ملخص
نفى أبو زيد تجاهل الرئيس حسني مبارك أزمة السد الإثيوبي وقدم شهادته على حقيقة وعد السادات لإسرائيل بجزء من مياه النيل وحذر من نضوب المصادر الجوفية في غياب استراتيجية استهلاكية آمنة.
كان مكتبه أشبه بمرآة للحظة تاريخية: جدران تكسوها خرائط النيل، رفوف أثقلتها الكتب، وطاولة غمرتها أوراق مرتبة كأنها شواهد على سنوات من البحث والانتظار.
في الخارج يتدفق صوت القاهرة بحيويته المعهودة، بينما في الداخل يتسع الصمت لحديث لا يمس شخصاً بعينه، بل يمس شريان الحياة كله في مصر.
أمام رجل خَبُر مفاتيح النهر ودهاليز أسراره لـ12 عاماً كاملة على مقعد وزارة الري المصري عبر ثلاث حكومات متعاقبة، عاش خلالها المعارك التفاوضية على طاولة النيل، وشهد لحظة الصعود الإثيوبي والتوجس المصري، تكتسب الكلمة وزناً مضاعفاً، فمصر على بُعد أيام قليلة من الدخول في زمن جديد، زمن ما بعد سد النهضة، حيث تتقاطع المخاوف بالرهانات، وتُكتب صفحة مختلفة في علاقة المصريين بشريان حياتهم الأزلي، حدث يُعيد كتابة سيرة النيل: ما كان عليه في عطائه، وما قد يكون عليه في ما بعد.
مرحلة جديدة من عمر نهر النيل
جلسنا بين يدي رئيس المجلس العربي للمياه، د. محمود أبو زيد، في حوار أقرب إلى شهادة تاريخية، تسابق الافتتاح الرسمي للسد بأيام قليلة، وتضيء للقراء ما دار خلف الكواليس قبل أن تبدأ مرحلة جديدة من عمر النيل.
تحدث أبو زيد عن سد النهضة وتحولات الموقف الإثيوبي، لكن إسرائيل لم تكن بعيدة من الحديث، فبلهجة يقينية، أكد أبو زيد أن لإسرائيل أطماعاً كبيرة وقديمة في مياه النيل، وهي أطماع علنية وغير علنية، ويروي أن في أكثر من مرة حاولوا الحصول على نسبة من مياه النيل، من دول حوض النيل، وأن تلك المحاولات للحصول على مياه النيل لا تتوقف.
يقول، "هناك من يتحدث عن أن الرئيس الراحل محمد أنور السادات وعدهم بجزء من مياه النيل ولا أعتقد صحة ذلك. كنت وزيراً للري لسنوات طويلة، ولم يحدث أن تدخلوا للحصول علانية على المياه خلال تلك الفترة، لكن أطماعهم موجودة، كما هي حالياً في غزة والضفة الغربية، ومن النيل إلى الفرات، ويعملون جاهدين لتحقيق تلك الأطماع، لكن جميع الدول العربية تقف حائلاً أمام هذا المخطط".
كيف تطور سد النهضة الإثيوبي مع الوقت؟
بحسب شهادته لنا، عاصر أبو زيد بدايات التفكير في إنشاء سد النهضة، حين كان يحمل اسم السد الإثيوبي، وكانت السعة التخزينية له 15 مليار متر مكعب، وهذه الكمية كانت تكفي لحاجات إثيوبيا من المياه، بل وتكفي أيضاً توليد تقريباً مقدار الطاقة الكهربائية التي يولدها السد حالياً.
في سنوات الوزارة لم تكن حدود الأزمة كما هي اليوم، يضيف أبو زيد، إذ كانت محجّمة بالنظر إلى حجم السد الصغير المقترح آنذاك، وكميات المياه التي ستُخزن خلفه، وكان الرئيس الراحل محمد حسني مبارك دائم التساؤل عن تبعات هذا السد، لم يغفل الأمر وفي كثير ما يوجه الأسئلة للوزير بهذا الخصوص، ولم يكن الوضع كما هو قائم الآن من سد أكبر وكميات أضخم تزيد على 70 مليار متر مكعب من المياه في بحيرة السد.
