ملخص
أصبح من المُلحّ وجود مؤسسة أخرى موازية غرب البلاد لخلق جسر تواصل بينهما وتسهيل عملية توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية لتهيئة الأرضية للانتخابات الوطنية.
لا بد من حلول جدية لنزع فتيل هذه الأزمة من خلال تقليص صلاحيات جهاز الردع باعتبار أن هناك تشكيكاً من جهاز الردع بالشروط التي وضعتها الحكومة، بخاصة أن الجهاز تعهد بشروط ثم خالفها.
في اختراق واضح للتعليمات الصادرة من لجنة الترتيبات الأمنية والعسكرية في المجلس الرئاسي توجهت أرتال مسلحة عدة من مدينة مصراتة شرق طرابلس ومسقط رأس رئيس حكومة "الوحدة الوطنية" عبدالحميد الدبيبة إلى العاصمة الليبية طرابلس، ومن جهتها دفعت قوات الجيش الليبي في المنطقة الشرقية بتعزيزات عسكرية إلى مدينة سرت (وسط) والشوريف (جنوب غربي ليبيا)، فيما اندلعت فجر اليوم معارك بجزيرة الغيران وسط طرابلس.
وسُمع دوي إطلاق نار ورصدت تحركات مكثفة لآليات عسكرية في مناطق من طرابلس ليل أمس الإثنين وصباح اليوم الثلاثاء في ظل أجواء من التصعيد دفعت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا إلى إصدار بيان تحذيري.
بيان تحذيري
قالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إنها "تجدد الإعراب عن انزعاجها البالغ إزاء التقارير التي تفيد بتصاعد التوترات واستمرار التعبئة العسكرية التي قد تؤدي إلى اندلاع مواجهات مسلحة" في العاصمة. وأضافت في بيان أنها "تدرك أن المفاوضات مستمرة بإشراف المجلس الرئاسي، وتدعو الأطراف إلى مواصلة الانخراط فيها ومناقشة القضايا المتبقية بحسن نية والعمل لما فيه المصلحة العليا لسكان طرابلس المدنيين، الذين يجب حمايتهم".
وتابع البيان "حياة كل إنسان ثمينة، وأي صراع جديد لا يهدد أمن طرابلس فحسب، بل قد يمتد إلى مناطق أخرى في البلاد، وقد يؤدي ذلك إلى حرب الجميع خاسر فيها، وتعرض حياة المدنيين لخطر جسيم". ودعت البعثة "بشكل عاجل جميع الأطراف إلى وقف أشكال التصعيد كافة، والامتناع على الفور عن أي أعمال من شأنها تعريض المدنيين للخطر. يجب حماية أرواح المدنيين والبنية التحتية في جميع الظروف". واستطردت "إذ تحذر البعثة من أن تجدد الاشتباكات ستكون له عواقب وخيمة على ليبيا وشعبها، فإنها تؤكد مواصلة دعمها لجهود الوساطة وتعرض مساعيها الحميدة للانخراط بشكل مباشر في المفاوضات تحت رعاية المجلس الرئاسي". وحثث "جميع الأطراف المعنية على اغتنام هذه الفرصة لحل الخلافات بالحوار وبعيدا عن العنف".
التزام وقف إطلاق النار
كانت لجنة الترتيبات الأمنية والعسكرية بالمجلس الرئاسي شددت على ضرورة رجوع جميع القوات والوحدات إلى مناطقها ومعسكراتها فوراً، مطالبة بالامتناع من أي تمركز أو انتشار غير مشروع داخل المدن أو خارج نطاق التكليفات الرسمية.
ودعا بيان اللجنة جميع القوات المسلحة إلى الالتزام الصارم بوقف إطلاق النار باعتباره أساساً للحفاظ على الأرواح والممتلكات وضمان استمرار العملية السياسية والأمنية، مذكراً بالتمسك بمبدأ الشرعية في التحركات العسكرية والأمنية كافة، وموضحاً أن أي نشاط خارج الأطر الرسمية يعد مخالفة جسيمة للقوانين والاتفاقات النافذة.
