Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في أهمية حقائق الكوكب الأحمر وأوهامه

العلم أثبت أنه ما من مريخيين على المريخ مطلقاً لكن ما يثبته كتاب بارون هو أنهم موجودون هنا على الأرض

استولى "هوس المريخ" على الثقافة الشعبية بسردية مثيرة (اندبندنت عربية)

ملخص

كتاب صدر حديثاً للكاتب ديفيد بارون بعنوان "المريخيون: القصة الحقيقية لهوس أميركا مطلع القرن الـ20 بالفضائيين"، يستكشف مجتمعاً على أعتاب تطورات علمية رهيبة ولكنه يبدو عند النظر إليه بأثر رجعي بالغ السذاجة.

خلال طفولتنا في ثمانينيات القرن الماضي، أذاع التلفزيون المصري مسلسلاً بعنوان "نهاية العالم ليست غداً"، وكانت فيه شخصية آسرة لعالم هاوٍـ قام بدوره الراحل توفيق الدقن، يقيم في غرفة على سطح بناية في حي قاهري شعبي مراقباً النجوم، ومنتظراً كائنات من الفضاء أن تتواصل معه وتساعده في إنقاذ كوكب الأرض المسرع في طريقه إلى الجحيم. لا أزال أتذكر الانبهار الذي حكينا به لبعضنا بعضاً تفاصيل التقاء الأستاذ الدرديري - أي الدقن - بالكائنات الفضائية. فعلى رغم سذاجة المؤثرات البصرية، أشعل المشهد خيالنا، وأرضى تعاطفنا مع العالم الذي رماه جميع جيرانه بالجنون.

لم تبلغ بنا السذاجة حد الاعتقاد بصدق ذلك اللقاء، لكن أجداداً لنا قبل قرنين تقريباً بلغوا من السذاجة أن صدقوا عنواناً عريضاً في "نيويورك تايمز" عام 1907 "هناك حياة على كوكب المريخ"، أكدته بعد عام "وول ستريت جورنال" إذ زعمت وجود "دليل" على "حياة إنسانية واعية ذكية" على الكوكب الأحمر.

ذلك التصديق هو موضوع كتاب صدر حديثاً للكاتب ديفيد بارون بعنوان "المريخيون: القصة الحقيقية لهوس أميركا مطلع القرن الـ20 بالفضائيين". يستكشف الكاتب مجتمعاً على أعتاب تطورات علمية رهيبة ولكنه يبدو عند النظر إليه بأثر رجعي بالغ السذاجة.

هوس المريخ وجنونه

في فرنسا القرن الـ19، كان العالم الناشئ كاميل فلاماريون يكتب في وقت فراغه - بحسب استعراض "كيركوس رفيو" الوجيز - روايات تفترض "أن من الكواكب الأخرى ما هو مأهول بأرواح موتى البشر"، وأن عاشقين من بني البشر التعساء تناسخا على المريخ، "وراجت الرواية إلى حد أن أهدى أحد المعجبين فلاماريون قصراً منيفاً على مشارف باريس حوله إلى مرصد. ولم يكن ذلك أنفس ما تلقى من هدايا. فقد أوصت كونتيسة فرنسية تحتضر بتوريثه جلد كتفيها ليغلف به أحد كتبه، والأغرب من هذا أن فلاماريون قبل ذلك الإرث!".

أما في الولايات المتحدة، بحسب ما يرصد بارون، فقد تفشى جنون المريخ عام 1892 لينال من شخصيات كبرى، منها القطب الإعلامي المستقبلي جوزيف بوليتزر، الذي ظلت صحفه تنشر بلا كلل أخباراً عن "ثلاث بقع ساطعة كأنها كشافات قوية" تشع من جبال المريخ. كانت تلك البقع المزعومة قد أثارت خيال العلماء، حتى إن عالماً إيطالياً رسم خريطة لها، كما يرد في استعراض دوغلاس دانيال للمريخيين ["أسوشييتد بريس" - 26 أغسطس (آب) 2025] الذي يبدأ بأن "فكرة وجود حياة على كواكب أخرى تحتل فلك الخيال العام منذ إدراك الإنسان أن الأرض ليست الكوكب الوحيد في النظام الشمسي. وقد أتاحت تطورات التلسكوبات - مثلما يوضح بارون - رؤى ثاقبة للأفق الفضائي أدت إلى نظريات جامحة حول الحياة خارج الأرض، بل وحول وجود حضارة هناك، وما ذلك كله إلا نتيجة خطأ بريء في الترجمة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"فقد حدث في وقت لاحظ كثير من علماء الفلك في القرن الـ19 وجود البقع الضخمة المختلفة الألوان والدرجات على أقرب جيراننا السماويين، أن نشر الإيطالي جيوفاني سكياباريلي خريطة لها. وبإسقاطه خصائص كوكب الأرض، ربط بين مناطق المريخ الشاسعة الأشد دكنة - التي يعتقد أنها محيطات - بخطوط نحيلة رفيعة سماها (كنالي)، وهي كلمة إيطالية تعني (القنوات). وانتقل ذلك خطأ إلى الإنجليزية ليفهم منه وجود (قنوات اصطناعية على المريخ الأحمر)، حسب عنوان (تايمز أوف لندن) عام 1882".

"وابتداء بذلك، يحكي لنا بارون قصة آسرة لأعظم قوى الإنسانية، أي قوة الحكي، إذ أطلقت العنان لملاحظات علمية واهية وتكهنات غير ناضجة وقشرة منطقية هشة تغلف خيالاً جامحاً. كانت التجارب الغامضة والرياضيات المعقدة - يا للملل! - قد كشفت أسرار الذرة، أما "هوس المريخ" فاستولى على الثقافة الشعبية بسردية مثيرة ومفهومة، ففي ضوء أن تلك القنوات لم تشق نفسها بنفسها، أيكون من شقها قوم أمثالنا؟".

 

"لم يقع أحد في أسر ذلك السحر مثلما وقع فيه رجل برهمي من بوسطن، مسلح بثروة طائلة، يدعى برسيفال لويل. ففي أعقاب فترة عمل دبلوماسي مميزة في الشرق الأقصى، انكب لويل على الجدل المريخي الوليد في مطلع تسعينيات القرن الـ18، وأفنى حياته وثروته في دراسة الكوكب القريب، فسافر وهو في الـ39 من العمر إلى فلاغستاف بأرض أريزونا - حيث كان الارتفاع والمناخ الجاف يحسنان من أداء التلسكوبات في المرصد الذي قام بتمويله وحمل اسمه - لينفق هناك ليالي لا حصر لها مراقباً الأفلاك".

مسلحاً بكميات ضخمة من السردين الفرنسي وجبن الركفور اللذين شحن منهما لويل كميات ضخمة من لوس أنجليس إلى مرصده في فلاغستاف، بذل "لويل على مدى الأعوام التالية من الجهد ما لم يبذله غيره في جمع ما زعم أنه أدلة بصرية على وجود هندسة في المريخ. وعلى رغم كونه عالماً هاوياً، فقد استعمل معرفته الواسعة التي حصلها في جامعة (هارفرد) لتأليف كتب قوبلت باستحسان كبير وإلقاء محاضرات بيعت جميع تذاكرها، مستغلاً ذلك في توسيع القبول بنظرية القنوات الاصطناعية وما فتحته من احتمالات. وقد رفض غالب علماء الفلك المتخصصين المرموقين التكهنات المحيطة بالبقع الداكنة، ولم يتصوروا أن فيها مياهاً، سواء استعارياً أو فعلياً. وفي حين اعترف العلماء بنقص البيانات المضمونة، أكد لويل أن (الخيال هو روح العلم)".

يعلق دوغلاس كيه دانيال على ذلك بقوله إن "الخيال هو روح الأدب أيضاً، حتى لو اقتصر هنا على أدب الخيال العلمي. ففي حين تخيل كثر مجتمعاً مريخياً قوياً يتمسك بالحياة من خلال مشاريع أشغال عمومية هائلة، تصور الكاتب أتش جي ويلز الفضائيين (ذوي عقول واسعة باردة قاسية، تنظر إلى كوكب الأرض بعيون الطمع)، وفي رائعته الصادرة عام 1897 بعنوان (حرب العوالم) جاء بأهل المريخ عبر الفضاء إلى حيه اللندني وتخيلهم في بهجة وهم (يقتلون جيراني قتلاً أليماً وغريباً)".

لم يشطح لويل إلى مثل ذلك، لكنه ظل يصدق عينيه في مواجهة إصرار الراسخين في العلم على الحاجة إلى أدلة ملموسة، فظل يقول إن "نظرة دقيقة بالتلسكوب إلى المريخ تكشف وجود حياة ذكية عليه"، وظل خاضعاً لتأثير ما يعرف بانحياز الإثبات، أي نزوع المرء إلى انتقاء ما يدعم ميوله من البيانات والإعراض عما عداها، وهكذا ظل لويل بحسب استعراض دينيس درابيل للكتاب ["واشنطن بوست" - 21 أغسطس (آب) 2025] "ينظر عبر تلسكوبه ويرى ما يتوقع أن يراه"، وظل يقطع بأن خرائط جيوفاني سكياباريلي "التي أذهلت الوسط الفلكي" لم تكتف برسم المناطق الداكنة والفاتحة التي رآها غيره على سطح المريخ - وكثيراً ما أشير إليها بوصفها محيطات وقارات - لكنه رسم أيضاً وفرة من المسارات الضيقة التي بدا أنها تربط بين البحار. امتدت هذه المسارات لمئات، بل لآلاف الأميال، بغير أية انحناءة، مستقيمة نحيلة إلى حد أنها بدت ذات هدف مقصود".

