Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هيكلة الجيش السوداني بين الإصلاح وتقويم الولاءات

الإجراءات الأخيرة إما أن تمنح البرهان زمناً إضافياً لترتيب أوراقه أو تفجر التناقضات في قلب السلطة

رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان (أ ف ب)

ملخص

تعكس هذه الإجراءات إدراكاً متزايداً لدى القيادة العسكرية بضرورة ضبط التوازن داخل الجيش وإعادة إنتاج الولاءات في ظل حرب استنزافية طاولت البنية التنظيمية للمؤسسة، وفي الوقت نفسه، تطرح أسئلة حول مدى فاعليتها في وقف التدهور الأمني والسياسي، خصوصاً أنها تأتي متزامنة مع ضغوط دولية لفرض هدنة وإطلاق عملية تفاوضية أكثر شمولاً.

 جاءت قرارات رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان الأخيرة بإعادة هيكلة الجيش لتشكل نقطة تحول في مسار الصراع، فقد شملت هذه الإجراءات، الصادرة في الـ18 من أغسطس (آب) الماضي، تغييرات تمثلت في إعفاء ضباط بارزين من الخدمة، وإحالة آخرين إلى التقاعد، مقابل ترقية مجموعة جديدة والإبقاء على بعض القيادات المؤثرة في مواقعها، مثل رئيس هيئة الأركان ورئيس الاستخبارات العسكرية.

هذه الخطوة أثارت نقاشاً واسعاً حول أهداف البرهان ودوافعه، إذ يراها البعض محاولة لترسيخ سلطته الداخلية عبر إضعاف مراكز القوى المنافسة داخل المؤسسة العسكرية، فيما يعتبرها آخرون رسالة إلى المجتمع الدولي باستعداده لإعادة ترتيب البيت الداخلي بما يتماشى مع متطلبات مرحلة التسوية، لكن ما يتفق عليه معظم المراقبين هو أن القرارات لا يمكن فصلها عن المسار السياسي الذي اتبعه البرهان منذ توليه رئاسة مجلس السيادة عقب إطاحته بحكومة عبدالله حمدوك في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وتحالفه الموقت مع الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) قبل اندلاع الحرب بين الطرفين.

 تعكس هذه الإجراءات إدراكاً متزايداً لدى القيادة العسكرية بضرورة ضبط التوازن داخل الجيش وإعادة إنتاج الولاءات في ظل حرب استنزافية طاولت البنية التنظيمية للمؤسسة، وفي الوقت نفسه، تطرح أسئلة حول مدى فاعليتها في وقف التدهور الأمني والسياسي، خصوصاً أنها تأتي متزامنة مع ضغوط دولية لفرض هدنة وإطلاق عملية تفاوضية أكثر شمولاً.

 كما أن قرارات البرهان تكشف عن محاولة مزدوجة، من جهة تعزيز موقعه الشخصي داخل المؤسسة العسكرية بإزاحة قيادات يُحتمل أن تمثل تحدياً لسلطته، ومن جهة أخرى تقديم نفسه كشريك يمكن التعويل عليه في أية تسوية سياسية مقبلة، إلا أن نجاح هذه المحاولة يظل رهناً بقدرته على إدارة الانقسامات داخل الجيش، وعلى إيجاد صيغة توازن بين الضغوط الدولية ومتطلبات السيطرة على الداخل.

في هذا السياق، تبدو إعادة هيكلة القيادة العسكرية خطوة تكتيكية أكثر منها إستراتيجية، تحمل في طياتها فرصاً لتعزيز الانضباط المؤسسي، لكنها في الوقت نفسه قد تُسرِّع من تفجر تناقضات جديدة داخل منظومة الحكم.

مسار مزدوج

 منذ انقلاب الـ25 من أكتوبر 2021، حين أطاح الجيش بشراكة المدنيين في السلطة ووضع حمدوك تحت الإقامة الجبرية، دخل السودان مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي، وتحول البرهان من قائد شريك في سلطة انتقالية إلى منفرد بالقرار السياسي والعسكري، فبينما كان يُنظر إليه سابقاً باعتباره طرفاً ضرورياً في معادلة انتقالية معقدة، أصبح يُرى كجنرال يسعى إلى تثبيت حكمه على حساب التحول الديمقراطي، هذا التحول في الرؤية الدولية ألقى بظلاله العميقة على مجريات الأحداث الداخلية.

 اتخذ البرهان منذ اللحظة الأولى لانقلابه مساراً مزدوجاً، من جهة حاول تبرير خطواته باعتبارها "إعادة ترتيب ضرورية" لحماية الدولة من الانهيار، ومن جهة أخرى عمل على إعادة هندسة المؤسسة العسكرية عبر الإقالات والترقيات، من منظور إستراتيجي، هذا النهج يعكس قناعة بأن السيطرة على الجيش تشكل خط الدفاع الأخير ضد الانقلابات المحتملة، وضماناً لبقائه في الحكم، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن توجس عميق من الداخل، إذ إن أي اختلال في توازن الولاءات داخل المؤسسة العسكرية قد يشكل تهديداً وجودياً لسلطته.