شروط مبتورة
شروط وصفها المتخصص في الشؤون الأمنية والسياسية الليبية سعد الدينالي بـ"غير الكافية لاحتواء التطورات الأمنية الأخيرة في طرابلس"، وقال إن مجلس الرئاسي كان بإمكانه إيجاد حلول أكثر واقعية من التي جاءت في مخرجات لجنة الترتيبات الأمنية والعسكرية التابعة له، مؤكداً أنها مجرد محاولة من الرئاسي لحفظ ماء الوجه، كاشفاً عن أن المجلس الرئاسي كان من المفروض أن يتوجه لوضع حلول لا مجرد شروط لتجنب الحرب، باعتباره هو من وضع قرار إعادة هيكلة جهاز الردع، لأن المخرجات الصادرة عن لجنة الترتيبات الأمنية والعسكرية لا تصب في نزع فتيل هذه الأزمة.
واقترح الدينالي تعديل صلاحيات جهاز الردع وإعادة المرافق التابعة للدولة إلى حضن الحكومة لأنه من المنطقي أن تكون جميع المرافق الرسمية خاضعة لحكومة الدبيبة، منوهاً بأن المجلس الرئاسي يعلم أن قرار إزاحة القوات المسلحة غير الشرعية أصبح أمراً واقعياً ونافذاً، سواء اتخذ إجراءات أم لم يتخذ، متابعاً أنه لا بد من حلول جدية لنزع فتيل هذه الأزمة من خلال تقليص صلاحيات جهاز الردع، باعتبار أن هناك تشكيكاً من الجهاز ذاته بالشروط التي وضعتها الحكومة، وبخاصة أنه تعهد شروطاً ثم خالفها.
وحول ما إذا كانت العملية العسكرية ستتواصل أم لا، أكد أن الأمر نافذ بإزاحة قوة الردع، ولا سيما أن المجتمع الدولي التزم الصمت في ما سبق عند تحييد قائد جهاز دعم الاستقرار عبدالغني الككلي، مما يؤكد تأييد المجموعة الدولية لما يقوم به الدبيبة، وبخاصة أن أطرافاً عدة متداخلة في الشأن الليبي، وهي أطراف متشابكة ولكن مصالحها أحياناً متضاربة، مما أدى إلى محاولة إزاحة "قوة الردع".
ونوه الدينالي بأن ما يحدث الآن في طرابلس من محاولة لبلورة القوة الأمنية مخطط له منذ مدة طويلة، والهدف منه الانتهاء من توحيد المؤسسة العسكرية لتكون الخطوة الأولى تذويب هذه الميليشيات وصهر الصالح منها داخل القوى الرسمية المنضوية تحت راية القوة الشرطية والقوة العسكرية.
تحرك أميركي
وكشف المتحدث ذاته عن أن الولايات المتحدة الأميركية هي من ترعى هذه العملية بطريقة دبلوماسية، ولعل تصريح مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا مسعد بولس الذي قال إن الولايات المتحدة لديها حل للمشكلة الليبية خير شاهد على ذلك، وقد يكون هذا هو الحل لأن تغيرات جذرية طرأت على جميع الأطراف ومنها تلك التي تحمل طابعاً عسكرياً، ففي الشرق الليبي استجدت تعيينات على معسكر الرجمة، قابلها تحرك لعبدالحميد الدبيبة في طرابلس لاسترجاع قوة الدولة، وهي تطورات يقول الدينالي إنها جاءت مباشرة بعد وصول بولس إلى ليبيا، وأيضاً بعد زيارة عدد من الشخصيات الليبية إلى واشنطن التي أرادت القول إنه من المهم أن تكون هناك مؤسسة عسكرية واحدة على مستوى البلاد، ويجب إزاحة كل هذه الميليشيات وتذويب الصالح منها داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية الشرعية، ولذلك يعد الأمر نافذاً ولا يمكن إيقافه إلا بتحقيق الهدف المنشود.