تلقينا عرضاً لشراء مياه النيل وهذه الفكرة تغذيها إسرائيل لدى بعض البلدان الأفريقية
المتحدث كشف عن عرض قدمته بعض الدول الأفريقية لبيع مياه النيل إلى مصر، ويرى أن إثيوبيا وربما غيرها لن تتوقف عن تلك المحاولات، فيسرد من واقع ذاكرته حين كان عضواً في مجلس وزراء مياه حوض النيل، وبينما كان الحديث داخل هذا المجلس مع الوزراء الأفارقة عن حصص مياه النيل، وامتلاك بعض بلدانهم ما يفوق حاجتها من تلك الموارد، فإذا ببعض تلك البلدان يعرض بيع مياه النيل لمصر.
وعلى رغم وجود موارد وأنهار أخرى غير مستخدمة لدى هذه البلدان على النحو الكافي، ومن بينها إثيوبيا التي يسقط على جنوبها ما يزيد على 900 مليار متر مكعب من مياه الأمطار، إلا أن المفاجأة كانت عرض بيع مياه النيل، بحسب ما يشير، بدعوى أن هذه المياه من حصص تلك البلدان، متسائلين: إذا كنتم تبيعون لنا البترول فلماذا لا نبيع لكم المياه؟
ويمضي أبو زيد معرباً عن أسفه لوجود هذه الأفكار، لكنه يتوقف عند شكوك في أن ثمة من يغذي هذا الفكر لدى الدول الأفريقية، مضيفاً "لا ننسى مطلقاً دور إسرائيل في هذه الأمور. مبدأ بيع مياه النيل لمصر أثير أكثر من مرة، وفي رأيي سيُثار من جديد في المستقبل، ويجب الوقوف بقوة في وجه تلك المحاولات".
سد النهضة يخالف اتفاق حوض النيل
كان اتفاق حوض النيل واضحاً بين الـ12 دولة الموقعة، إذ نص على رفض إنشاء مشروع على أي من مصادر النيل من دون موافقة كل الدول، وهو ما لم يحدث في سد النهضة، بحسب ما يشير أبو زيد.
ثم يمضي إلى أن المساعي الإثيوبية لم تتوقف عند حدود سد النهضة، بل تعدته إلى مخططات أخرى لامتلاك سدود إضافية على النيل الأزرق، وهذه السدود لا تزال مدرجة في خطط أديس أبابا، وهو ما يثير الشكوك في أن زيادة المياه المخزنة خلف السد إلى 70 مليار متر مكعب بدلاً من 15 ملياراً كان قراراً سياسياً وليس فنياً، وهذا الأمر ينطوي على أخطار جسيمة للسودان ومصر.
إثيوبيا لم تحترم اتفاق المبادئ منذ 2015 والدراسات لم تجرَ بشكل كافي عن سلامة السد
أزمة السد كانت في قرار تأسيسه من دون الحصول على موافقة صريحة من مصر، مثلما يوضح أبو زيد، فلا مصلحة للقاهرة في عرقلة أي تنمية في إثيوبيا أو أي دولة أفريقية أخرى، طالما أن هناك ضمانات في أن أي مشروعات يجرى تنفيذها ستكون ذات جدوى وليس لها أي أثار سلبية على الدول الأخرى، وهذا ما حاولت مصر طوال المفاوضات الوصول إليه، وهو هدف قائم حتى اللحظة، يتحقق عبر إبرام اتفاقية مشتركة بين إثيوبيا والسودان ومصر، تنظم استخدام سد النهضة بما لا يؤثر في الخرطوم والقاهرة، وفي هذه الاتفاقية ينظم استخدام الفيضانات لما لها من آثار متباينة على البلدين.
ويتطرق أبو زيد في حديثه إلى عام 2015، حين أبرمت مصر والسودان وإثيوبيا اتفاقاً سُمي بـ"اتفاق المبادئ" والذي شمل إجماعاً مبدئياً على حقوق الدول في التنمية بما لا يتعارض مع مصالح الدول الأخرى ويؤثر فيها بالسلب، وهذا الاتفاق كان يفترض أن يكون تمهيداً للتوصل إلى اتفاق نهائي ينظم الاستخدام المشترك للمورد المائي، لكن إثيوبيا لم تحترم هذا الاتفاق، لأنها لم تأبه وبدأت، كما يقول أبو زيد، في إنشاء سد النهضة وانتهت من أعمال البناء وتجهيز التوربينات وحتى عمليات تخزين المياه في بحيرة السد.