 

 

 أما على المستوى الدولي، فقد تسببت هذه التحولات في إضعاف موقع البرهان التفاوضي، فبينما حاول تقديم نفسه شريكاً يمكن الاعتماد عليه في استقرار السودان، كانت العواصم الغربية والإقليمية تقرأ خطواته على أنها محاولة لإعادة إنتاج الحكم العسكري بغطاء مختلف، ومع تزايد التدهور السياسي والاقتصادي، بدا أن البرهان يخشى أن تُترجم الضغوط الخارجية إلى محاولات مباشرة لإزاحته، سواء عبر المجتمع الدولي أو عبر حراك شعبي داخلي.

غير أن مصدر الخطر الأكثر إلحاحاً على البرهان يظل كامناً داخل المؤسسة التي يقودها، فالمؤشرات على تململ بعض القيادات العسكرية، خصوصاً بعد الحرب وما خلفته من انقسامات، تعزز فرضية أن أية خطوة غير محسوبة قد تفتح الباب أمام تحركات داخلية تستهدف موقعه، وبذلك، يصبح بقاؤه معلقاً بين ثلاثة ضغوط متوازية، ترقب المجتمع الدولي، ورفض الشارع، واحتمال تمرد من داخل الجيش نفسه.

إعادة تموضع

في ظل هذه القرارات، تتنامى المؤشرات على أن المؤسسة العسكرية لم تعد قادرة على الحفاظ على وحدتها التقليدية، وأن مسارها يتجه نحو التصدع بفعل صعود مراكز قوى موازية ذات طابع سياسي– أيديولوجي، فبينما تؤكد المصادر الرسمية أن التنقلات والإحالات تندرج في إطار روتيني تنظيمي، فإن قراءة أعمق للمعطيات تكشف عن أنها أقرب إلى إعادة تموضع لمجموعات بعينها داخل المؤسسة، بما يخدم عودة تنظيم "الإخوان المسلمين" وازدياد نفوذه في هياكل القيادة.

إحالة أكثر من 20 رتبة لواء دفعة واحدة، بينهم ضباط برزوا في إدارة العمليات خلال الحرب الحالية، لا يمكن فصلها عن الصراع على النفوذ داخل الجيش، فالتبريرات المرتبطة بـ"ضعف الأداء" أو "الترهل الإداري" تبدو قاصرة عن تفسير حجم التغيير وسرعة إيقاعه، لا سيما أن بعض من أُحيلوا إلى التقاعد كان يُنظر إليهم كعناصر مهنية أكثر من كونهم أصحاب ولاءات أيديولوجية، مما يعزز فرضية أن القرارات لم تكن مجرد تصحيح وظيفي، بل استهدفت إعادة توزيع مراكز القوى بما يضمن تغلغل تيارات بعينها في قلب المؤسسة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ومن زاوية أخرى، فإن هذا التحول يعكس أزمة عميقة في بنية الجيش السوداني إذ إن ميله نحو الاصطفافات الأيديولوجية يضعف قدرته على التمايز عن التجاذبات السياسية، ويحوله تدرجاً من مؤسسة وطنية إلى ساحة صراع داخلي بين تكتلات متنافسة، وهذا لا يقتصر على إعادة تشكيل القيادة العليا، بل يمتد إلى المستويات الوسطى حيث يُعاد إنتاج الولاءات وفقاً لخطوط فكرية أكثر منها مهنية.

وعلى المدى المتوسط والبعيد، فإن تكريس مراكز تيار الإسلاميين داخل الجيش يمنحهم القدرة على التحكم في قرارات الحرب والسلم، ويعقد أية تسوية سياسية مستقبلية، وهو ما يضع السودان أمام معادلة أمنية وسياسية أشد تعقيداً مما كان عليه قبل اندلاع الحرب.

استحقاقات دولية

 لا يبدو الرهان على خطاب "إصلاح القطاع العسكري" ذريعة واهية أمام الداخل فقط، بل حتى المجتمع الدولي ينظر إلى هذا المسار كغطاء سياسي لتثبيت السلطة وإعادة هندسة الولاءات داخل المؤسسة، فواشنطن، التي دعمت السودان عسكرياً في عهود سابقة، في إطار التجاذبات بينها وبين موسكو خلال الحرب الباردة، كان لديها استعداد لإصلاح المنظومة العسكرية طالما دعمت التغيير الديمقراطي.