تحت وطأة التوقعات

غير أن لويل نفسه كانت لديه أسباب وجيهة لكي لا يصدق عينيه، ففي زمانه كانت تصعب رؤية المريخ، ومن أسباب ذلك، مثلما تكتب دينيس درابيل، أن الصورة نفسها كانت "مذبذبة ومشوشة"، ولا ترجع هذه المشكلة إلى التلسكوب وإنما إلى غلاف الأرض الجوي، إذ اعترف لويل بأن "النظر إلى القنوات بأداة ضخمة في هواء رديء أشبه بمحاولة قراءة صفحة حسنة الطباعة لكنها لا تكف عن الرقص أمام عينيك".

تكتب درابيل أن "قنوات المريخ اختفت مع امتلاك علماء آخرين تلسكوبات أقوى، فأكد الفلكي يوجين ميشيل أنطونيادي عام 1909 أن المظهر الحقيقي للمريخ مظهر طبيعي، مضيفاً أن الملاحظة الجيدة له تبين أنه ما من أثر مطلقاً لشبكة هندسية. ولم تضف البعثات التالية التي توجهت إلى المريخ كثيراً على ذلك التفنيد، على رغم أن بارون يتكهن بأن كوكب المريخ في طفولته ربما كان حاضنة لحياة".

يعزو بارون هذا الوهم الذي فرضه لويل على نفسه إلى العيش تحت "وطأة التوقعات التي ورثها لويل عن أسلافه المتحققين، وعن أبيه الذي كان يطالبه بكثير" مما أدى إلى إصابته بنوبات اكتئاب عدة. وتوشك ألكسندرا جاكوبس في مقالها عن الكتاب ["نيويورك تايمز" - 24 أغسطس 2025] أن تضيف إلى لويل مشكلات نفسية أخرى مستشهدة على ذلك بنزاع تسبب فيه داخل عائلته، حينما فسخ خطوبته بفتاة من عائلة السياسي الصاعد آنذاك تيودور روزفلت، وتضيف إلى نوبات الاكتئاب نوبات من فوران الطاقة لتقول إن لويل "ربما كان يعاني الاضطراب الثنائي القطب". ويعلم كل من تابع "نهاية العالم ليست غداً" كيف أن اتهامات مماثلة ملأت شيخوخة الأستاذ درديري بمرارة طغت حتى على ما كان يمنحه له جاره أستاذ الفلسفة من دعم نفسي.

 

على رغم بطولة لويل لكتاب بارون، لكن رفاقه فيه كثر، ومنهم مثلاً الاسم الشائع في كثير من نظريات المؤامرة، أي نيكولا تيسلا الذي كان يعتقد - على حد قول ألكسندرا جاكوبس - بأنه يتلقى إشارات كهربائية من المريخ، ولا غرابة في ذلك، فقد قال تيسلا لأحد صحافيي زمانه "إن لدي جهازاً أستطيع به أن أتلقى بدقة أية إشارة قد تأتي إلى هذا العالم من المريخ".

في "حرب العوالم" لجي أتش ويلز، كانت الطبيعة ممثلة في ميكروباتها هي التي قضت على المريخيين، أما في كتاب بارون - على حد قول دوغلاس كيه دانيال - كانت الطبيعة الإنسانية هي التي أوجدت المريخيين، ثم جاء العلم فأتاح مشاهدات أفضل وأدق للكوكب الأحمر، فـ"احتشد المجتمع العلمي في نهاية المطاف لإقناع الجمهور بأن الهياكل المستقيمة التي كان يدافع عنها لويل لم تكن أكثر من أوهام بصرية".

"بنيات طيبة، أدرك سكياباريلي ولويل وتلاميذهما، بصورة لا شعورية، أن المريخ أقرب إلى اختبار روشرباخ كوكبي فلحقوا بأسلافهم القدامى ممن دأبوا على الربط بين النجوم في سماء الليل لتكوين مجموعات نجمية تغص بالأساطير. وحينما قامت سفينة (مارينر 9) الفضائية الأميركية عام 1971 بتصوير أولى اللقطات القريبة للمريخ ثبت غياب القنوات، وكتب كاتب الخيال العلمي سي كلارك: مهما يكن ما يمكننا قوله عن قدرات لويل على الرصد، فلا يمكننا إنكار قدراته الدعائية".