احتمالات انهيار السد الإثيوبي قائمة بقوة
يعود أبو زيد مستدركاً، "صحيح استعانت إثيوبيا بخبراء أجانب خلال أعوام المفاوضات، لكن من وجهة نظر مصرية وسودانية لم تجرَ دراسات كافية عن سلامة السد، ومن المعروف أن السد مقام في منطقة فوالق، ومن الوارد انهياره، وهي مخاوف بررت طلب مصر والسودان استكمال الدراسات، لكن إثيوبيا لم تنصاع".
حددت اتفاقية مياه النيل الموقعة عام 1959 مع السودان، حصة مصر بـ55 مليار متر مكعب، بحسب أبو زيد، وهذه الحصة لم تتأثر تقريباً في أعوام بناء السد الإثيوبي وإلى الآن بعناية إلهية، إذ جاءت الفيضانات مرتفعة للغاية، وتمكنت إثيوبيا سريعاً من ملء بحيرة السد، وتصريف بقية الكميات صوب السودان ومصر.
لكن ثمة ما يقلق أبو زيد، فعلى رغم عدم تأثر حصة مصر من مياه النيل إلا أن الدراسات العلمية تؤكد أن هذه الحصة ومستقبل البلاد المائي سيتأثر في الحالتين، سواء في حال حدوث سلسلة من الفيضانات المنخفضة، أو ما يعرف بـ"الجفاف الممتد"، أو من حدوث فيضانات مرتفعة.
مصر تشهد كل سبعة أعوام نقصاً في المياه، هي السبع العجاف، مقابل سبعة أعوام أخرى من الفيضان الوافر
لكن سلوك النيل عبر التاريخ واحد، فدراسات الفيضانات التي أعدها وشارك بها أبو زيد عن حركة النهر في الـ150 عاماً الماضية أخبرت بأن مصر تشهد كل سبعة أعوام نقصاً في المياه، هي السبع العجاف، مقابل سبعة أعوام أخرى من الفيضان الوافر، وفي أي من السيناريوهين تتأثر مصر سلباً كما يقول.
في حال الفيضانات العالية، سيتوجب على القاهرة البحث عن طرق لتصريف هذه المياه التي تؤثر في السد العالي، بينما في الأعوام العجاف ستتراجع المياه في بحيرة سد النهضة الإثيوبي، بالتالي لن تصرف إثيوبيا كل حصة مصر والسودان من المياه، وستصبح البلدان حينئذ في إشكالية كبيرة، وعليه فإن الضامن لتنظيم هذه العملية التوصل إلى اتفاق بين البلدان الثلاث، وفي غياب هذه الاتفاقية من الوارد حدوث أزمات مياه صعبة.
من التبعات السلبية على مصر، يقول أبو زيد، إن عالم ما بعد إنشاء سد النهضة، وفي الأعوام العجاف التي تشهد انخفاض الفيضانات، يتوقع أن تتراجع حصة مصر من مياه النيل، بالتالي ستنخفض الطاقة المولدة كهربائياً عبر السد العالي في أسوان نحو 30 في المئة.
خطر جسيم على مصر والسودان حال انهيار السد
وعلاوة على ذلك، لم ينف الرجل وجود خطر جسيم على مصر والسودان حال حدوث سيناريو انهيار سد النهضة الإثيوبي، وهو سيناريو مرجح ووارد، ولم تستكمل الدراسات في شأنه، في ظل بناء السد في منطقة الفوالق التي قد تعرضه إلى التدمير في أعقاب حدوث زلزال قوي، بحسب ما يقول.
وتختلف درجة التأثر السلبي المتوقعة تبعاً لطبيعة الانهيار في سد النهضة، إن كان انهياراً كاملاً أو جزئياً، ومقدار الوقت الذي يستهلكه الانهيار وحجم المياه المتدفقة وسرعتها التي ستصدم السودان ثم تهدأ قليلاً مع وصولها إلى مصر التي قد تلجأ إلى تصريف المياه في المفيض.
لكن سيناريو الانهيار لن يكون مدمراً إلى الدرجة التي يقدر فيها البعض أن يجرف الفيضان مدن الدلتا إلى مياه البحر المتوسط، فهذا الأمر من قبيل المبالغة، كما يراه المتحدث.
الفقر المائي قد يتعزز في مصر لأسباب كثيرة مثل التغير المناخي ونضوب المياه الجوفية
قد تتعرض مصر إلى حال من العطش بعد سد النهضة، وهي ظاهرة قد تحدث لأسباب يعددها أبو زيد، بدءاً من تراجع المورد المائي لأسباب كثيرة من بينها التغير المناخي وسوء الاستهلاك وعدم الترشيد، وفي النموذج المصري يؤثر ذلك في محطات الطلمبات التي تضخ المياه إلى محطات التحلية، ما يعني معاناة للناس وشُحاً في المياه.
أما السبب الآخر الذي يسرع من الوصول إلى تلك الحال، سحب المياه الجوفية في مناطق الاستصلاح الزراعي الجديدة بشكل جائر حتى توقف الطلمبات عن ضخ المياه وهذا الأمر حدث في بعض مناطق غرب الدلتا، إذ تملحت المياه هناك بفعل هذا السحب، وعليه فإن العطش قد يكون نتيجة لظواهر طبيعية تؤثر في المصدر المائي، أو حتى نتيجة سوء استخدام المياه، بحسب ما يضيف.
مستقبل مياه خزان الحجر الرملي النوبي
ولدى مصر خطط تتعلق بمستقبل وأمن المياه، منها ما أُعد حتى أعوام 2030 و2037 و2050، وشارك أبو زيد في عديد منها، لكنه يرى أنه حتى الآن لا تزال البلاد تحظى بتوازن ما بين المورد المائي واستهلاكه، وهو توازن قائم على عديد من المصادر المائية، بل واستيراد الأغذية في بعض الأحيان والذي يعني في جوهره عدم وجود حاجة للزراعة واستهلاك المياه في هذا النشاط، لكن يعاود أبو زيد للتنبيه بأنه إذا لم تتخذ الإجراءات المطلوبة واتباع سياسات واضحة فإن الفقر المائي سيتعزز في مصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تطرق وزير الري المصري السابق، إلى مورد آخر مهم للمياه العذبة، هو المياه الجوفية، ومن أكبر خزانات تلك المياه، خزان الحجر الرملي النوبي الذي يتوزع على أربعة دول هي مصر وليبيا والسودان وتشاد، ومياه هذا الخزان غير متجددة كما يوضح أبو زيد، إذ إنها تكونت عبر ملايين السنين في باطن الأرض على أعماق وكميات ونوعية مختلفة.
وبحسب أبو زيد، يفترض أن كل دولة تؤسس سياستها المائية تبعاً لمواردها المتاحة، وفي مصر، تُستخدم مياه خزان الحجر الرملي النوبي ضمن السياسات المائية للبلاد، بالتالي فإن تنظيم استخدام هذا المصدر المائي غير المتجدد أمر مطلوب ومُلّح، وتحت اتفاقية مشتركة للدول الأربع، وهناك هذه الاتفاقية التي تضم تلك الدول تحت مظلة لجنة مشتركة تجتمع بشكل دوري على فترات متقاربة لإدارة وتنظيم استخدام مياه الخزان النوبي بكفاءة ومن دون تأثير.
توجد أنهار جوفية مطمورة على أعماق كبيرة للغاية أسفل مصر منذ آلاف السنين لكن لا ينبغي الإفراط في الطموح في شأنها
وبسرد أبو زيد، أن ثمة أنهاراً جوفية على أعماق كبيرة للغاية، تمكن العالم المصري فاروق الباز عبر عمله في وكالة "ناسا" وعبر صور الأقمار الاصطناعية من كشف تلك الأنهار الكبرى، والتي يتفرع منها خزان الحجر الرملي النوبي، وهذه الأنهار موجودة أسفل كثير من الدول العربية، وبعض تلك الدول نجح في الوصول إلى مياه تلك الأنهار على أعماق سحيقة.
ويمكن عبر استغلال التكنولوجيا الحديثة في الرصد، اكتشاف جانب من تلك الأنهار المطمورة منذ آلاف السنين، لكن أبو زيد لا يعتقد أن المتبقي من هذه الأنهار غير المكتشفة كبير، داعياً إلى عدم الإفراط في المبالغة والطموح في اكتشاف المزيد.
المشروعات المصرية لا تشكل خطراً على مياه النهر الصناعي في ليبيا لأن حدود السحب لا تزال آمنة
وأمام شكوك وشكوى ليبيين من مشروعات غرب مصر الزراعية، وهاجس استهلاك القاهرة مياه الخزان الحجر الرملي النوبي، خصوصاً مع وجود تقارير فنية تتحدث عن تراجع مناسيب مياه النهر الصناعي في ليبيا، يقف أبو زيد في حديثه، مشيراً إلى أن المشروعات المصرية لا تشكل خطراً حتى الآن على مياه الخزان الجوفية.
ويعتمد مشروع النهر العظيم في ليبيا على خزان الحجر الرملي النوبي، ومياه هذا الخزان تمتد أسفل صحراء مشتركة بين مصر وليبيا والسودان وتشاد، وكل من هذه الدول يمكن أن يستخدم تلك المياه في المناطق الخاضعة لها، وفق أبو زيد، على ألا يكون هناك سحب جائر في منطقة يسبب انخفاض المياه في المنطقة المجاورة.
مصر وليبيا ومياه خزان الحجر الرملي النوبي
ويتابع بقوله "صحيح هو كله خزان واحد لكن هناك تداخل، وهنا يبرز دور الدراسات وعلوم المياه الجوفية، فلا ينبغي أن تتجاوز أي دولة حدود السحب الآمن ويمكن تنظيم عملية السحب عبر الهيئة المشتركة الممثلة للدول الأربع، والتحقق من أن السحب آمن في كل منطقة، لكن لا أعتقد حتى الآن أن ما يجري في ليبيا أو مصر من استهلاك تجاوز السحب الآمن".
ويلفت أبو زيد الانتباه إلى أن ما يُستصلح في غرب مصر من أراضٍ جديدة لا يعتمد فقط على المياه الجوفية، بل يعتمد في هذه المناطق على جزء من المياه السطحية، ممثل في مورد مائي إضافي يُستغل الآن، وله أولوية، عبر التحلية وإعادة استخدام المياه المعالجة كمياه الصرف الصحي والزراعي، وإعادة تدويرها لاستخدامها في الزراعة.
ويمضي في المسار ذاته، بأن مصر أنشأت ثلاث محطات للمعالجة، من بينها المحطة الأكبر في العالم في منطقة الحمام غرب الدلتا والتي تعالج ستة ملايين متر مكعب يومياً من مياه الصرف، وأخرى في سيناء وثالثة في شرق الدلتا، وأن حصيلة تلك المياه المستصلحة تستخدم في الاستصلاح الجديد، ويختتم باستبعاده فرضية أن الاستثمار الزراعي في غرب الدلتا أو في منطقة النهر العظيم يؤثرا على بعضهما البعض نتيجة للسحب الجائر، إذ لم يصل السحب إلى هذا المستوى الجائر لخزان الحجر الرملي النوبي، بحسب إفادته.
المياه ومستقبل الزراعة في المنطقة العربية
في حديثه، ينبه المسؤول إلى أن كثيراً من دول المنطقة العربية ومن بينها مصر يعتمد على الري بالغمر وهو نوع من الري المعروف باستهلاكه المرتفع للمياه، ولهذا النوع من الري مشكلات عدة، في حين أن قلة من تلك الدول تعتمد على الري المحوري أو الري بالتنقيط، وفيه تُستخدم مياه أقل في النشاط الزراعي وينطوي هو الآخر على تحديات.