 يعكس وضع الجيش السوداني اليوم مزيجاً من التسييس، وانعدام الثقة، وتداخل المصالح الاقتصادية بالاعتبارات الأمنية، فمنذ النظام السابق، تحولت المؤسسة العسكرية إلى أداة مؤدلجة، وجرى استحداث أجسام موازية من ميليشيات وقوات أمنية عدة، مما أضعف وحدة القرار العسكري وأفقد الجيش طابعه المهني، وفي ظل هذه البيئة، يصعب على أية عملية "إصلاح" أن تكون سوى إعادة إنتاج للدائرة المفرغة من الصراعات الداخلية ذاتها.

في المقابل، فإن الدول التي تقدم دعماً مباشراً للجيش، مثل إيران وروسيا، لا تنطلق من اعتبارات بناء مؤسسات مهنية بقدر ما تسعى إلى ترسيخ نفوذها الجيوسياسي، فطهران تنظر إلى السودان بوصفه منفذاً لمد نفوذها العسكري والاقتصادي في البحر الأحمر، بينما ترى موسكو فيه شريكاً محتملاً لتعزيز حضورها في أفريقيا عبر صفقات السلاح والموانئ، لذا فإن أجندة هذه القوى لا تنسجم مع خطاب "إصلاح القطاع الأمني"، بل تغذي ديناميات الانقسام والارتهان.

 

 

 توضح هذه التحركات أن جذور عدم الاستقرار في السودان أعمق من مجرد تغييرات شكلية في قيادة الجيش، فهي مرتبطة ببنية الدولة نفسها، وبالتاريخ الطويل من عسكرة السياسة وتسييس الأمن، ومن دون مقاربة شاملة تعيد تعريف دور المؤسسة العسكرية، وتضمن عملها ضمن سلطة مدنية شرعية، سيبقى أي إصلاح مجرد وهم تكتيكي، لا يقنع الداخل ولا ينطلي على الخارج، لذا فإن البرهان وهو يعيد صياغة ميزان القوى داخل الجيش، إنما يوسع الفجوة بين شعارات الإصلاح والواقع، ويضع السودان أمام استحقاقات دولية أشد وطأة.

 سيناريوهات محتملة

 تكشف هيكلة الجيش السوداني عن محاولة البرهان إعادة ترتيب الولاءات الداخلية ضمن المؤسسة العسكرية، مستنداً إلى خطاب الإصلاح، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع الإفلات من ظل نظام الرئيس السابق عمر البشير وإرثه السياسي والعسكري المؤدلج، الجيش الذي ورثه البرهان يعاني تسييساً مزمناً، وضعفاً احترافياً، ووجود أجسام موازية، مما يجعل أي إصلاح شكلي عرضة للانقسامات الداخلية والصراع على السلطة.

ومع أن السيناريوهات المحتملة تتباين بحسب مدى نجاح أو فشل هذه الهيكلة، لكن يمكن أن تبرز منها ثلاثة، الأول، سيناريو الإصلاح المهني الجزئي، حيث تؤدي التعيينات والإقالات إلى تعزيز بعض الهياكل الاحترافية داخل الجيش، مع تقليص تأثير الأجسام العسكرية الموازية، وتحسين التدريب والانضباط، ووفقاً لذلك تحقق الدولة استقراراً نسبياً، ويصبح الجيش أكثر قدرة على ضبط الأزمات المحلية، مع استمرار بعض الولاءات التقليدية، هذا السيناريو يتطلب مراقبة ودعماً دولياً، ولكن يحده عدم رغبة الغرب في الانخراط العميق في الشأن السوداني.

والثاني، سيناريو الصراعات الداخلية المستمرة، وهو الأعلى احتمالاً، إذ يستمر الجيش في حالة الانقسام بين الولاءات الشخصية والفصائلية، مع تفجر صراعات متكررة داخل المؤسسة، وأي تغييرات في القيادات تولد أزمات جديدة، ويصبح الجيش أداة سياسية بدلاً من مؤسسة مهنية، مما يضعف قدرة الدولة على إنهاء الحرب والصراعات الداخلية، ويزيد من هشاشة الحكم.

أما الثالث، فهو سيناريو الجيش كعامل ضغط سياسي مباشر، بأن يستخدم الجيش هيكليته ونفوذه المباشر للتحكم في المشهد السياسي، بما يعيد إنتاج دور البشير في توظيف الجيش كأداة للسيطرة على الدولة، ويؤدي ذلك إلى دورة جديدة من الانقلابات أو الصراعات المسلحة، ويعمق التوترات الإثنية والمناطقية، مما يجعل أي إصلاح حقيقي بعيد المنال.

 تكشف الخطوة الواسعة نحو إعادة هيكلة الجيش بأنها ليست مجرد خطوة تنظيمية، بل هي انعكاس لصراع وجودي يخوضه البرهان لضمان استمراريته، وفي الوقت نفسه قد تكون سلاحاً ذا حدين، إما أن تمنحه زمناً إضافياً لترتيب أوراقه، أو أن تسرع من تفجر التناقضات التي تهدد موقعه في قلب السلطة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل