ملخص
الحي الذي يقطنه بين 15 و20 ألف مواطن سوري علوي يملك خصوصية تأتي من كونه واحداً من أكبر الخزانات البشرية للطائفة في دمشق منذ نحو 50 عاماً، ولكون سكانه يعيشون أساساً ضمن واحدة من أقسى ظروف الفقر والقهر والحاجة، وقد كان كثير منهم جزءاً في جيش بشار الأسد كضباط أو أفراد أو مجموعات رديفة.
شغلت قضية حي السومرية في العاصمة السورية دمشق الرأي العام خلال الأيام القليلة الماضية إثر حصاره من قبل فصيل عسكري مسلح، مطالباً سكانه بالخروج منه وترك ممتلكاتهم تحت التهديد باستخدام القوة.
الحي الذي يقطنه بين 15 و20 ألف مواطن سوري علوي يملك خصوصية تأتي من كونه واحداً من أكبر الخزانات البشرية للطائفة في دمشق منذ نحو 50 عاماً، ولكون سكانه يعيشون أساساً ضمن واحدة من أقسى ظروف الفقر والقهر والحاجة، وقد كان كثير منهم جزءاً في جيش بشار الأسد كضباط أو أفراد أو مجموعات رديفة.
في التفاصيل
ويتعرض الحي المطل على مطار المزة العسكري السيئ السمعة، منذ أيام لإغلاق مداخله ومخارجه، والاعتداء اللفظي والجسدي على سكانه، ضمن حملة انتهاكات واسعة لم ينج منها حتى النساء والأطفال، والهدف النهائي هو تهجير كامل سكان الحي، ليجد الأهالي أنفسهم أمام معضلة سترميهم في الشارع. فمن اتخذ قرار الرحيل فقد استغنى عن ملكه ومنزله، وهذا ما فعلته عائلات كثيرة خوفاً على حياتها، إذ افترش بعضها الأرض، وذهب آخرون نحو أقارب ومعارف في أحياء أخرى، أو عادوا إلى قراهم التي جاؤوا منها قبل عقود في الساحل السوري وغيره.
عملية الخروج نفسها لم تكن بالسهلة، إذ كانت تتطلب أن يدفعوا أرقاماً باهظة مقابل نقل أثاثهم الركيك، أما من بقي، فقد حوصر، وأهين، وامتهنت كرامته، وتعرض للضرب من دون تمييز.
قاد هذه الحملة قائد عسكري "فوق قانوني" يعرف باسم أبي حذيفة، ويمتلك قواماً عسكرياً موالياً تعداده بالمئات، ويعرف عنه الخشونة والقسوة والتمرد ورفض الأوامر العليا من السلطات، كما اتضح في الأيام اللاحقة.
استغاثة بلا إجابة
صحيح أن السومرية ليس أول مكان يتعرض سكانه للتهجير، إذ حصل ذلك في السويداء وحمص وحماة والساحل وبعض حلب، لكن أهميته تكمن في أنه حي إداري في العاصمة من لون واحد لم يواجه السلطة أو يتمرد عليها بعد انتصارها، كذلك فإنه لا يبعد عن القصر الرئاسي سوى بضعة كيلومترات، وفوق ذلك فإن أهله من شدة الفقر باتوا يحتاجون إلى ثورة على الفقر نفسه.
"اندبندنت عربية" زارت الحي في أوقات سابقة، بيوت كثيرة فيه عبارة عن جدران مغطاة من الأعلى بألواح من التوتياء فقط، فلا هي تقي حرّ الصيف ولا برودة الشتاء، ليكون بذلك واحداً من العشوائيات المغرقة في أساها.
في ظل ذلك الجو المريب من التوتر وقطع المياه والكهرباء والإمدادات الطبية وتكسير المحال والصيدليات ونهبها وغير ذلك، تمكن وجهاء ومحامون وأعيان يرتبطون بالحي من الوصول إلى المحافظة وإبلاغهم بما يحصل هناك، لكن المحافظة اعتذرت عن التدخل لعدم الاختصاص، فتوجهوا لوزارة الداخلية التي قابلتهم بالرد نفسه، بحسب أحد المحامين، مضيفاً "بدا كل شيء حينها مظلماً وقاتماً، لا أحد يريد مد يد العون، عدنا نجر ذيل الخذلان خلفنا ونحن نفاجأ بأن القضية تصاعدت في الإعلام وانتشرت كالنار في الهشيم حتّى وصلت مسامع الأمم المتحدة".