وسبق أن كشف بولس عند الزيارة الأولى لليبيا أواخر يوليو (تموز) الماضي عن أن "إدارة ترمب تطور تصوراً للحل في ليبيا يشمل جميع الأطراف"، وقال إن هناك "عدداً من الحلول المطروحة ومنها مشروع حكم موحد يشمل جميع الفرقاء بشكل شراكة فعلية".
يذكر أن إدارة ترمب مددت في فبراير (شباط) الماضي حال الطوارئ الأميركية لعام آخر على ليبيا لأنها لا تزال تشكل تهديداً غير عادي واستثنائياً للأمن القومي والسياسة الخارجية الأميركية، وفق إدارته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن كيفية التخلص من أخطبوط الميليشيات كشف الدينالي عن أن توحيد المؤسسة الأمنية والعسكرية تحت مظلة الدولة بصورة رسمية بات أمراً ضرورياً لبناء دولة المؤسسات التي لا يمكن لها أن تقوم في ظل نزاع الميليشيات المسلحة وتغولها على أجهزة الدولة، وتابع أن بناء دولة حقيقية يحتاج إلى مؤسسات رسمية مثل مؤسسة الجيش ومؤسسة الشرطة.
ووصف العملية التي تتهيأ لها طرابلس بالجادة لأنها اللبنة الأولى للذهاب نحو العملية السياسية القادمة التي لن تكتمل في ظل وجود الميليشيات التي كانت سبباً رئيساً في عملية الانقسام الحاصل الآن، وقال إن ما يحصل الآن في شرق البلاد هو عملية تنظيمية إلى حد ما جيدة، حتى وإن كانت تحمل بعض التحفظات، لكنها تبقى الأقرب للمؤسسة العسكرية ذات التراتبية، لذا أصبح من الملح وجود مؤسسة أخرى موازية لها غرب البلاد لخلق جسر تواصل بينهما وتسهيل عملية توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية لتهيئة الأرضية للانتخابات الوطنية.
غياب الآليات
عميد كلية العلوم السياسية بجامعة نالوت إلياس الباروني أكد أن الشروط التي وضعتها لجنة الرئاسة مهمة، لكنها غير كافية لنزع فتيل الحرب بطرابلس، لأن هناك فرقاً بين الترتيبات الشكلية والواقع الميداني في ظل افتقار الترتيبات الأمنية والعسكرية لعدم وجود آليات تنفيذ مستقلة وحازمة، من مراقبة ميدانية وعقوبات فورية، مما يجعل هذه الشروط عرضة للخرق أو قابلة للتطويع من قبل المجموعات المسلحة، كل بحسب مصالحه، فحال اللامركزية في القوة بطرابلس هي سبب المشكلة لأن هناك ألوية أمنية ذات قوة فعلية مستقلة ولا تخضع كلياً لأي أوامر مركزية، وأي شرط لا يضمن آليات دمج أعضاء هذه الكتائب المسلحة في هياكل مؤسساتية يبقى هشاً.
وأضاف الباروني أن مشكلة الحوافز والضمانات عنصر آخر مغيب في مخرجات لجنة الترتيبات الأمنية والعسكرية بالمجلس الرئاسي، فالحزم الأمني يحتاج إلى الاقتران بحوافز ملموسة مثل رواتب منتظمة وعقوبات على المتجاوزين، وإلا ستستمر المجموعات المسلحة بالاحتفاظ بأسلحتها كقيمة تفاوضية حتى تكون لها مكانها في عملية التفاوض إذا حدث أي إشكال، موضحاً أن اللجنة غيبت أيضاً عنصر الرعاة الخارجيين لأن هذه الجماعات المسلحة لها ولاءات للخارج وأية ترتيبات محلية يمكن نسفها إذا استمر الدعم خارجي للمجموعات المسلحة أو تراجع التزام الدول الفاعلة في المشهد الليبي.