وفي أي من النوعين، يتأثر النشاط الزراعي بما يحدث للمورد المائي، وما يمكن أن تترتب عليه حال التوسع الزراعي كما هي الحال في مصر التي تتوسع زراعياً اعتماداً على استهلاك الموارد المائية بنوعيها المتجدد وغير المتجدد، وعليه فإن هذا التوسع الزراعي ينبغي أن يكون محسوباً بدقة، عبر وضع خطة للتوسع الزراعي الأفقي خاضعة لسياسة مدروسة بعناية، بجانب تحسين استغلال المياه في الأراضي القائمة عبر ما يعرف بـ"التوسع الزراعي الرأسي" باستخدام ذات الموارد المائية، وهو أمر يستلزم ترشيد المياه وتوعية المزارعين، وإلا سيكون التوسع الزراعي على حساب مياه معرضة للتأثر أو النضوب في غضون عدة أعوام.
مبارك تخلى عن مشروع توشكى بضغوط سياسية نالت من سمعة المشروع باعتباره "عبئاً مالياً" لا جدوى منه
في سنوات عمله وزيراً للري في مصر، أشرف أبو زيد على مشروع توشكى الذي بشَّر مصر بمئات الآلاف من الأفدنة الزراعية المستصلحة، وما يعنيه ذلك من وفرة الإنتاج الزراعي إلى حدود الاكتفاء، قبل أن يمسي المشروع "عبئاً مالياً" يجب التخلص منه لمصلحة مشروعات أخرى، بضغوط سياسية، بحسب ما يعتقد أبو زيد.
يضيف في حديثه "كان لي شرف العمل في مشروع توشكى منذ بدايته، وهي المنطقة لها مزايا كبيرة، من حيث موقعها الجغرافي القريب من المصادر المائية المتجددة، وبها أيضاً مصادر كثيرة للمياه الجوفية، وتمتاز أراضيها بجودتها وصلاحيتها للزراعة، ومن خلال الدراسات جرى التخطيط في عهد الرئيس مبارك للتوسع في نصف مليون فدان، أو 600 ألف فدان".
استكمال مشروع توشكى في عهد السيسي
كان من المخطط للمشروع أن يعتمد على المياه النيلية، المستمدة عبر محطة رفع كبيرة تضخ من بحيرة السد العالي إلى منطقة منخفضات توشكى، مروراً بترعة كبيرة ذات أربعة أفرع متعددة، وهذه المنخفضات تستخدم حالياً لاستيعاب المياه الزائدة جراء الفيضانات.
يعود أبو زيد بذاكرته مفتشاً في الماضي: بدأ الاستصلاح الزراعي في تلك المنطقة، وإنشاء البنية التحتية الأساسية اللازمة للزراعة، لكن بعض التدخلات السياسية في عهد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك نالت من سمعة المشروع وجدواه وبطء العائد المتوقع في ضوء الكلفة المرتفعة للغاية، ولم تكن هذه التدخلات من الرئيس نفسه آنذاك، قبل أن يتوقف المشروع حتى استكماله في عهد الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، وتوسع إلى درجة استصلاح 300 ألف فدان في الوقت الحالي.
المنطقة العربية تعاني ندرة حادة في المياه وتستحوذ على 1 في المئة فقط من الموارد العذبة عالمياً والأزمة ستشتد بحلول 2050
وينظر رئيس المجلس العربي للمياه بقلق شديد إزاء معاناة المنطقة العربية من ندرة المياه، ويعتقد أن تلك المعاناة ستزداد مع مرور الوقت، فتلك المنطقة من العالم يحيا بها ستة في المئة من السكان، بينما لا تستحوذ سوى على واحد في المئة فقط من المياه العذبة المتجددة، وهو ما يعكس بوضوح ندرة الموارد المائية.
كان متوسط نصيب الفرد العربي نحو ثلاثة آلاف متر مكعب في عام 1962، قبل أن يتراجع هذا المتوسط حالياً إلى مستوى 700 متر مكعب فقط، ويتوقع بحسب أبو زيد، أن ينخفض إلى 300 متر مكعب للفرد سنوياً بحلول عام 2050.
اختلال توزيع المياه والعجز المائي عربياً
ليس هذا فحسب، لكن حتى هناك توزيع خطر لتلك المياه في المنطقة العربية، بحسب ما يخلص أبو زيد، فنحو 75 في المئة من تلك المياه العذبة متوافرة في أربعة دول فقط، ما يعني أن معظم دول العالم العربي تعاني من نقص شديد على مستوى متوسط نصيب الفرد من المياه، ويمكن الاستدلال على ذلك بمتوسط نصيب الفرد في الأردن كمثال، المحدد بنحو 100 متر مكعب فقط.