تحرك تحت الضغط
تحت ذلك الضغط قررت السلطات السورية أن تتحرك بصورة سيادية لتنهي القصة تماماً وتحول مجراها إلى قانوني - قضائي في إثبات أصل الملكيات عينها، ومن أجل ذلك استخدمت "لجنة السلم الأهلي" لتقوم بتهدئة الأحوال وإعادة الأمور إلى نصابها وإقناع الفصيل صاحب الحصار بالانسحاب، وما بدا أنه تحقق لتوه بات لاحقاً أشبه بإعادة تموضع مع عودة أبي حذيفة وقواته لتهديد السكان ومنحهم وقتاً زمنياً للمغادرة الطوعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قبل تلك الخطوة بقليل خرج المتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، ليقول إنهم مع المبعوث الخاص إلى سوريا غير بيدرسون يتابعون بقلق التطورات في حي السومرية بدمشق ذي الغالبية العلوية، بما في ذلك التقارير عن تهديدات بالإخلاء القسري. وتابع "نمتلك تقارير عن انتهاكات ضد المدنيين الأبرياء، بمن فيهم النساء والأطفال، ونحث السلطات الانتقالية على ضبط النفس والامتناع عن أية إجراءات متسرعة أو عنيفة. والمبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون يتابع هذه التطورات من كثب. ونحن نؤكد ضرورة معالجة قضايا الإسكان والأراضي والممتلكات بعناية، مع إعطاء الأولوية لحماية المدنيين بناء على سيادة القانون وبما يتماشى مع المعايير الدولية".
إصرار على التمرد
التصريحات الأممية كانت بمثابة ضغط إضافي مكرر، لكنها أيضاً لم تمنع أبا حذيفة من العودة رفقة 600 عنصر مسلح هذه المرة ليعيد إصدار أوامر شفهية صارمة بالإخلاء للسكان.
أحد قاطني السومرية قال لـ"اندبندنت عربية"، "جرى احتجاز أكثر من 400 شخص وتكديسهم في أبنية عدة مع وقوع انتهاكات عنيفة مثل الضرب والشتائم والإهانات الطائفية، كان هناك شيوخ وأطفال، حتى النساء لم تسلم من التعنيف والضرب المباشر، كذلك جرى مصادرة كثير من الهواتف المحمولة، وسرقة مدخرات أسر كثيرة على قلتها، وتم وضع علامات (X) على كثير من منازل الحي، وهذه المنازل كما فهمنا تتطلب إخلاءها قبل غيرها من دون أن نفهم لماذا".
المرصد السوري أشار إلى أن قرار أبي حذيفة الأخير كان عدم الامتثال للأوامر العسكرية، بل إنه شتم الرئيس والقيادة السورية، وهذا ما أكده سكان من المنطقة، وأبو حذيفة عملياً هو قائد فصيل "المعضمية" العسكري، وهو حي مجاور نسبياً للسومرية، مما يضع الرجل والقيادة في اختبار صعب أمام حال تمرد معلنة تحمل عصياناً للأوامر العسكرية.
في هذا الإطار يقول المحلل العسكري حسيب عبدالسلام لـ"اندبندنت عربية"، إن "عقوبة عصيان الأوامر العسكرية التي ترقى إلى التمرد معروفة في كل الجيوش والدساتير عبر التاريخ، لكن الوضع في هذه الحال، وفي سوريا تحديداً، قد يبدو مختلفاً جذرياً، فلا يمكن للسلطات أن تشن حملة عسكرية على القائد المتمرد لعشرات الاعتبارات، وفي الوقت ذاته لا يمكنها السماح له التصرف بطريقة قد تعود بنتائج كارثية، والأمر مشابه لعدم تمكن السلطة من محاسبة قادة ثبت تورطهم في مجازر الساحل والسويداء، ولذات الاعتبارات، فلا الزمان ولا المكان يسمحان باقتتال عناصر السلطة في ما بينهم، لذا أرجح في هذه الحال أن تذهب الأمور نحو مسار تفاوضي حثيث بين الطرفين ينتهي باصطلاح الأمور على توافق ولو كان موقتاً".
تداعيات أخرى
تداعيات القصة لم تتوقف عند الأطراف المذكورة، بل أثارت عاصفة في الشارع السوري، وتناولتها صحف غربية ومؤسسات معنية بحقوق الإنسان، كذلك فإنها حملت العالم والمفكر الإسلامي محمد حبش للحديث عنها بقوله "أتابع معاناة سكان حي السومرية غرب دمشق، حيث قام فصيل مسلح بتهديد الأهالي باسم الدولة. الأمور تطورت واستجابت الدولة لاستغاثة الأهالي وتدخل الشرفاء، ووصل فريق حكومي مكلف وقف التهديد ضد السومرية، واعتماد سبيل التدقيق في الملكيات والتأكد من الوجه الشرعي للسكن والإقامة". ويضيف "حي السومرية أحد بؤر الفقر والمعاناة والفوضى في أطراف دمشق، وقد بني هذا الحي منذ عقود على أراضي أهل المعضمية من دون إنصاف السكان، والواقع أن قيام النظام البائد باغتصاب أرض أهل المعضمية على مدى 50 عاماً عبر بناء المطار والحي الشرقي والسومرية والعراقيات والقصور من دون إنصاف أصحاب الأراضي، كل ذلك أدى إلى احتقان شديد، والظلم ظلمات".
واختتم حديثه بالقول "نشد على يد الدولة وندعوها إلى تحمل مسؤوليتها القانونية ومنع تدخل الموتورين، ووجوب حل المشكلات بالقانون ومن طريق الدولة حصراً، فسوريا لا تحتمل مزيداً من المآسي والتجاوزات في حقوق الإنسان، بخاصة أنها تتجه لازدهار اقتصادي واعد. الحل هو الدولة، والفوضى ليست حلاً، والحقوق لا تؤخذ بالتهابش بل بالقانون".
وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن "أعضاء في لجان السلم الأهلي وشخصية بارزة من الطائفة العلوية مقربة من القصر أبلغوا مختار حي السومرية بضرورة الظهور في تسجيل مصور على وسائل التواصل الاجتماعي للتأكيد أن الحي (آمن بالكامل)، وأن الأوضاع عادت إلى طبيعتها، على خطى الطريقة التي كان يتبعها النظام السابق".
ويضيف المرصد "العناصر الموجودون داخل الحي لم يبدوا أي التزام بالتوجيهات الحكومية أو البلاغات الرسمية، مما يثير الشكوك حول مدى فاعلية الإجراءات المعلنة وسط استمرار حال القلق بين الأهالي".
خلفية المشكلة
بدأت مشكلة حي السومرية الفعلية قبل عقود، حين كانت عبارة عن أراض زراعية وبساتين في مواجهة مطار المزة العسكري، وتعود ملكيتها الأساس لسكان منطقة المعضمية، وقد جرى استملاكها وقتها بالقوة من قبل رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، الذي كان يشغل في وقتها منصب قائد "سرايا الدفاع"، وهي القوة العسكرية الضاربة التي كانت تمثل عماد الجيش السوري من دون أن تمتلك آلية ارتباط فعلي وهيكلي وتنظيمي معه، لتكون أشبه بقوة خاصة منفردة لا تمتثل إلا لأوامر رفعت، الذي كان يطلق عليه لقب "القائد"، وتلك القوة من كان يتم تكليفها بالمهمات الصعبة وإن أفضت إلى مجازر مثل مجزرة سجن تدمر العسكري عام 1980.
رفعت الذي كان يعرف بـ"السفاح" أيضاً، وإليه تعزى مجازر حماة في ثمانينيات القرن الماضي قام باستجلاب جنوده وضباطه لبناء مساكن وبيوت في المنطقة (السومرية) واستملاكها لمصلحتهم، وقد سميت بالسومرية نسبة إلى ابنه "سومر"، ومنذ ذلك الوقت تحمل قضية الاستملاك في طياتها مظلوميات لأشخاص فقدوا حقهم في أراضيهم، لكن مع مرور الأعوام والعقود تبدلت الملكيات في السومرية نفسها، وبخاصة بعد محاولة رفعت الانقلابية الفاشلة ضد أخيه حافظ في أواسط الثمانينيات ونفيه خارج البلاد وحل "سرايا الدفاع" بصورة تامة، لتقوم مقامها ما عرف لاحقاً بـ"الفرقة الرابعة" التي كان آخر قادتها ماهر الأسد.
في غضون كل تلك الأعوام ومع تسريح مقاتلي السرايا، كثر منهم عادوا إلى قراهم ومدنهم، وآخرون غيروا عناوين سكنهم، وتبدلت العائلات داخل الحي مراراً، فمنهم من استأجر، وآخرون اشتروا، وصار في الحي قاطنون لا علاقة لهم بماضي رفعت، ولا بالمالكين الأساسيين وطريقة ملكهم، مما يجعل المظلومية في هذا الإطار مزدوجة، بين من اشترى من مالك حصل على ملكه بالامتياز، وبين صاحب أرض سلبت منه أرضه بالقوة.
اليوم يعود أهل المعضمية بقوتهم العسكرية ليستعيدوا أراضيهم بعدما صارت مباني ومنازل، متهمين من دون استثناء سكان الحي بأنهم كلهم تورطوا في الحرب بشكل أو بآخر عبر الخدمة في الجيش أو الأمن أو بقية الجهات الأخرى، انطلاقاً من خلفيتهم الطائفية التي صارت سيفاً على رقابهم بعد انتصار الثورة، ليصبحوا جميعاً مدانين.