هجوم حفتر
وأرسلت قوات حفتر تعزيزات أمنية لكل من بلدة الشويرف التي تقع جنوب غربي ليبيا ومدينة سرت التي تتوسط طرابلس وبنغازي، إثر تحركات عسكرية زادت المخاوف المحلية من إمكان استغلال حفتر الفراغ الأمني لشن عملية عسكرية على المنطقة الغربية كتلك التي حصلت عام 2019، مع مخاوف وصفت بالمشروعة من قبل الباروني، "لكنها ذات احتمال ضعيف على المدى القريب، غير أنها قابلة للتنفيذ على مدى بعيد وبخاصة إذا توافرت شروط دعم جوي خارجي ومرتزقة أجانب".
وقال إن وجود تعزيزات في الشويرف وسرت يمكن استخدامها للتحرك سريعاً إذا قررت قوات الشرق الليبي التدخل غرب البلاد، إضافة إلى بروز التحرك الروسي أخيراً الذي تخللته زيارات وتنسيقات رفيعة المستوى بين نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال يونس بك يفكوروف ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الليبية خالد حفتر.
واستدرك الباروني أن الحال الليبية لا تخلو من عنصر المفاجأة، فمن المعروف أن الجماعات المفتتة الآن في ما بينها غرب البلاد تتحد بمجرد هجوم حفتر على المنطقة الغربية، موضحاً أن تحركات حفتر إلى سرت والشويرف قادرة على خلق تهديد حقيقي، لكن تنفيذ حملة شاملة على طرابلس سيواجه عوائق لوجيستية وسياسية كبيرة، داعياً بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى تطبيق آليات مراقبة ميدانية فوراً ضماناً لعدم جر العاصمة للحرب.
عقوبات دولية
قال المتحدث باسم البعثة الأممية في ليبيا محمد الأسعدي في تصريحات صحافية إن "إخراج الجماعات المسلحة من العاصمة طرابلس واستكمال الإطار الدستوري تمهيداً لحكومة موحدة تقود البلاد نحو الانتخابات يبقى أولوية في الوقت الحالي"، فيما حذر مجلس النواب الليبي من جر العاصمة طرابلس للحرب، وقال البرلمان في بيان له مساء أول من أمس الأحد إنه "يتابع بقلق شديد تطور الأحداث الجارية في طرابلس من حشود عسكرية"، منوهاً بأن هذه التحركات لا تخدم المصلحة الوطنية وتفضي لمزيد من حال الفوضى.
وسبق وطالبت رئيسة البعثة الأممية في ليبيا هنا تيتيه في إحاطتها الأخيرة بخصوص ليبيا في الـ21 من أغسطس (آب) الماضي مجلس الأمن الدولي باللجوء إلى فرض عقوبات دولية على الأطراف المحرضة على الحرب والمعرقلة للعملية السياسية، في توجه أكد الكاتب السياسي الليبي رمزي الجدي حاجة ليبيا الملحة إليه، معتبراً أنه من دون تطبيق عقوبات دولية فلن تنتهي الحرب الأهلية في البلد المنقسم منذ انهيار نظام الرئيس السابق معمر القذافي عام 2011.
وقال الجدي إن الوقت حان للنظر بجدية في مشروع فرض عقوبات دولية تستهدف الأطراف المحرضة على الحرب والمعرقلين لعملية السلام في ليبيا، بخاصة في العاصمة طرابلس، فالإحاطة الأخيرة للممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة جاءت واضحة وصريحة في دعوتها مجلس الأمن الدولي إلى اتخاذ إجراءات ضد المعرقلين، وهو مؤشر خطر إلى أن الوضع في طرابلس قابل للانفجار ما لم يجر احتواء الأطراف المسلحة. وأوضح أن السكوت الدولي سيُفسر على أنه تأشيرة أو ضوء أخضر للاستمرار في التصعيد، مما قد يؤدي إلى انهيار اتفاق وقف إطلاق النار الهش الموقع في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، فالدخول في حرب طويلة الأمد ستكون كلفتها باهظة على الأرواح والممتلكات العامة والخاصة والبنية، بل إنها ستجهز على قيام مشروع الدولة الليبية برُمَّته.