ككرة الثلج، تنمو أزمة ندرة المياه العذبة مع تنامي سكان المنطقة البالغ تعدادهم قرابة 400 مليون فرد، وهذا الرقم مرشح للزيادة إلى مستوى 650 مليوناً بحلول عام 2050، وعليه ينبغي النظر إلى مسببات تلك الأزمة بما تشمله مع عوامل الزيادة السكانية وثبوت الموارد المائية وتنامي الاستهلاك والهدر وغياب الترشيد، بجانب تلوث المياه، سواء كانت جوفية أو متجددة كالأنهار.
يعاود أبو زيد ليضيف، "هناك الزراعة التي تستهلك وحدها ما يزيد على 85 في المئة من الموارد المائية، وأي هدر في هذا الاستهلاك يعني ضعف تو فر المياه للاستخدامات الأخرى، وفي المقابل، يعتمد نحو 70 في المئة من سكان المنطقة العربية على المياه الجوفية كمورد للمياه العذبة".
المستقبل قد يشهد اندلاع حروب وصراعات مياه وهذه المخاوف تجلت بوضوح في الصراع العسكري الأخير بين الهند وباكستان
يقسم أبو زيد المياه الجوفية إلى نوعين أساسيين، الأول هو المياه الجوفية المتجددة، والتي توجد داخل الخزانات الجوفية وتتغذى على تسرب مياه الأمطار ومياه الري الزراعي والترع، وهذا النوع من المياه معرض للنضوب في ظل تنامي الاستهلاك والسحب.
أما النوع الثاني، فهو المياه الجوفية غير المتجددة يمثل النسبة الأعظم في المنطقة العربية، وهي تلك التي تكونت في أعماق سحيقة داخل الأرض منذ ملايين السنين عبر سقوط الأمطار، ويطلق عليها اسم "الخزانات الجوفية المغلقة" نظراً لوقوع المياه بين طبقتين صمتين، ما يستلزم تعميق أعمال الحفر للوصول إليها، وتنفجر ينابيع تلك المياه من دون الحاجة إلى عمليات الرفع بمجرد الضغط على الطبقات التي تخزن المياه، على نفس شاكلة استخراج البترول والغاز، وبمرور الوقت تتراجع هذه الضغوط، ما يعني نضوب تلك المياه.
أنهار العراق وسوريا والأزمة التركية
مع فهم عميق لتلك التعقيدات وما تنطوي عليه من أخطار كبيرة، يتوقع رئيس المجلس العربي للمياه، أن يشهد المستقبل اندلاع حروب وصراعات مياه، فثمة مناطق غنية بالمياه وأخرى تعاني من الجفاف، وهذه الحرب تجلت بوضوح في الصراع العسكري الأخير بين الهند وباكستان بسبب مياه نهر السند.
هناك مناطق أخرى قد تشهد صراعاً على المياه، بحسب أبو زيد، فطالما وُجد العجز المائي فإن الخلاف والحرب يظلان قائمين، ولعل الخلاف المائي بين إسرائيل والأردن كان سبباً في حرب 1956، وهذا الخلاف أيضاً وُجد بين تركيا والعراق، حين أنشأت أنقرة سد أتاتورك، والذي حجز المياه عن أنهار سوريا والعراق، إلى أن توصلا إلى اتفاق يقضي بتصريف المياه، لكن جانباً كبيراً من هذه المياه كانت ملوثة، بحسب المتحدث.
لكن هناك دائماً توصيات وتحذيرات يعمل عليها المجلس العربي للمياه ككيان بحثي معني بدراسة الأخطار والتحديات والفرص، ومع مشاركة المجلس في فعاليات منتدى المياه العالمي في الرياض عام 2027، ستستعرض كثير من التوصيات خلال الحدث الضخم الذي يشهد مشاركة الهيئات الدولية ذات الصلة، وأكثر من 10 آلاف مشارك، بحسب أبو زيد، موضحاً أن من المقرر عقد فعاليات المؤتمر العربي للمياه في مدينة جدة كتمهيد للمنتدى العالمي للمياه.