاية التجارية، والنتيجة في النهاية متشابهة تقريباً، فبينما قد يثبت الذكاء الاصطناعي فائدته في تطبيقات ملموسة ومحددة، فإن ما يفرض نفسه في الواجهة هو ما يُعرف بمحتوى "سلوب" Slop، أي ذلك الإنتاج التوليدي غير المصقول الذي يبدو وكأنه صيغ بدقة ليثير الدهشة في شأن آلية صنعه، لكنه في الوقت ذاته يثير شعوراً غامضاً يمتزج فيه الخوف وعدم الارتياح والانزعاج، ولم يعد السؤال المطروح هل الذكاء الاصطناعي جيد ومهم؟ بل أصبح ما معنى أن تكون التكنولوجيا "جيدة ومهمة" في عصر يبدو فيه أن كثيرين يسعون وراء مصالحهم ومكاسبهم الخاصة.
ومن المهم التذكير بأن موجة التشاؤم الأخيرة التي أفضت إلى هذا التراجع الراهن لم تكن ناجمة في جوهرها عن تقييم جدي للتغيرات العميقة التي قد يحملها الذكاء الاصطناعي، بل عن خيبة الأمل التي رافقت إصدار شركة "أوبن إيه آي" نموذج "جي بي تي-5" GPT-5، فلم تكن المشكلة فقط أنه خيب آمال من كانوا ينتظرون منه أن يساعدهم في إنجاز أشكال جديدة من العمل، على رغم أن ذلك كان صحيحاً إلى حد ما، ولا أنه خيب من كانوا يعتقدون أن تدريب النماذج على مزيد من البيانات والدقة سيؤدي حتماً إلى قفزات نوعية، وهذا برأيي هو الاكتشاف الجوهري الذي كشف عنه "جي بي تي-5"، بل إن العيب الأكبر والمفاجئ كان أنه لم يكن ودوداً أو لطيفاً بما يكفي.
فما إن طُرح "جي بي تي-5" حتى اشتكى كثير من أكثر مستخدميه صخباً من أنه لم يعد يمنحهم الشعور بالدفء الذي اعتادوا عليه، فقد باتت إجاباته قصيرة ومباشرة بدلاً من أن تكون مشجعة ومتزلفة كما في السابق، وهذا بالتحديد ما استجابت له "أوبن إيه آي" بسرعة، فعرضت خيارات تتيح العودة للنموذج القديم أو تخصيص النسخة الجديدة، وهكذا يظهر أن كثيراً من النقاش حول الذكاء الاصطناعي، على رغم ما يلبسه من مظهر الجدية الرسمية، يتمحور أساساً حول ما إذا كان استخدامه ممتعاً ولطيفاً. (وربما يصبح هذا بالفعل الاستخدام الأكثر شيوعاً، خصوصاً إذا مضت الأمور كما تريد "ميتا"، إذ يبدو مارك زوكربيرغ في قمة حماسه عندما يتحدث عن اختراع "أصدقاء وهميين" بالذكاء الاصطناعي، لكن الشركة تواجه صعوبة في الاحتفاظ بأفضل خبرائها على رغم تقديمها حزم رواتب يُشاع أنها تصل إلى 300 مليون دولار لبعضهم، وربما كان السبب أن هذه التكنولوجيا تُستخدم فقط لإبقاء الناس ملتصقين بـ "إنستغرام" مما جعلها بلا إثارة أو قيمة حقيقية).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي نهاية المطاف سيجد قادة شركات الذكاء الاصطناعي التي تقدر قيمتها السوقية بمئات المليارات أنفسهم مضطرين إلى تقديم براهين تثبت أن هذه التكنولوجيا ليست مثيرة وحسب بل قيّمة وجديرة بالاستثمار أيضاً، وقد يكون "تشات جي بي تي" ابتكاراً ثورياً، لكن الشركات الكبرى باتت تملك نسخها الخاصة، والتقنيات التي يقوم عليها أصبحت قابلة للنقل والتقليد بسهولة نسبية، ولأعوام تمكنت هذه الشركات من العمل وسط ضباب من التوقعات المفتوحة والحماسة العامة، لكن الطفرة قد تتعثر حين تبدأ الأسئلة الجوهرية في الظهور، والحيلة الحقيقية للاستثمار الناجح في موجة الذكاء الاصطناعي لن تقوم على الاندفاع الأعمى، بل على القدرة على استباق اللحظة التي سيحدث فيها التحول الفعلي.
وقد شكل ذلك السمة الأبرز لهذا العقد، فعندما أجبرت جائحة كورونا الناس على البقاء في منازلهم وحصل بعضهم على شيكات دعم كبيرة، تهيأت الظروف المثالية للمراهنة على المستقبل، ومع وفرة رأس المال وتراجع الاهتمام بالشأن المجتمعي، انشغل كثر بمحاولة التفوق على غيرهم في الأسواق المالية، وأضيف إلى ذلك تنامي الشك في السلطة وتآكل الروابط الاجتماعية التي كانت تقي الناس من الوحدة، وتزايد الشعور بأن الأوضاع الراهنة غير قابلة للاستمرار، وهكذا أصبح الناس جميعاً يعيشون حالاً من الخوف واليأس والبحث المحموم عن الفرصة التالية.
وربما يكمن الدافع الحقيقي في رغبة كل شخص في أن يكون أول من يتنبه إلى "الموجة المقبلة"، وما يجمع بين الاتجاهات الكبرى التي شهدها هذا العقد، من العملات الرقمية و"الرموز غير القابلة للاستبدال" والواقع المعزز، وصولاً إلى المضاربة على أسهم "إنفيديا" و"تيسلا" والآن الذكاء الاصطناعي، ليس الحماسة لما هو قادم بل الخوف من فوات الأوان عليه، وحين يصبح المزاج العام والضجيج الإعلامي أساساً لرؤيتنا للمستقبل أكثر من الواقع نفسه، يصبح من الطبيعي، وإن كان مثيراً للقلق، أن تتزعزع الأسواق العالمية بسبب روبوت دردشة جاء أقل وداً وأشد جفاء من المعتاد.
© The Independent