"يقبض بارون في (المريخيين) على اللحظة الزمنية دونما سخرية من الافتقار إلى الحساسيات الحديثة. ويترك للقارئ غالب فرص رصد التماثلات بين تصورات الماضي ونظريات المؤامرة الشائعة بيننا، وينطلق في حكمه على لويل، مركزاً على البحوث الكثيرة والباحثين الكثر الذين ألهمهم لويل. فقد زعم الكاتب راي برادبري أنه (لا يكاد يوجد عالم أو فلكي ممن التقيتهم إلا ويدين لرومنتيكي سبقه وهداه إلى ما فعله في حياته)، فالأفكار كما قال لويل نفسه (معدية شأن الحمى)".

يطمئن كريس فوغنار ["لوس أنجليس تايمز" - 22 أغسطس 2025] كل المعلقة قلوبهم بالمريخ، وبالأمل الموعود أو الذي يمنون به أنفسهم في الفضاء، بأن بارون لا يأتي بكتابه هذه ليهيل التراب على هوس المريخ، وإنما "ليبحث في أسباب اختيارنا لما نختار الإيمان به. فلويل الذي عاندته حياته العاطفية ونبذته عائلته، وجد في المريخ شغفه وسبب وجوده، فالمريخ بحسب ما يقول بارون (منحه الهدف من الحياة، وأمده بالوسيلة اللازمة لتحقيق نجاح يليق بمن له مثل نسبه). لقد كان المؤمنون بالمريخ حالمين ومنبوذين، وكان لكل منهم ما يريد إثباته (فضلاً عن الناشرين الذين كان لدى كل منهم ورق يريد أن يبيعه)، وفي خضم تلك الضجة كثيراً ما كان المنهج العلمي يتهاوى. فقد قال أحد معارف لويل إن الأخير دأب على "الوثب على فكرة عامة أو نظرية"، ثم إنه كان بعد ذلك "ينتقي الحقائق ويلوي أعناقها ليدعم تعميمه"، ولا غرابة في أن وجه لويل نصيحة لأحد مساعديه فقال "من الأفضل ألا تعترف بارتكابك خطأ أبداً"، أو قوله لاحقاً حينما كان يسعى وراء دليل فوتوغرافي يثبت وجود قنوات الري "لا بد من أن نوفر بعض القنوات للمشككين".

سكان الكوكب الأحمر

غير أن هذا كله لا ينبغي - في ما يرى كريس فوغنار - أن يهون من شأن أحلام استكشاف الفضاء، ففي نهاية المطاف لم يتخيل أحد أن نسير فعلياً على القمر. لقد خلص كارل ساغان الكاتب العلمي الشهير وعضو فريق "مارينر 9" الذي التقط صوراً أخاذة للمريخ عام 1971 إلى أن قنوات المريخ المزعومة - كما وصفها بارون - "محض أوهام، ومزيج من المفاهيم الخاطئة الناجمة عن التشوهات الجوية والعين البشرية المعرضة للخطأ والخيال الجامح لرجل واحد"، لكن الخيال مثلما أضاف ساغان له قيمة في ذاته، "فحتى لو ثبت خطأ استنتاجات لويل المريخية، بما فيها قنواته الخرافية، فإن صورة الكوكب التي رسمها تمتاز في الأقل بهذه الفضيلة، وهي أنها أثارت خيال أجيال من ذوي الأعوام الثمانية، وأنا منهم، فآمنوا أن استكشاف الكواكب أمر محتمل حقاً، وتساءلوا كيف يمكنهم الذهاب شخصياً إلى المريخ".

لا تشير كلمة "المريخيين" في عنوان الكتاب إلى سكان في الكوكب الأحمر حقاً، فالعلم أثبت أنه ما من مريخيين على المريخ مطلقاً، لكن ما يثبته كتاب بارون هو أن المريخيين موجودون هنا على الأرض، منهم الحالمون، ومنهم العلماء الراسخون. منهم لويل وويلز، ومنهم ساغان وبارون، ومنهم ملايين من أطفال العالم يرفعون إلى السماء عيوناً تمتلئ حيناً بالخرافات وحيناً بالحقائق، ودائماً بالأمل.

العنوان: THE MARTIANS: The True Story of an Alien Craze that Captured Turn-of-the-Century America

تأليف: David Baron 

الناشر: Liveright 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة